آراء و أقلام إنجيلية

أليصابات.. نجم يتلألأ في سماء الميلاد

  • بقلم: د.ق. مدحت موريس

أليصابات إمرأة عظيمة تفوح منها رائحة زكية كلما ذُكر اسمها، بالفعل كانت في الظل، لأن ما جاء عنها من كلمات (لو1: 5- 45، 57- 66)، يذوب فيما جاء عن ثلاث شخصيات، هي:
1. العذراء مريم: فما قالته لمريم العذراء –حينما جاءتها- يذوب وسط تسبيحة مريم.
2. زوجها زكريا الكاهن: والحديث عن خدمته، وما يختص بتسمية ابنهما.
3. ابنها يوحنا المعمدان: فارتكاض يوحنا المعمدان في رحم أليصابات، خطف الأنظار من كلماتها المشجعة: "فَمِنْ أَيْنَ لِي هَذَا أَنْ تَأْتِيَ أُمُّ رَبِّي إِلَيَّ؟" (لو1: 43)، مع أنها هي (أليصابات) التي أعلنت ذلك: "فَهُوَذَا حِينَ صَارَ صَوْتُ سَلاَمِكِ فِي أُذُنَيَّ ارْتَكَضَ الْجَنِينُ بِابْتِهَاجٍ فِي بَطْنِي" (لو1: 44)!
يعطي البشير لوقا تعريفًا بأليصابات في الأعداد الأولى، إذ يذكر عنها بعض المعلومات الهامة: "كَانَ فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ مَلِكِ الْيَهُودِيَّةِ كَاهِنٌ اسْمُهُ زَكَرِيَّا مِنْ فِرْقَةِ أَبِيَّا وَامْرَأَتُهُ مِنْ بَنَاتِ هَارُونَ وَاسْمُهَا أَلِيصَابَاتُ" (لو1: 5)، ومعنى اسمها "إلهي قد أقسَم"، وهي في العبرية "أليشابع"، وفي لغات أجنبية "إليسا، إليزابيث، ليزا". ولنا من خلالها بعض الدروس المهمة:
أولاً: البر والتقوى أمام الله
يقول البشير لوقا "وَكَانَا كِلاَهُمَا (زكريا، أليصابات) بَارَّيْنِ أَمَامَ اللهِ سَالِكَيْنِ فِي جَمِيعِ وَصَايَا الرَّبِّ وَأَحْكَامِهِ بِلاَ لَوْمٍ" (لو1: 6)، لقد كانا بارين أمام الله، وليس فقط أمام الناس، فلم يكن "لَهُمْ صُورَةُ التَّقْوَى وَلَكِنَّهُمْ مُنْكِرُونَ قُوَّتَهَا" (2تي3: 5)، وفي أي زمن؟ إنه في زمن هيرودس الملك الشرير الذي كان من عائلة دموية، يقول إبراهيم سعيد: "أوَ ليس غريبًا أن تتصل أيام هذين الزوجين الصالحين بأيام رجل أثيم كهيرودس؟ أوَ لا تجمع التربة الواحدة بين ما في الزنبقة البيضاء من نقاوة وجمال، وبين ما في الطين من وحل؟" هل لأنه لم يكن يهمهما أن يكونا بارين أمام الناس أيضًا؟ البر أمام الناس مهم، لكنه سيتحقق حتمًا عندما نكون بارين أمام الله، وليس العكس. كما يؤكد البشير لوقا أنهما كانا "سَالِكَيْنِ فِي جَمِيعِ وَصَايَا الرَّبِّ وَأَحْكَامِهِ بِلاَ لَوْمٍ"، ومعنى بلا لوم -كما يوضح ليون موريس- أنهما خدما الرب بأمانة، وليس أنهما كانا بلا خطية.
كانت أليصابات بارة وبالرغم من أنها كانت عاقرًا لكنها لم تتذمر! لأن الناس في ذلك الحين كانوا يعتقدون أن الله يبارك خدامه الأمناء بأن يرزقهم نسلاً. ويؤكد كريج س. كينر على ذلك، إذ يقول: "لقد كان عدم الإنجاب في ذلك الوقت مدمرًا اقتصاديًا واجتماعيًا.. اقتصاديًا، لأن الآباء لم يكن لهما كيف يعولهما في كبر السن، واجتماعيًا -لأنه طبقًا للناموس- كان يُعد عقابًا على الخطية، وكان عددٌا كبيرٌا من الناس يفترضون وجود سببا رديئا لحدوث المشكلة، وكان معظم الناس يفترضون أن عدم الإنجاب يرجع لمانع خلقي أو غيره لدى الزوجة.
كان معلموا اليهود يصرون على أن الرجل يجب أن يطلق زوجته العاقر ويتزوج بأخرى من أجل الإنجاب ." ولكن ما حدث مع أليصابات يوضح أن عدم الإنجاب ليس هو عقوبة من الله، ولا دليل عدم التقوى، ولا هو حصاد لزرع خطأ، ولا هو تأديب، والدليل على ذلك أن حنة التقية (أم صموئيل) لم تنجب لفترة طويلة، في الوقت الذي أنجبت غيه فننة غير التقية! كذلك سارة في الوقت الذي أنجبت فيه هاجر، ومن المدهش أن من جاءوا بعد انتظار كانوا عظماء (إسحق، صموئيل، يوحنا المعمدان).
ثانيًا: التعامل الصحيح مع الاختبارات
يقول البشير لوقا: "وَبَعْدَ تِلْكَ الأَيَّامِ حَبِلَتْ أَلِيصَابَاتُ امْرَأَتُهُ وَأَخْفَتْ نَفْسَهَا خَمْسَةَ أَشْهُرٍ" (لو1: 24)، كانت أليصابات حبلى منذ خمسة شهور، وأقرب المقربين لها لم يعرف، حتى قريبتها (العذراء مريم) لم تعرف إلا من الملاك جبرائيل، ويذكر إبراهيم سعيد سببين لذلك، هما:
1. لتكون واثقة من هبة الله لها قبل أن تتحدث بها إلى الناس.
2. لتهيئ نفسها بالتأمل والشكر والانتظار المقدس لتلك العطية الجديدة المجيدة القادمة.
وهذا يوضح أمرًا مهمًا من الممكن أن نسميه "سرية الاختبارات"، واليوم يعشق الوعَّاظ الحديث عن خبراتهم واختباراتهم أكثر من الكلمة المقدسة، بل ويزيدون فوق الأحداث أحداثًا أخرى لعمل حبكة درامية! وفي حقيقة الأمر فـ"إن الاختبار وحده يعتبر أساس واهٍ لبناء النظام المسيحي... ومهما يكون الاختبار فريدًا من نوعه، فإنه قابل لعدة تفسيرات مختلفة اختلافًا جذريًا، وقد يكون مجرد مصادفة مع العقل الباطن." [Clark H. Pinnock, Set Forth Your Case (Chicago: Moody, 1967), 69] فالاختبارات لا تُعمم، ولا تُعلَّم! حتى الرسل في العهد الجديد لم يعتمدوا على اختباراتهم الشخصية في الكرازة والتعليم، على سبيل المثال:
1. الرسول بطرس: يقول: "لأَنَّنَا لَمْ نَتْبَعْ خُرَافَاتٍ مُصَنَّعَةً إِذْ عَرَّفْنَاكُمْ بِقُوَّةِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ وَمَجِيئِهِ، بَلْ قَدْ كُنَّا مُعَايِنِينَ عَظَمَتَهُ... إِذْ أَقْبَلَ عَلَيْهِ صَوْتٌ كَهَذَا مِنَ الْمَجْدِ الأَسْنَى: «هَذَا هُوَ ابْنِي الْحَبِيبُ الَّذِي أَنَا سُرِرْتُ بِهِ». وَنَحْنُ سَمِعْنَا هَذَا الصَّوْتَ مُقْبِلاً مِنَ السَّمَاءِ إِذْ كُنَّا مَعَهُ فِي الْجَبَلِ الْمُقَدَّسِ. وَعِنْدَنَا الْكَلِمَةُ النَّبَوِيَّةُ، وَهِيَ أَثْبَتُ، الَّتِي تَفْعَلُونَ حَسَناً إِنِ انْتَبَهْتُمْ إِلَيْهَا كَمَا إِلَى سِرَاجٍ مُنِيرٍ فِي مَوْضِعٍ مُظْلِمٍ، إِلَى أَنْ يَنْفَجِرَ النَّهَارُ وَيَطْلَعَ كَوْكَبُ الصُّبْحِ فِي قُلُوبِكُمْ، عَالِمِينَ هَذَا أَوَّلاً: أَنَّ كُلَّ نُبُوَّةِ الْكِتَابِ لَيْسَتْ مِنْ تَفْسِيرٍ خَاصٍّ، لأَنَّهُ لَمْ تَأْتِ نُبُوَّةٌ قَطُّ بِمَشِيئَةِ إِنْسَانٍ، بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ اللَّهِ الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ " (2بط 1: 16- 21)، بطرس هنا شارك بعبارة بسيطة تدل على ما اختبره يوم حادثة "تجلي المسيح"، لكنه لم يطيل الحديث عن هذا الاختبار، وفي الوقت ذاته يؤكد على أن كلمة الله –وليس الاختبار- هي الأثبت، "فالاختبار الشخصي ليس باقيًا وليس ثابتًا، ولا نبني حياتنا الروحية على الاختبارات الشخصية، نعم الاختبار مهم، لكن كلمة الله أثبت وأدق وأكثر فاعلية وتأثيرًا." [محسن نعيم، كيف تعرف طرق الله؟ (القاهرة: دار الثقافة، 2008)، 77].
2. الرسول بولس: اختبر الرسول بولس في (أع9) اختبارًا عظيمًا تمثَّل في ظهور المسيح له، لكنه لم يستخدم هذا الاختبار إلا نادرًا جدًا، وفي (أع17: 1- 3): "فَاجْتَازَا فِي أَمْفِيبُولِيسَ وَأَبُولُونِيَّةَ وَأَتَيَا إِلَى تَسَالُونِيكِي حَيْثُ كَانَ مَجْمَعُ الْيَهُودِ. فَدَخَلَ بُولُسُ إِلَيْهِمْ حَسَبَ عَادَتِهِ وَكَانَ يُحَاجُّهُمْ ثَلاَثَةَ سُبُوتٍ مِنَ الْكُتُبِ مُوَضِّحاً وَمُبَيِّناً أَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنَّ الْمَسِيحَ يَتَأَلَّمُ وَيَقُومُ مِنَ الأَمْوَاتِ، وَأَنَّ هَذَا هُوَ الْمَسِيحُ يَسُوعُ الَّذِي أَنَا أُنَادِي لَكُمْ بِهِ"، لقد كان يحاجهم من الكتاب المقدس.
كذلك عندما أُخِذَ للسماء الثالثة (2كو12: 1- 4) "لم يكن مسموحًا له أن يتحدث عن الأشياء التي رآها، واضح أن الله لم يَرَ أن ذلك الاختبار يُعطي وقعًا أكثر ومصداقية أكثر لرسالة الإنجيل، عن مجرد الوعظ بحقه." [ﭼون ماك أرثر، بلبلة كاريزماتية، ترجمة ڤيكتور صموئيل بدروس (القاهرة: الرابطة الإنجيلية بالشرق الأوسط، 2016)، 45.]
لقد شجع الملاك العذراء مريم بأختبار أليصابات، وذلك عندما قال: "وَهُوَذَا أَلِيصَابَاتُ نَسِيبَتُكِ هِيَ أَيْضاً حُبْلَى بِابْنٍ فِي شَيْخُوخَتِهَا وَهَذَا هُوَ الشَّهْرُ السَّادِسُ لِتِلْكَ الْمَدْعُوَّةِ عَاقِراً" (لو1: 36)، لكن لم تحك أليصابات وتملأ الدنيا ضجيجًا بهذا الاختبار!
ثالثًا: مشاركة أفراح الآخرين
لم تنظر أليصابات بعين الغيرة لمريم، ولم تقارن دعوتها بدعوة مريم، فمريم أمًا ليسوع "المُخَلِّص"، أما هي ستكون أمًا لمن سيمهد الطريق أمام المُخَلِّص، مع أنها من عائلة كهنوتية وزوجة كاهن، ومن سبط لاوي، إنها ليست كراحيل التي غارت من أختها ليئة، كما يذكر لوقا أمرين في غاية الأهمية، هما:
1. امتلائها بالروح القدس: "وَامْتَلَأَتْ أَلِيصَابَاتُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ" (لو1: 41)، كان الأمر غريبًا على العذراء مريم، وكان من الممكن أن تفسر أليصابات هذا الخبر بطريقة خاطئة، لكن هذا يعكس أمرين، هما: إيمان وحسن نية أليصابات، ثقة العذراء مريم في أليصابات أن تشاركها بخبرٍ كهذا دون الخوف من الفهم الخاطئ من جانب أليصابات.
2. تواضعها الفريد: "فَمِنْ أَيْنَ لِي هَذَا أَنْ تَأْتِيَ أُمُّ رَبِّي إِلَيَّ؟" (لو1: 43)، كانت وهذا يعكس تواضعها الفريد، يقول إبراهيم سعيد: "ولنا هنا دليل على قوة إيمان أليصابات بلاهوت المسيح إذ آمنت بالمسيح أنه "رب" قبل أن تراه. وهذا ظاهر من قولها "أم ربي". لأنه كيف يمكن لمن لم يولد بعد أن يكون ربًا؟ فإذًا نطقت أليصابات بشهادة لم يفه بها توما إلا بعد أن لمس [رأى] آثار جروح المسيح بعد قيامته. فكان في تعظيمها مريم كمن يحيي كوكب الصبح الذي هو بشير طلوع شمس الصباح."