آراء و أقلام إنجيلية

العـذراء في الفكر الكتابى

  • بقلم: د.ق. ﭽورﭺ شاكر

ترصد لنا عدسة الوحي المقدس لؤلؤة خالدة في سجل تاريخ البشرية، ودرة فريدة في جبين الإنسانية، كان قلبها معقلاً للإيمان ، وحياتها قيثارة رائعة أرسلت أعذب الألحان ، لحن المحبة والعطاء ، لحن الشكر والوفاء ، لحن الوداعة والرجاء ، لحن الطهر والنقاء هي القديسة العذراء مريم.
هذا ويسطر الرسول بولس"ولكن لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة مولوداً تحت الناموس ليفتدي الذين تحت الناموس لننال التبني" (غلا4: 4و5).
والجدير بالذكر أن البعض من المفسرين قالوا أن التعبير "في ملء الزمان" لا يشير فقط إلى الوقت الذي تهيأ فيه العالم ثقافياً وسياسياً واجتماعياً لمجيء المسيح وتجسده على الأرض وانتشار رسالته، وإنما التعبير أيضاً يشير إلى الوقت الذي ظهرت فيه القديسة العذراء مريم معدة إعداداً إلهياً كاملاً لتلك المهمة العظمى.
وإلى مدينة من الجليل اسمها الناصرة ... إلى عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف ... حمل الملاك جبرائيل من الله أسمى رسالة طالما اشتاقت إليها النفوس، وانتظرت تحقيقها القلوب، وكان مضمون الرسالة: "سلام لك أيتها المنعم عليها ... الرب معك ... مباركة أنت في النساء ... ها أنت ستحبلين وتلدين ابناً وتسمينه يسوع. هذا يكون عظيماً وابن العلي يدعى ..."
وسألت العذراء: كيف يكون هذا؟ على أنه استفهام يخلو من الشك، وثقة بدون ارتياب، لم تساورها الشكوك لكنها أرادت المعرفة، لم ترفض الإعلان، لكنها تريد تزكية الإيمان ... كانت إجابة الملاك: الروح القدس يحل عليك و قوة ألعلي تظللك، فلذلك أيضاً القدوس المولود منك يدعى ابن الله، لأنه ليس شيء غير ممكن لدى الله، فقالت مريم: هوذا أنا أمة الرب ليكن لي كقولك (لو ص1).
وبالرغم من أنه لم يحدث في التاريخ البشري أن ولدت عذراء بغير رجل، إلا أننا نجد في إجابة العذراء مريم تجسم ثقتها التامة في قدرة الله، فهذا هو الميلاد المعجزي الذي إزدانت به المسيحية، فليس هو من زرع بشر لكنه الله الذي ظهر في الجسد. وهل يستحيل على الرب شيء؟!
والمتأمل في كلمة الله يرى ريشة الوحي المقدس وقد رسمت مجموعة من الصور بديعة الجمال للعذراء مريم منها:

أولاً : العذراء الفقيرة الغنية
يصور الوحي العذراء أنها فتاة فقيرة جداً، بل كانت تعيش تحت خط الفقر، وبرهان هذا:
أن خطيبها يوسف كان أيضاً رجلاً بسيطاً، فقيراً، يعمل بالنجارة، بالكاد يوفر لقمة العيش بعد مشقة وعناء.
كما أن ساعة ولادتها ليسوع، لم تجد له مكاناً تضعه فيه غير المذود البسيط، كما أنه فى ساعة تطهيرها، حسب شريعة موسى لم يكن لها ما تقدمه سوى تقدمة الفقراء (زوجي يمام أو فرخي حمام:لو2: 22-23)، حتى أن البعض من المفسرين قالوا: أن تقدمة المجوس هي التي سهلت لهم مهمة الهروب إلى مصر، وكانت المعينة لهم في تنقلاتهم وترحالهم بين بيت لحم، ومصر والناصرة وكفر ناحوم وأورشليم ، بالإضافة لكل هذا رأينا ساعة الصليب أوصى الرب يسوع عليها يوحنا لكي تعيش معه فمكتوب فى (يو19: 26، 27)" فلَمّا رأَى يَسوعُ أُمَّهُ، والتِّلميذَ الذي كانَ يُحِبُّهُ واقِفًا، قالَ لأُمِّهِ: "يا امرأةُ، هوذا ابنُكِ". ثُمَّ قالَ للتِّلميذِ:"هوذا أُمُّكَ". ومِنْ تِلكَ السّاعَةِ أخَذَها التِّلميذُ إلَى خاصَّتِهِ".
بالرغم من هذا كله كانت غنية في إيمانها وإتكالها وثقتها في الرب ، فلم نسمعها يوماً تشكو أو تتذمر أو تئن، بل كانت باستمرار في روح الشكر والرضى، صحيح كانت فقيرة وبسيطة، إلا أن هذا الأمر لم يشغلها لأن القدير هو العامل فيها وبها.
نعم! كم من أغنياء لكنهم فقراء، وكم من فقراء لكنهم أغنياء، ولعل هذا يعلمنا ويجعلنا نضع أمامنا القول الكتابي "التقوى مع القناعة تجارة عظيمة لأننا لم ندخل العالم بشيء، وواضح أننا لا نقدر أن نخرج منه بشيء، فان كان لنا قوت وكسوة فلنكتف بهما"(1تى6:6-8)
وكم كان الشاعر محقاً عندما قال:
النفس تأبـــى أن تعيش فقيرة والفقر خـير من غنى يضغيها
غنى النفوس عفافها فان هي أبت لوجمعت لها مـال الدنيا لا يكفيها
ثانياً : العذراء العفيفة الطاهرة
كانت تعيش في الناصرة – المدينة الشريرة الآثمة، حتى أن الناس كانوا يقولون: أمن الناصرة يمكن أن يكون شيء صالح؟! (يو1: 46)، وبالرغم من هذه الصورة السلبية القاتمة للناصرة، نجد أن القديسة العذراء مريم تعيش فيها، نموذجا يحتذى ويقتدى به في الطهر والنقاء لكل بنات جيلها، ولكل الأجيال على مر العصور.
ولعل في هذا درس لنا جميعاً وهو كيف نعيش في العالم، لكن العالم لا يعيش فينا؟!، كالسفينة في البحر، لكن المياه لا تدخل فيها، وإلا تغرق. كيف نعيش حياة مقدسة في عالم ملئ بكل أشكال وألوان الشرور، فنبرهن أننا أولاد الله في وسط جيل معوج وملتو (فى2: 15)؟!، ونعيش كأنوار وسط ظلمات الحياة، فنكون بحق نوراً للعالم.
ثالثاً : العذراء الوديعة المتواضعة
من السمات الواضحة لشخصية العذراء مريم صفة الوداعة والتواضع، لقد تحقق لها ما يمكن أن تطلق عليه كل فتاة "حلم الليل والنهار، أو حلم حياتي، فمكتوب "الرب يرفع الودعاء" (مز147: 6)، لقد جاءها الامتياز الذي حدث مرة واحدة، لا يتكرر في تاريخ البشرية، فانحنت في ذهول وتواضع ووداعة أمام الرب، وقالت: هوذا أنا أمة الرب0 ليكن لي كقولك" (لو1: 38)، وحين هتفت لها أليصابات قائلة بصوت عظيم "مباركة أنت في النساء ، ومباركة هي ثمرة بطنك، فمن أين لي هذا أن تأتي أم ربي إلي" (لو1: 42-43). تجيب مريم بكل تواضع وتقول "إنه نظر إلى اتضاع أمته" (لو1: 48).
من حياة العذراء نجد أبلغ رسالة للإنسان ليعيش وديعاً متواضعاً، وهذا ما علمه إيانا الرب يسوع عندما قال:" تعَلَّموا مِنِّي، لأنِّي وديعٌ ومُتَواضِعُ القَلبِ، فتجِدوا راحَةً لنُفوسِكُمْ. "(مت11: 29) وهذا ما يؤكده الوحي في كلمات الرسول بطرس (1بط5: 5-6) "وتسربلوا بالتواضع لأن الله يقاوم المستكبرين وأما المتواضعون فيعطيهم نعمة, فتواضعوا تحت يد الله القوية لكي يرفعكم في حينه".
رابعاً : العذراء الحكيمة المتزنة
كانت شخصية العذراء مريم شخصية عبقرية ناضجة ومتزنة وحكيمة، كانت تعرف متى تتكلم؟ ومتى تصمت؟ بل كانت تميل للصمت أكثر، وكان صمتها أبلغ من كل كلام، كانت من النوعيات التي تتركز عواطفهم لا في كلامهم، بل في أعماقهم ووجدانهم، كانت ترى وتتأمل في كل شيء متفكرة به في قلبها (لو2: 19).
لقد كانت العذراء مريم عميقة في كل شئ، في عاطفتها، في آمالها وفي آلامها، حتى ساعة الصليب لم نسمع منها صراخاً أو آهة، إنه ذلك الحزن العميق المستتر الذي يجعل صاحبه يلوذ بالصمت، ويجتر على انفراد كل ما يعاني من فقدان وحرمان وأحزان، بالطبع لم تكن عاجزة عن التعبير، لكن طبيعتها كانت قليلة الكلام، عميقة التفكير والتأمل، شخصية متزنة، كانت تعيش الفكرة الكتابية التي تقول "تفاح من ذهب في مصوغ من فضة كلمة مقوله في محلها" (ام25: 11).
خامساً : العذراء وضريبة الحياة المسيحية
نعم إمتياز عظيم أن يأتي من العذراء "يسوع"، ويبدو هذا من ترنيمتها "تعظم نفسي الرب. لأن القدير صنع بي عظائم" (لو1: 46، 49). لكن مع هذا الامتياز نجد الضريبة ... ففي (لو2: 35) قال لها سمعان الشيخ "وأنت أيضاً يجوز في نفسك سيف"، والكلمة في أصلها تعني أنه سيف من النوع الطويل الحاد المخيف المرعب، ولقد جاز في قلبها حقاً هذا السيف. جاز هذا السيف من يوم تبشير الملاك لها، فلقد تألمت من يوسف لأنه ارتاب فيها وأراد تخليتها سراً، ومن أهل الناصرة عندما كانوا ينظرون إليها نظرات قاسية محزنة، وكم تألمت وهي تبحث عن مكان ساعة ولادتها ولم تجد سوى المذود البسيط، فاليهود لم يرحبوا به، فمكتوب إلى خاصته جاء وخاصته لم تقبله (يو1: 11)، ثم ناصبوه العداء، واشتدت عداوتهم له حتى انتهت بمحاكمة فيها كل معاني المهانة والازدراء، صليب فيه كل أشكال وألوان التعذيب والآلام التي تفوق حد التصور، وكانت عليها أن تتحمل صابرة منتصرة.
رسم الفنان العظيم "هولمان هانت" صورة معبرة للعذراء في دفعها لضريبة الإيمان، والصورة تصور العذراء وقد بهرها الذهب الذي قدمه المجوس ليسوع، وهي تجمع هذا الذهب وغارقة في أفكارها وأحلامها عن يسوع وعرشه وتاجه وسلطانه، ولكن شيئاً ما جعلها تلتفت لحظة نحو الحائط القريب منها، وإذ بها ترى شعاعات الغروب تعكس عليه صليبا رهيبا مفزعا، وما روعها أنها أبصرت ابنها معلقاً عليه، الأمر الذي زلزل كيانها وأصابها بالفزع، لكنها تماسكت وحاولت أن تطرد هذا الفكر من خيالها، ولكن كلمات سمعان الشيخ عادت مرة أخرى إلى أذنيها ..."وأنت أيضاً يجوز في نفسك سيف".
حقاً ما أجمل الإيمان المسيحي ولكن علينا أن ندرك أنه يوجد ضريبة وثمن لهذا الامتياز فمكتوب: "لأنه قد وهب لكم لأجل المسيح لا أن تؤمنوا به فقط بل أيضاً أن تتألموا لأجله"(فى1: 29)، فالطريق إلى السماء والمجد يمر بالجلجثة والصليب، فلابسوا التيجان في السماء هم حاملوا الصلبان على الأرض، ولقد قال الرب يسوع "من يريد أن يتبعني فلينكر نفسه ويحمل صليبه كل يوم ويتبعني"(مت16 : 24).
سادساً : العذراء تشدو نشيد الخلاص
هتفت العذراء مريم بلحن جميل ونشيد رائع، تجاوبت أصداؤه الوعود القديمة والدهور القادمة، فقديماً وقفت مريم أخت موسى وهارون خارج أرض العبودية بعد عبور بحر سوف وهي تتنسم عبير الحرية، وأخذت تشدو: "رنموا للرب فانه قد تعظم... الفرس وراكبه طرحهما في البحر(خر15)، واليوم على شاطيء العهد الجديد وعلى عتبة عصر النعمة تقف العذراء مريم مبتهجة بخلاص الرب قائلة: "تعظم نفسي الرب، وتبتهج روحي بالله مخلصي" (لو1: 46)0 هذا هو سر ابتهاج الإنسان عندما يختبر الرب مخلصاً له، فكل مسرات العالم لن تزيد عن كونها آباراً مشققة لا تضبط ماء (اش2: 13) أما من يختبر خلاص الرب يمكنه أن يهتف فرحاً أفرح بالرب. تبتهج نفسي بإلهي لأنه قد ألبسني ثياب الخلاص وكساني رداء البر(اش61: 10).
**ومن يدرس ترنيمة العذراء التي سجلها الوحي في (لو1: 46-55) يجد أن هذه الترنيمة الجميلة تنقسم إلى أربعة أقسام :
1. ابتهاج العذراء بالرب (لو1: 46و47)
2. روعة صنيع الرب معها (لو1: 48و49)
3. سيادة وسلطان الله على كل التاريخ (لو1: 51-53)
4. مواعيد الله الصادقة والأمينة لشعبه (لو1: 54و55)
سابعاً : العذراء وتبجيل الأجيال لها
بقلب يفيض بالشكر والإمتنان للرب تقول القديسة العذراء مريم: "تعظم نفسي الرب ... هوذا منذ الآن جميع الأجيال تطوبني" نعم! فالقدير قد صنع بها عظائم.
والعذراء مبجلة لإيمانها ولتصديقها رسالة السماء "فطوبى للتي آمنت أن يتم ما قيل لها من قبل الرب" (لو1: 45-48)0 لعله كان من الطبيعي أن تفكر العذراء فيما سيحدث لها عندما يظهر حملها للعيان؟ وما الذي سيفعله المجتمع اليهودي؟ كانت تعلم أحكام الشريعة القاسية كما جاء في (تثنية22: 23و24): "إذا كانت فتاة عذراء مخطوبة لرجل فوجدها رجل في المدينة واضطجع معها، فاخرجوهما كليهما إلى باب تلك المدينة وارجموهما بالحجارة حتى يموتا" أي أن مصيرهما الرجم، وكانت تعلم افتراءات الرؤساء الكاذبة، لكنها كانت واثقة أن الذي أعدها لهذا المقام السامي والمركز الفريد كفيل بأن يدافع عنها وهي صامتة ... كفيل بحمايتها ورعايتها. ويالها من نعمة عظمى فاقت كل وصف وتقدير، وبركة كبرى يعجزعن وصفها أبلغ تعبير، كيف لا! وقد اختارها الرب هيكلاً مبجلاً مكرساً, فالله في قصده الأزلي، وحكمته السامية بارك العذراء مريم لأنه سيأتي منها الرب يسوع المسيح الذي تتبارك فيه جميع قبائل الأرض. والقديسة العذراء مبجلة لأنها حملت الرب يسوع جنيناً في بطنها، وأرضعته من ثدييها فاستحقت ما سجله الوحي المقدس "طوبى للبطن الذي حملك والثديين اللذين رضعتهما (لو11: 27).
والعذراء مطوبة أيضاً لأنها أشرفت كأم على تربية الطفل يسوع 0"وأما يسوع فكان يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس" (لو2: 52).
كما أن العذراء مطوبة لأنها احتملت أن يجتاز سيف الألم قلبها وهي ترى ابنها معلقاً على الصليب (لو2: 34، 35) ... هكذا كانت العذراء القديسة مريم في وداعتها ازدانت بالنعمة، وفي طهارتها امتلأت بالروح القدس, وفي إيمانها غمرتها البركة, وفي تواضعها استحقت التطويب.
**عبرة فى عبارة
الإحساس والشعور بالأمن والأمان
والخوف والقلق من غدر الزمان
لا يسكنان معاً القلب العامر بالإيمان