رفقة بتوئيل
11/27/2023 12:00:00 AM
أراد إبراهيم ألا يختلط إسحاق ببنات الكنعانيين. بل يرتبط بزوجة من عشيرته. فما كان منه إلا أن أرسل لعازر الدمشقي كبير بيته إلى فدان أرام مدعومًا بالصلاة إلى الله أن يوفقه في هذا الأمر الهام جدًا. وقد كان. قاد الرب لعازر المطيع والمُصلي إلى حيث يجد الزوجة. وهذا ما يجب على كل إنسان يُقدم على الزواج أن يفكر جيدًا بمن يريد أن يرتبط. وما هي مواصفات الشخص الذي يجب الارتباط به في علاقة طول العمر.
إبراهيم يعلن لنا الشرط الأول والأساسي في هذا الأمر، بأن يكون الارتباط من العشيرة. أي من أهل الإيمان. وهذا ما يؤكده الرسول بولس فيقول:" لاَ تَكُونُوا تَحْتَ نِيرٍ مَعَ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ، لأَنَّهُ أَيَّةُ خِلْطَةٍ لِلْبِرِّ وَالإِثْمِ؟ وَأَيَّةُ شَرِكَةٍ لِلنُّورِ مَعَ الظُّلْمَةِ؟"(2كو6: 14).
وعلى هذا المبدأ سار لعازر الدمشقي. فنراه بعد أن عرف من هي الفتاة التي سقته واستقت لجماله. تهلل فرحًا إذ تيقن أن الله قاده إلى حيث ما يريد سيده إبراهيم. فالفتاة هي " رِفْقَةَ بِنْتَ بَتُوئِيلَ الأَرَامِيِّ، أُخْتَ لاَبَانَ الأَرَامِيِّ مِنْ فَدَّانِ أَرَامَ"(تك25: 20). عمرها عشرون عامًا تقريبًا، وهي عذراء جميلة وحسنة المنظر جدًا " وَكَانَتِ الْفَتَاةُ حَسَنَةَ الْمَنْظَرِ جِدًّا، وَعَذْرَاءَ لَمْ يَعْرِفْهَا رَجُلٌ"(تك24: 16). أي أنها من عشيرة إبراهيم، وهكذا بعد حديث مع الأسرة قالوا له:" فَأَجَابَ لاَبَانُ وَبَتُوئِيلُ وَقَالاَ:" مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ خَرَجَ الأَمْرُ. لاَ نَقْدِرُ أَنْ نُكَلِّمَكَ بِشَرّ أَوْ خَيْرٍ"(تك24: 50) لكن هناك أمر هام أيضًا وهو رأي الفتاة: "فَقَالُوا: نَدْعُو الْفَتَاةَ وَنَسْأَلُهَا شِفَاهًا. فَدَعَوْا رِفْقَةَ وَقَالُوا لَهَا: "هَلْ تَذْهَبِينَ مَعَ هذَا الرَّجُلِ؟ فَقَالَتْ: "أَذْهَبُ". (تك24: 57-58). بعد ذلك تم زواج إسحاق ورفقة " فَأَدْخَلَهَا إِسْحَاقُ خِبَاءِ سَارَةَ أُمِّهِ، وَأَخَذَ رِفْقَةَ فَصَارَتْ لَهُ زَوْجَةً وَأَحَبَّهَا. فَتَعَزَّى إِسْحَاقُ بَعْدَ مَوْتِ أُمِّه."(تك24: 67).
وهنا تقدم لنا عائلة بتوئيل ثاني شروط الزواج ألا هو القبول. ألم يكن في استطاعتهم وبعد أن عرفوا من هو الشاب الذي يطلب الزواج من ابنتهم أن يوافقوا دون الرجوع لرفقة. فأين يجدوا زوج بهذه المواصفات لأبنتهم، ولكن بسؤالهم لرفقة شفاهًا قد اعطوها حرية الاختيار. فالأمر يخص حياتها هي، وقبولها شرط أساسي أيضًا لإتمام الزواج. فليتعلم أهل القرن الحادي والعشرون الذين يجبرون بناتهم أو أولادهم على الزواج لأسباب يعرفونها هم دون موافقة (البنت أو الولد) وتكون الكوارث في البيوت.
عزيزي القارئ. لنا في حياة رفقة دروس عظيمة. يجب ان ننتبه إليها جيدُا. فبداية القصة والأحداث التي تخللتها تقود إلى نهايتها المختلفة تمامًا. رفقة معنى اسمها (رباط أو عقدة في حبل) ومن مضمون معنى الاسم أن الرباط يضم الأشياء معًا. فهل كانت هكذا؟
لنقترب منها لنتعرف على أسلوب حياتها وعند ذلك نرى:
1- نشاطها. فبرغم أنها فتاة جميلة ومن أسرة عريقة. إلا أنها تخدم أسرتها في تواضع وبساطة، وذلك باستقاء الماء من البئر، كما أن نشاطها مقرون بالخدمة العملية للأخرين، فعندما طلب منها لعازر الدمشقي أن تعطيه ليشرب. لم تنتهره لأنها لا تعرفه. بل قدمت له في اتضاع، ونظرت لاحتياج جماله أيضًا للماء، فاستقت للجمال في نشاط دون تذمر "وَلَمَّا فَرَغَتْ مِنْ سَقْيِهِ قَالَتْ:" أَسْتَقِي لِجِمَالِكَ أَيْضًا حَتَّى تَفْرَغَ مِنَ الشُّرْبِ"(تك24: 19). والرجل مندهش بما يصنع الله معه، وكيف يحقق طلبه تمامًا " عِنْدَمَا فَرَغَتِ الْجِمَالُ مِنَ الشُّرْبِ أَنَّ الرَّجُلَ أَخَذَ خِزَامَةَ ذَهَبٍ وَزْنُهَا نِصْفُ شَاقِلٍ وَسِوَارَيْنِ عَلَى يَدَيْهَا وَزْنُهُمَا عَشَرَةُ شَوَاقِلِ ذَهَبٍ"(تك24: 22). وهنا نرى مكافأة الخدمة غير المغرضة.
2- ثقتها. فهي فتاة واثقة في نفسها. ومطيعة لأهلها. فعندما سألوها عن أمر زواجها من إسحاق والذهاب إليه في أرض كنعان. لم تتردد بل وافقت؛ وهي لم تخف من الغربة، ومواجهة حياة مختلفة، في بلاد مختلفة. لثقتها بنفسها، وبعد سماع ما قاله لعازار عن خطة الله في لقاءهما. ايقنت أن الله دبر لحياتها ما هو صالح. " فَقَالُوا: نَدْعُو الْفَتَاةَ وَنَسْأَلُهَا شِفَاهًا. فَدَعَوْا رِفْقَةَ وَقَالُوا لَهَا: "هَلْ تَذْهَبِينَ مَعَ هذَا الرَّجُلِ؟ فَقَالَتْ: "أَذْهَبُ". (تك24: 57-58).
3- حياءها. جمالها لم يجعها متمردة على تقاليد العفة والاحتشام، فعندما رأت رجل في الحقل وعلمت أنه إسحاق. نزلت عن الجمل احترامًا وتقيرًا، كما أنها غطت وجهها ببرقعها في حياء وعفة. " وَرَفَعَتْ رِفْقَةُ عَيْنَيْهَا فَرَأَتْ إِسْحَاقَ فَنَزَلَتْ عَنِ الْجَمَلِ. وَقَالَتْ لِلْعَبْدِ:" مَنْ هذَا الرَّجُلُ الْمَاشِي فِي الْحَقْلِ لِلِقَائِنَا؟" فَقَالَ الْعَبْدُ: «هُوَ سَيِّدِي». فَأَخَذَتِ الْبُرْقُعَ وَتَغَطَّتْ "(تك24: 64-65). فجمال دون اخلاق لا يساوي شيء. فكلمة الله تقرر أن: "اَلْحُسْنُ غِشٌّ وَالْجَمَالُ بَاطِلٌ، أَمَّا الْمَرْأَةُ الْمُتَّقِيَةُ الرَّبَّ فَهِيَ تُمْدَحُ"(أم31: 30).
4- إيمانها. فعندما تزاحم الولدان في بطنها ذهبت لتسأل الرب، وهذا يدل على يقين إيمانها بما رتب الرب لها. فهم كأسرة قالوا للعازر الدمشقي عبد إبراهيم " فَأَجَابَ لاَبَانُ وَبَتُوئِيلُ وَقَالاَ:" مِنْ عِنْدِ الرَّبِّ خَرَجَ الأَمْرُ. لاَ نَقْدِرُ أَنْ نُكَلِّمَكَ بِشَرّ أَوْ خَيْرٍ"(تك24: 50). فهم يعبدون الله بخوف ومهابة، وهي قد عرفت خطة الله التي أعلنها لها: "فَقَالَ لَهَا الرَّبُّ:" فِي بَطْنِكِ أُمَّتَانِ، وَمِنْ أَحْشَائِكِ يَفْتَرِقُ شَعْبَانِ: شَعْبٌ يَقْوَى عَلَى شَعْبٍ، وَكَبِيرٌ يُسْتَعْبَدُ لِصَغِيرٍ"(تك25: 23).
هذا ما نراه رائع في حياة رفقة. فهل استمرت على نهج حياتها، أم تغيرت بحسب أهواء قلبها؟
وهذا ما نراه في تصرفاتها الآتية.
1- تحيزها. في محبتها كانت غير منصفة. فميزت يعقوب وارتبطت به على غير عيسو. وهنا بداية انقسام البيت. فإسحاق ارتبط بعيسو لأن في فمه صيد. ورفقة بيعقوب لأنه بيتوتي قريب منها باستمرار. " فَأَحَبَّ إِسْحَاقُ عِيسُوَ لأَنَّ فِي فَمِهِ صَيْدًا، وَأَمَّا رِفْقَةُ فَكَانَتْ تُحِبُّ يَعْقُوبَ."(تك25: 28). وبذلك لم تزرع الأم (رفقة) وكل أم على شاكلتها الحب بين الأخوين (أولادها). فكان استغلال الفرصة تلو الأخرى من الأخ لأخيه. بل البغضة المقيتة لبعضهما. وترقب الفرصة للانتقام.
2- ضعفها. رغم نشاطها وثقتها وأدب حياءها إلا أنها كامرأة ضعفت. ضعفت عندما تأخرت لعشرين سنة عن الأنجاب. وهذا كان سبب ضيق لها. بل بحسب مجتمعها عار عليها." وَصَلَّى إِسْحَاقُ إِلَى الرَّبِّ لأَجْلِ امْرَأَتِهِ لأَنَّهَا كَانَتْ عَاقِرًا، فَاسْتَجَابَ لَهُ الرَّبُّ، فَحَبِلَتْ رِفْقَةُ امْرَأَتُهُ"(تك25: 21)، وضعفت أيضًا من مضايقة زوجات عيسو بنات حث، وارتعبت من أن يقترن يعقوب بأحداهن فتكون نهاية حياتها " وَقَالَتْ رِفْقَةُ لإِسْحَاقَ:" مَلِلْتُ حَيَاتِي مِنْ أَجْلِ بَنَاتِ حِثَّ. إِنْ كَانَ يَعْقُوبُ يَأْخُذُ زَوْجَةً مِنْ بَنَاتِ حِثَّ مِثْلَ هؤُلاَءِ مِنْ بَنَاتِ الأَرْضِ، فَلِمَاذَا لِي حَيَاة"(تك27: 46).
3- خداعها. وهي صفة بغيضة في الإنسان عامة. فكم تكون قسوتها عندما تأتي من الزوجة. وهنا ظهر تناقض حياة رفقة. فعندما كبر إسحاق وضعف بصره ولم يعد يرَ. استهانت رفقه به وخدعته، وذلك بالتصنت على أحاديثه مع ابنه عيسو. كما أنها أجبرت ابنها المحبوب يعقوب على تنفيذ مشورتها. بان يسرق بركة ابيه بدلا من اخيه. وهي تطمئنه بأن لا يخاف من أبيه فأنه لا يراه، ولم تتنبه لشعور يعقوب بمهابة لأبيه. فمحبتها المتحيزة العمياء اسقطت كل قيم الاحترام داخلها." فَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ:" لَعْنَتُكَ عَلَيَّ يَا ابْنِي. اِسْمَعْ لِقَوْلِي فَقَطْ وَاذْهَبْ خُذْ لِي"(تك27: 13).
4- حصادها. النتيجة الحتمية للحياة غير المستقيمة. فتارة نقدم الأكرام والاحترام، وتارة أخرى نستخف ونخدع، فلابد من حصاد من نفس نوع الزرع. وهذا ما كان. خسرت رفقة أبنيها. فعيسو ترك حرية التصرف لزوجتيه مع أمه وأبيه بقسوة. " فَكَانَتَا مَرَارَةَ نَفْسٍ لإِسْحَاقَ وَرِفْقَةَ"(تك26: 35). ويعقوب هرب من وجه أخيه إلى فدان أرام، وماتت هي دون ان تراه.
فمشكلة رفقة أنها أرادت أن تحقق رغبتها في أن يعقوب هو المبارك [رغم أن هذا مُعلن لها من قِبَل الله]. فدبرت بحسب فكرها ما أضر بحياتها وفرق أسرتها، واذاقها عذاب الفراق وحسرة الندم. فينطبق عليها قول الرسول بولس: "أَهكَذَا أَنْتُمْ أَغْبِيَاءُ! أَبَعْدَمَا ابْتَدَأْتُمْ بِالرُّوحِ تُكَمَّلُونَ الآنَ بِالْجَسَدِ؟"(غل3:3).
ختامًا أقول: لم تكن رفقة تحمل معنى اسمها (الرباط) في صفاتها. فهي كانت سبب فرقة وتشتت لأسرتها. بل يصدق فيها القول إنها زرعت فحصدت. فهي: اولاً: زرعت كرم فحصدت نِعَم (هدايا العازر الدمشقي)، زرعت أكرام فحصدت محبة (تعزية وصلاة إسحاق لأجلها). ثانيًا: زرعت فرقة فحصدت مرارة (بنات حث)، زرعت خداع فحصدت وداع (فراق أبنها)
وهذا ما يعلنه الله في كلمته فالرسول بولس يقول:" لاَ تَضِلُّوا! اَللهُ لاَ يُشْمَخُ عَلَيْهِ. فَإِنَّ الَّذِي يَزْرَعُهُ الإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضًا"(غل6: 7). فليساعدنا الرب أن ينسك باستقامة في حياتنا الأرضية فنحصد الحياة الأبدية.