من يوم العائلة الإنجيلية بمؤتمر الجمعية العمومية لمجلس كنائس الشرق الأوسط
"أنا هو لا تخافوا"
كلمة الدكتور القس أندريه زكي رئيس الطائفة الإنجيلية من فعاليات اليوم الثاني للجمعية العمومية لمجلس كنائس الشرق الأوسط:
"أصحاب القداسة والغبطة والنيافة والسيادة
حضرات القسوس
السيدات والسادة والحضور
نعمةٌ لكم وسلام ومحبة في اسم ربنا يسوع المسيح
بدايةً أعرب عن سعادتي بهذا اللقاء، لقاء الجمعية العامة لمجلس كنائس الشرق الأوسط، والذي تستضيفه بلادُنا الحبيبة مصر، كما أتوجه بالشكر للدكتور ميشال عَبس، الأمين العام لمجلس كنائس الشرق الأوسط، على دعوتي لتقديم هذه الدراسة.
ونتأمل اليوم في واحد من أجمل المواقف التي سجلتها الأناجيل، معجزة المشي على الماء، وما تحويه من معانٍ لاهوتيةٍ عظيمةٍ وعميقةٍ، ورسائل حياتية نافعة لكل زمان ومكان.
ونقرأ من إنجيل متى الإصحاح الرابع عشر:
"وَلِلْوَقْتِ أَلْزَمَ يَسُوعُ تَلاَمِيذَهُ أَنْ يَدْخُلُوا السَّفِينَةَ وَيَسْبِقُوهُ إِلَى الْعَبْرِ حَتَّى يَصْرِفَ الْجُمُوعَ. وَبَعْدَمَا صَرَفَ الْجُمُوعَ صَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ مُنْفَرِدًا لِيُصَلِّيَ. وَلَمَّا صَارَ الْمَسَاءُ كَانَ هُنَاكَ وَحْدَهُ. وَأَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ قَدْ صَارَتْ فِي وَسْطِ الْبَحْرِ مُعَذَّبَةً مِنَ الأَمْوَاجِ. لأَنَّ الرِّيحَ كَانَتْ مُضَادَّةً. وَفِي الْهَزِيعِ الرَّابعِ مِنَ اللَّيْلِ مَضَى إِلَيْهِمْ يَسُوعُ مَاشِيًا عَلَى الْبَحْرِ. فَلَمَّا أَبْصَرَهُ التَّلاَمِيذُ مَاشِيًا عَلَى الْبَحْرِ اضْطَرَبُوا قَائِلِينَ: «إِنَّهُ خَيَالٌ». وَمِنَ الْخَوْفِ صَرَخُوا! فَلِلْوَقْتِ كَلَّمَهُمْ يَسُوعُ قِائِلاً: «تَشَجَّعُوا! أَنَا هُوَ. لاَ تَخَافُوا» فَأَجَابَهُ بُطْرُسُ وَقَالَ: «يَا سَيِّدُ، إِنْ كُنْتَ أَنْتَ هُوَ، فَمُرْني أَنْ آتِيَ إِلَيْكَ عَلَى الْمَاءِ». فَقَالَ: «تَعَالَ». فَنَزَلَ بُطْرُسُ مِنَ السَّفِينَةِ وَمَشَى عَلَى الْمَاءِ لِيَأْتِيَ إِلَى يَسُوعَ. وَلكِنْ لَمَّا رَأَى الرِّيحَ شَدِيدَةً خَافَ. وَإِذِ ابْتَدَأَ يَغْرَقُ، صَرَخَ قِائِلاً: «يَارَبُّ، نَجِّنِي!». فَفِي الْحَالِ مَدَّ يَسُوعُ يَدَهُ وَأَمْسَكَ بِهِ وَقَالَ لَهُ: «يَا قَلِيلَ الإِيمَانِ، لِمَاذَا شَكَكْتَ؟» وَلَمَّا دَخَلاَ السَّفِينَةَ سَكَنَتِ الرِّيحُ. وَالَّذِينَ فِي السَّفِينَةِ جَاءُوا وَسَجَدُوا لَهُ قَائِلِينَ: «بِالْحَقِيقَةِ أَنْتَ ابْنُ اللهِ!»" (مت 14: 22- 32).
يرد هذا المشهد المعجزي بعد مشهد معجزي آخر هو إشباع آلاف من البشر من خمس خبزات وسمكتين، وهو يسبق أيضًا مشاهد معجزية أخرى سجلها لنا البشير متى وشملت معجزات شفاء للمرضى، لدرجة أنه يصف الموقف في ختام هذا الإصحاح قائلًا إن جَمِيع الَّذِينَ لَمَسُوهُ نَالُوا الشِّفَاءَ. ويتخلل هذه المشاهد المعجزية الثلاثة، صلاة السيد المسيح منفردًا، وإعلان التلاميذ وسجودهم للرب يسوع معلنين: "بِالْحَقِيقَةِ أَنْتَ ابْنُ اللهِ". لذا فإن كلمات السيد المسيح: "أنا هو لا تخافوا"، تأتي مرتبطةً ارتباطًا تامًّا بهذه المشاهد الثلاثة.
هذه المشاهد المعجزية ذات دلالة مسيانية، تعكس دور المسيح المخلص والمنقذ حتى في أعتى الظروف وأقساها، وقد أكدت أيضًا جماهيرية السيد المسيح، وهي تعكس روح التجربة على الجبل، فإن كان قد رفض تحويل الحجارة إلى خبز رغم استطاعته فعل هذا، بارك في الخمس الخبزات والسمكتين وأطعم الآلاف ممن تواجدوا ليسمعوا كلماته. ثم جاء ماشيًا على الماء في وقت كانت العاصفة تكاد تفتك بتلاميذه في السفينة، وهو ما يؤكد قدرته وسلطانه الكامل على عناصر الطبيعة.
ويبدأ المشهد بعناصر شبيهة بما يرد في معجزة إسكات العاصفة في إنجيل متى الإصحاح الثامن، مع الفرق أن السيد المسيح لم يرافقهم في السفينة منذ البداية. يصلي السيد المسيح في الليل على انفراد، راسمًا قدوةً أساسية لنا جميعًا. وهو يعلمنا أن أي دعوة أو أية إرسالية أو أي فعل عظيم لا بد أن يبدأ من مخدع الصلاة.
"أنا هو".. التعرف على كينونة الله وهويته:
استخدم السيد المسيح تعبير "أنا هو" مرارًا كثيرةً وفي مناسبات مختلفة، وهو تعبير يحمل دلالات لاهوتية تشير إلى اسم الله الذي عرف الله به نفسه لموسى في سفر الخروج الإصحاح الثالث العدد 14: " 14 فَقَالَ اللهُ لِمُوسَى: «أَهْيَهِ الَّذِي أَهْيَهْ»، وهو يستخدم فعل الكينونة "هَيَاه" في اللغة العبرية، وهي تتشارك في الجذر مع الاسم "يهوه"، والتعبير يشمل فعل الكينونة "أنا هو الكائن"، وهو ما يفسر لنا لماذا اعتبر رئيس الكهنة هذا التعبير نوعًا من التجديف في إنجيل مرقس الإصحاح الرابع عشر، في محاكمة يسوع قبل صلبه: "فَقَالَ يَسُوعُ: «أَنَا هُوَ. وَسَوْفَ تُبْصِرُونَ ابْنَ الإِنْسَانِ جَالِسًا عَنْ يَمِينِ الْقُوَّةِ، وَآتِيًا فِي سَحَابِ السَّمَاءِ». فَمَزَّقَ رَئِيسُ الْكَهَنَةِ ثِيَابَهُ وَقَالَ: «مَا حَاجَتُنَا بَعْدُ إِلَى شُهُودٍ؟ قَدْ سَمِعْتُمُ التَّجَادِيفَ! مَا رَأْيُكُمْ؟" وقيام رئيس الكهنة بتمزيق ثيابه، وفقًا للعديد من التفسيرات، حركة طقسية معروفة تدل على رفض التجديف أو رفض أمر جلل، وهناك إشارات في كل الكتاب المقدس، ومنها مثلًا ما ورد في سفر الملوك الثاني الإصحاح السادس، عندما مزق ملك إسرائيل ثيابه بعد سماعه حديث امرأتين عن أكل أبنائهما إثر مجاعة شديدة ضربت السامرة جراء الحصار.
لذا في هذا المشهد، يعلن السيد المسيح، إضافة إلى سلطانه غير المحدود على الطبيعة، أنه هو نفس الإله "يهوه" الذي كلم موسى في العهد القديم، والذي أخرج شعبه من أرض مصر بعجائب، وصنع معجزة أكبر بعبورهم البحر، هو نفس الإله الذي تواضع وتجسد، وعاش على الأرض وصنع عجائب ومعجزات، وصُلب على الصليب وقام ممجَّدًا. وهو نفس التعبير الذي استخدمه في ظهوره لتلاميذه بعد القيامة في إنجيل لوقا الإصحاح 24: "انْظُرُوا يَدَيَّ وَرِجْلَيَّ: إِنِّي أَنَا هُوَ! جُسُّونِي وَانْظُرُوا".
قصد السيد المسيح في هذا المشهد المضطرب وأمام عاصفةٍ هوجاء تكاد تودي بحياة جميع من كانوا بالسفينة، وفي حضوره في الهزيع الرابع، أن يؤكد على سلطانه بإعلان واضح عن هويته وكينونته الإلهية، ليمنح الثقة والسلام ويؤكد أن الأمور لن تخرج عن سلطانه مهما حدث.
وفي تسجيل معجزة إشباع الجموع، ومعجزة المشي على الماء، في هذا الإصحاح، وكذلك في تسجيل معجزات أخرى مثل تهدئة العاصفة في إنجيل مرقس الإصحاح الرابع، وفي معجزة إقامة الأموات وبالأخص إقامة لعازر... كل هذه المعجزات تثبت سلطان السيد المسيح على المادة وعلى الطبيعة، ورسالة واضحة بأن كل الأمور في يده، فهو الله الخالق، صاحب السلطان.
"لا تخافوا".. وصية وإرسالية
تعذب التلاميذ وتمنوا لو كان السيد المسيح موجودًا معهم ليسكِّن البحر، لكنه انتظر إلى الهزيع الرابع، وهي آخر مرحلة من ساعات الليل، ليقوي إيمانهم وصبرهم وانتظارهم، لكنه في النهاية ظهر لهم بطريقة لم يتوقعوها، فهم يعرفون هيئته ومشيته، لكن كيف يمشي على الماء. ظنوه خيالًا فخافوا وصرخوا لولا صوته الذي أعاد لهم الطمأنينة والسلام: "تشجعوا أنا هو لا تخافوا".
يرتبط حضور الله بالسلام والتغلب على المخاوف، وهنا حينما أعلن السيد المسيح عن سلطانه وهويته، طمأن تلاميذه الخائفين في القارب من الغرق والموت. التعرف على الله هو مصدر الطمأنينة والسلام. وفي مناسبات عديدة نجد السيد المسيح يمنح السلام لتلاميذه المضطربين؛ فيروي لنا إنجيل يوحنا الإصحاح العشرون، كيف ظهر السيد المسيح للتلاميذ بعد قيامته لانتشالهم من روح الاضطراب والخوف، إذ يقول: "سَلاَمٌ لَكُمْ! كَمَا أَرْسَلَنِي الآبُ أُرْسِلُكُمْ أَنَا".
وإذ يجتاز عالمنا اليوم ظروفًا قاسيةً من حروب وأوبئة وأزمات اقتصادية، فإننا مكلَّفون ليس فقط بالثقة في الله وقدرته وسلطانه، لكن أن نطمئن الآخرين أيضًا، فكلمة "لا تخافوا" ليست فقط وصيةً من الله لكنها أيضًا تحمل إرسالية ومسؤولية كبيرة علينا.
إن رسالتنا هي رسالة السلام وسط التحديات؛ فإن كان الموت هو أكثر ما يخيف الإنسان، فالمسيح انتصر عليه وعلى كل ما يخيف الإنسان ويهدده، وإن كان لا أحد يستطيع أن يسيطر على الطبيعة، فالسيد المسيح مشى على الماء وهدَّأ البحر. لهذا نتذكر دائمًا أن الله موجود ويرى، ويشعر بنا وبتحدياتنا، ويأتي وسط الأبواب المغلقة، وسط الخوف، ويأتي وسط العاصفة الشديدة التي نشعر أن لا مهرب منها، ويأتي حين نشعر أن الأمور قد خرجت بالكامل عن السيطرة، يأتي ليؤكد قدرته وسلطانه، ويمنحنا السلام والطمأنينة.
لدينا اليوم إرسالية وتكليف، كل في موقعه، لنشر هذا السلام والدعوة إليه، أن نذهب لكل من يعيش خلف أبواب مغلَّقة، لكل من يعاني وسط اضطراب أو عاصفة، من الخوف والقلق، من الفقر والعوز والشك ونحمل رسالة السلام بكل أشكاله لتغيير واقع الإنسانية من حولنا. يدعونا السيد المسيح ككنيسة أن ننطلق للعالم ونحمل همومه ونشاركه اضطراباته ونجعل السلام رسالة فعلية وسط العالم المضطرب.
ما بين الإيمان والشك
عندما سمع بطرس صوت السيد المسيح قال له: "إن كنت أنت هو فمُرني أن آتي إليك على الماء"، وقد يختلط الفهم هنا أحيانًا لأن أسلوب بطرس يبدو وكأنه يجرب الرب، وفي المواقف المختلفة للسيد المسيح نجده لم يخضع لطلب صنع المعجزة لتجربته، مثلما طلب منه الكتبة والفريسيون مرارًا ولم يستجب. لكن السيد المسيح -وهو الله الذي يعلم ما بداخل القلوب- كان يدرك شخصية بطرس جيدًا، كان يدرك أن شخصية بطرس متسرعة بعض الشيء لكن قلبه نقيٌّ، لم يكن سؤال بطرس لطلب العلامة، لكن لتأكيد المسيانية. كان بطرس متحمسًا تجاه ملاقاة السيد حتى يشعر بالسلام والطمأنينة، شهد الموقف مبادرة من بطرس للمشي على الماء، مؤمنًا أنه يستطيع أن يفعل مثل سيده، معترفًا بسلطان المسيح ليس لكي يمشي هو فقط على الماء، بل أن يجعل آخرين أيضًا يمشون على الماء. لم يتحرك بطرس دون إجابة السيد، مبادرة ودعوة، إرادة الله عملٌ ديناميكي؛ فالإنسان يسعى ويطلب بإيمان، والله يستجيب ويدعو وفقًا لمشيئته الصالحة. فهل نتعلم اليوم من مبادرة بطرس، لاتخاذ مبادرات جديدة وغير تقليدية تجاه خدمتنا ورسالتنا.
علم الرب يسوع أن بطرس لا يجربه، لذلك قال له: "تعالَ"، فنزل بطرس وسار على الماء وهو ينظر إلى السيد المسيح، لكنه عندما نظر حوله ليرى الأمواج ونظر تحته فوجد الماء، ابتدأ يغرق.
إن مخاوفنا وشكوكنا الداخلية هي علة الخطر علينا، والإيمان طريقنا إلى القوة والنجاة. يرتبط الإيمان بالتصديق والتسليم، وتثبيت عيوننا على الله، وبهذه القدرة عينها نستطيع أن نجتاز كل التحديات والأمواج والعواصف.
في أحيانٍ كثيرة يكون لدينا تاريخ من التعامل مع قدرة الله وسلطانه ومعونته، وتكسرنا بعض الظروف والمواقف. أوصانا السيد المسيح أن نتعامل مع شكوكنا ومخاوفنا. فلقد وبخ التلاميذ في إسكات العاصفة: "مَا بَالُكُمْ خَائِفِينَ يَا قَلِيلِي الإِيمَانِ؟" وهكذا وبخ بطرس: "يَا قَلِيلَ الإِيمَانِ، لِمَاذَا شَكَكْتَ؟".
طلب بطرسُ المعونة عندما اهتزت مبادرة الإيمان القوية التي كانت لديه، لكنه تعلم الدرس ولم يسقط في براثن الفشل. كلُّنا معرضون للسقوط والاهتزاز، وهذا يتطلب منا أن نهدأ قليلًا لنفكر ونتعلم من مواطن ضعفنا الإنساني. طلب المساعدة قد يعني تعديل في الرؤية والاستراتيجية والدور.
أقامه السيد المسيح وأمسك بيده لينقذه، فهو لا يشاء أن يتركنا فريسةً لضعف الإيمان والشك. تعامل السيد المسيح مع شخصية بطرس بحكمة بالغة، قاد السيدُ المسيح بطرسَ من صياد للسمك إلى صياد للناس، من مندفع وخائف إلى مجاهرٍ بالإيمان وشاهدٍ أمام الآلاف من الأشخاص بلا خوف في يوم الخمسين (أعمال الرسل 2: 14). يا لها من قوةٍ مغيرة!
تعامل السيد المسيح تعاملًا تدريجيًّا مع عيوب شخصية بطرس، إلى أن قاده في رحلة التغيير، لا يستطيع الإنسان أن يتغير فجأة، ولا يستطيع إنسان مهما بلغ من عظمة أن يغير في الآخرين تغييرًا صادمًا. تلامس السيد المسيح مع نقاط الضعف في شخصية بطرس ليحولها إلى نقاط قوةٍ وتأثير. لم يوجه السيد المسيح لبطرس لومًا قاسيًا على نقائصه وقراراته الخاطئة، إنما استرده بالمحبة. كما استرد فيما بعد توما الذي لم يكن حاضرًا عند ظهور المسيح لتلاميذه بعد القيامة، مشددًا على ضرورة رؤيته بنفسه، فما كان من السيد المسيح إلا أن ظهر والأبواب مغلَّقة، وقال لتوما: "طُوبَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَرَوْا" (يوحنا 20: 29).
بالمحبة والحكمة استطاع السيد المسيح أن يغير شخصية بطرس من التخبط والتهور. بالمحبة والحكمة تعامل السيد المسيح مع شكوك توما، معطيًا إياه قاعدةً إيمانيةً خالدة. المحبة والحكمة قادرتان على صنع المعجزات. والتاريخ يمتلئ بكثيرين استطاعوا تغيير حياة الناس بفضل المحبة والحكمة التي استلهموها من شخصية السيد المسيح.
الخروج من القارب مخاطرة
إذن كان قرار الخروج من القارب بالنسبة لبطرس مخاطرة. والمخاطرة ليست أمرًا خاطئًا أو سلبيًّا ما دامت محسوبةً. إن الاستقرار في منطقة راحة دون التفكير في أفاق جديدة وأبعاد مختلفة هو الخطر بعينه، في حين أن اتخاذ خطوات جريئة هو أمر مطلوب. لكنه يتطلب حساب النفقة، وقد امتدح السيد المسيح من يحسب النفقة جيدًا ممثلًا في الإنسان الحكيم الذي بنى بيته على الصخر، فقد حسب النفقة جيدًا وفهم الظروف المحيطة واتخذ قرارًا سليمًا. وفي موضع آخر يقول: "مَنْ مِنْكُمْ وَهُوَ يُرِيدُ أَنْ يَبْنِيَ بُرْجًا لاَ يَجْلِسُ أَوَّلاً وَيَحْسِبُ النَّفَقَةَ، هَلْ عِنْدَهُ مَا يَلْزَمُ لِكَمَالِهِ؟" كان هذا القول في سياق حساب نفقة تبعية المسيح ذاته، فقد أكد لتلاميذه أن تبعيته ليست بالأمر السهل والمريح وبأنهم سيواجهون المتاعب وربما الموت لأجل اسمه. لذا أوصاهم بحساب النفقة أولًا. هذه هي المخاطرة المحسوبة. اتخذ بطرس هذه المخاطرة وطلب أن يمشي على الماء.
اتخاذ المخاطرة أيضًا يتطلب مرونة واستعدادًا للتعامل مع المتغيرات، فالتحديات التي تحيط بنا كثيرةٌ كما الأمواج والعاصفة التي كانت حول سفينة التلاميذ. قد تتطلب هذه المرونة تغيير التوجه وإعادة قراءة أفكارنا من جديد، واستعداد لتغيير الاتجاه، واستسلام كامل لعمل الله في تشكيلنا ورسم خبراتنا.
لقد اجتازت منطقتنا بأسرها خلال العقد الماضي مراحل خطرة تأثر بها مسيحيو الشرق بصفة خاصة، لكن كانت للكنيسة هذه المرونة للتعامل مع المخاطر والتحديات، وثقة في أن الرب سيأتي في قلب هذه التحديات ليغير من هذه المواقف التي كانت تبدو خارج السيطرة تمامًا.
الإرسالية بين التهور والدعوة
طالما نحن مدعوون لإرسالية السلام، والمحبة والحكمة، فلا بد أن نعرف أن ثمة فروقًا كبيرةً بين الدعوة والتهور. والكتاب المقدس من بدايته يعلن هذه الفكرة واضحة؛ ففي قصة الخلق، تتسم الدعوة بالإبداع؛ الله هو الخالق، والإنسان مخلوق على صورة الله. لكن الله أيضًا يعطي الإنسانَ دورًا في عملية الإبداع هذه: "فَدَعَا آدَمُ بِأَسْمَاءٍ جَمِيعَ الْبَهَائِمِ وَطُيُورَ السَّمَاءِ وَجَمِيعَ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ" هذه الشراكة تحمِّلنا مسؤوليةً تجاه الخليقة. بتسمية الموجودات يتحدد الهدف، وتتضح الهوية، فالإنسان هو من يجب أن يعطي الأشياء قيمتها ومعناها، وإن كانت الخطية قد أفسدت الأمر، وصار الإنسان يكتسب قيمته من الأشياء، فالتغيير الذي يريد الله أن يحدثه في قلوبنا أن نعطي -في المسيح- الأشياء قيمتها ومعناها.
عندما نعود لكلمة الله نجد أن هناك العديد من نماذج التهور كانت نتائجها كارثيةً، وبعض هذه النماذج يمكن تناولها كالتالي:
- في قصة السقوط، أراد الإنسان أن يستقل عن الله، أغوته الحيةُ فاستسلم لفكرة أن يصير مثل الله عارفًا الخير والشر، أغوته بعدم الاحتياج إلى الله لأنه سيكون مثله. تهور إنساني أدى إلى السقوط ومعاناة الإنسان مع نتائج الخطية وتبعاتها.
- في بناء برج بابل، سعى الإنسان أيضًا للاستقلال عن الله، "نبني مدينة وبرجًا رأسه للسماء ويكون لنا اسم"، تفكير مثير للشفقة، هذا الذي يظن أنه يمكن للإنسان أن يستقل عن الله أو لا يكون محتاجًا إليه. كل خدمة وكل دعوة تبعد عن الله وتسعى للاستقلال عنه هي نوع من التهور ولن تنجح.
- في عدة مواقف مع بطرس، نجد الهروب إلى الفشل، فنجده يتأرجح بين إعلان إيمانه بالمسيح عندما سأل المسيح تلاميذه: "وأنتم من تقولون إني أنا؟" فقال بطرس: "أَنْتَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ الْحَيِّ!". ثم بعدها مباشرة يرفض حديث السيد المسيح عن الصليب. يندفع لحظة القبض على يسوع ويقطع أذن عبد رئيس الكهنة، ثم ينكر أنه يعرف معلمه بعد ساعات معدودة. ييأس ويفكر في العودة للصيد مرة أخرى بعد صلب يسوع، لكن يسترده الرب فيما بعد بمحبة غامرة.
- في قصة سيمون الساحر، نجد تهور القوة، والسعي لاكتساب مكانة بطريقة غير نزيهة، وشراء المعجزة بالمال. بدا أنه قبل الإيمان لكن لم يعمل الإيمان في قلبه ولم يعمل هو بهذا الإيمان.
- في قصة حنانيا وسفيرة، نجد تهور المظهر، الذي قادهما إلى الكذب على روح الله، أرادا ركوب الموجة دون حساب النفقة، فكانت النتيجة هي الموت.
- في خلاف بولس وبرنابا ومرقس، نجد تهور الزعامة، كان برنابا هو القائد، وشارك مرقس مع بولس وبرنابا في الخدمة، ولسبب ما ترك مرقس بولس وبرنابا، وعندما انتقلت الزعامة إلى بولس رفض مشاركة مرقس لأنها تركهما سابقًا، تشاجر بولس وبرنابا وترك كل منهما الآخر، ولولا تشجيع برنابا لمرقس لكان تهور الزعامة سببًا في فقده، لكن يعود بولس فيصف مرقس بأنه "نافع لي وللخدمة"، بفضل التشجيع والبناء الذي قام به برنابا.
وعلى الجانب الآخر، نجد في كلمة الله نماذج مضيئة من الدعوة قادها الله لصنع عجائب وتغيير حياة كثيرين:
- في دعوة الله لنوح لبناء الفلك، كان هدف الله واضحًا ودعوته واضحة لإنقاذ العالم من الفساد والشر، واستخدم الله نوح لهذا الهدف. كلنا أدوات في يد الله القدير، وعلينا أن نخضع لقدرته في تشكيلنا وتغييرنا ليغير بنا العالم. بنى نوح الفلك على أرض يابسة وهو ما بدا لمعاصريه مدعاةً للسخرية وأمرًا غريبًا، هكذا دعوة الله أحيانًا قد تبدو بالنسبة لمنطقنا البشري غريبةً بعض الشيء.
- دعا الله إبراهيم ليخرج من أرضه وعشيرته إلى أرض لا يعرفها، وثق إبراهيم في الله وآمن به، فصار مثالًا ونموذجًا للإيمان والتسليم، ونموذجًا أيضًا للبركة والإثمار.
- دعا السيد المسيح تلاميذه، من مختلف المِهَن والفئات الاجتماعية والاقتصادية، تعامل مع أفكارهم وتوقعاتهم ومفاهيمهم المغلوطة، حتى استطاعوا بعد صعوده أن يغيروا العالم في سنوات قليلة.
- دعا الرب شاول الطرسوسي، الذي كان يضطهد كنيسة الله، استطاع أن يغير اتجاه حياته، لأنه رأى فيه إناءً مختارًا. يستطيع الله أن يرى أجمل ما فينا حتى ونحن في أشد لحظات حياتنا خطية وفسادًا.
الدعوة إعلان من الله لفرد أو لجماعة تتطلب منظومة متكاملة من الأفعال والأقوال، الدعوة شراكة بين الله والإنسان، ومسؤولية مشتركة، لنا دور ومسؤولية في دعوة الله لنا، يتمثل في تمييزنا لها، والتلامس مع تأثيرها في حياتنا وسلوكنا. الدعوة تتطلب حساب النفقة، فهي ليست قرارًا متهورًا عاطفيًّا بدون حكمة أو تمييز، بل خطوات مدروسة منظمة، صحيح أن الله يتعامل مع نقائصنا وتخبطنا وتهورنا في بعض الأحيان، لكن دورنا هو أن نخضع ليد الله لتشكلنا وفقًا لخطته. الدعوة أيضًا هي اتصال روحي مستمر مع الله. لقد انفرد السيد المسيح في الجبل للصلاة قبل هذا المشهد المعجزي الرهيب، وقبل أي حادثٍ آخر تسجل لنا الأناجيل أن الصلاة كانت نقطة الانطلاق. التواصل الروحي المستمر مع الله هو الضمان لتوجيهنا في دعوتنا وخدمتنا، وبدون هذا التواصل نفقد البوصلة والملء والحكمة، فيسيطر علينا الفشل.
إذن الدعوة والإرسالية الموضوعة علينا في بناء ملكوت الله، تتطلب منا أولًا تغيير أنفسنا، وفحص حياتنا في ضوء معايير الله النقية. دعوتنا وإرساليتنا هي خدمة الله والكنيسة والمجتمع، دورنا أن تكون الكنيسة كمثال المسيح تجول تصنع خيرًا. تطمئن المضطربين والخائفين من أمواج العالم العاصفة وتمنح السلام والطمأنينة.
ختام المشهد.. إعلان إيمان
لم تكن خدمة السيد المسيح سهلةً خالية من المتاعب والتحديات، فنحن أمام مشهد سياسي مضطرب عاشته أورشليم. سياسيًّا: هناك مستعمر قاسٍ مسيطر على كل مقاليد الأمور، اقتصاديًّا: تفشى الفقر في المجتمع نتيجة نهب ثروات هذا الشعب من قبل المستعمر، دينيًّا: سادت حالة من الفساد في المؤسسة الدينية اليهودية، فعُبد الحرف وضاعت روح الإيمان وفرض المتطرفون من الكتبة والفريسيين أفكارهم وازدواجيتهم الدينية على البسطاء، في حين تفرغت طوائف أخرى كالصدوقيين لحصد مكاسب السلطة، وسعت طوائف أخرى كالغيورين لممارسة العنف في محاولة لتغيير الوضع. وفي قلب هذا المشهد، تُرك الناس بلا رعاية، فوصفهم متى البشير في الإصحاح التاسع من إنجيله بأنهم: "كَانُوا مُنْزَعِجِينَ وَمُنْطَرِحِينَ كَغَنَمٍ لاَ رَاعِيَ لَهَا".
قدم السيد المسيح الرعاية لكل هؤلاء، شفى المرضى وجال يصنع خيرًا، قدم لهم الخبز الفعلي في إشباع الجموع، وقدم لهم أيضًا الخبز الروحي في تعليمه وتغييره للأفكار السائدة الخاطئة، رفض أن يستمد سلطته من الناس لأنه وحده كلي القدرة والسلطان على الطبيعة والموجودات جميعها.
في هذا المشهد المعجزي، نجده يبدأ بإعلان السيد المسيح عن هويته الإلهية، وبأنه هو نفسه الإله صانع العجائب وصاحب السلطان المطلق على كل الكون، يأمر البحر والطبيعة فتطيعه، وينتهي المشهد بدخول السيد المسيح إلى السفينة وهدوء الأمواج والعاصفة، فطالما أن الله في سفينتنا فهي آمنة، وطالما نحن على علاقة وتواصل معه لا نخشى من أي اضطراب أو عدم استقرار أو خوف، طالما ثبتنا أعيننا نحوه فنحن نستطيع أن نمشي فوق الأمواج والتحديات، حتى يمكننا أن نقول مع يهوشافاط عندما وقف أمام جماعة يهوذا وأورشليم في بيت الرب، مستنجدًا بالله أمام مخاطر عديدة من غزو وتدمير، قائلين: "نَحْنُ لاَ نَعْلَمُ مَاذَا نَعْمَلُ وَلكِنْ نَحْوَكَ أَعْيُنُنَا". نحن لا نعلم ماذا نعمل أمام التحديات لكن أعيننا مثبته نحو الله، نعم نبادر، نفكر، ندرس المشهد جيدًا، نفكر في حلول، لكن ما لم تكن أعيننا نحو الله لن نستطيع اجتيازه. في التعرف على هوية الله، نجد الطمأنينة من المخاوف، ننتقل من الشك إلى الإيمان واليقين، ندرك دعوتنا وإرساليتنا.
ينتهي المشهد أيضًا بسجود التلاميذ وإعلانهم إيمانهم: "بِالْحَقِيقَةِ أَنْتَ ابْنُ اللهِ!". يعلن الله عن ذاته وهويته فنؤمن، نحن نعلم بمن نؤمن، وعندما نعرف بمن نؤمن حق معرفة، نثبت ولا نخاف في مواجهة العواصف. قال بولس الرسول في رسالته الثانية إلى تيموثاوس: "لكِنَّنِي لَسْتُ أَخْجَلُ، لأَنَّنِي عَالِمٌ بِمَنْ آمَنْتُ، وَمُوقِنٌ أَنَّهُ قَادِرٌ أَنْ يَحْفَظَ وَدِيعَتِي إِلَى ذلِكَ الْيَوْمِ".
يُظهر هذا المشهد كيف يؤازرنا الله ويترفق بنا، ويتعامل مع أسئلتنا وشكوكنا، وتدل عاصفة البحيرة على ضعفنا وحاجتنا الملحة إلى الله، وإعلان سلطانه على حياتنا. في إقرارنا واعترافنا بقدرة الله وسلطانه تسليم لكافة التحديات أمامه واثقين أنه فوق الكل وقدير وقادر. إن كانت التحديات قد حجبت هويته عن أعيننا فلنجعلها فرصة لنقترب إليه ونراه بوضوح، ففي معرفتنا له إدراك لهويته وهويتنا فيه، حتى نستطيع أن نهتف مع بولس الرسول: "لأَعْرِفَهُ، وَقُوَّةَ قِيَامَتِهِ، وَشَرِكَةَ آلاَمِهِ، مُتَشَبِّهًا بِمَوْتِهِ".