آراء و أقلام إنجيلية

السامرية (الباحثة عن المكان)

  • بقلم: ق. رفعت طنيوس بدروس

في ساعة الظهيرة. خرجت من بيتها مسرعة تتلفت من حولها وهي تضع برقعها على وجهها. لم ترَ أحد في الطريق. فاطمأنت نفسها. نعم أنه أفضل وقت لخروجي لأستقي ماء... فهي فقيرة الحال. لا يأتيها الساقي بالماء كغيرها من ربات البيوت.
ولكن ما أن وصلت إلى المكان المقصود. إلا ووجدت شخصًا جالسًا، وكأنه ينتظرها هي بالذات. نظرت إليه وعرفت أنه غريب الجنس. ارتبكت. وحاولت أن تتجاهله. إلا أنه أقترب إليها. بل وطلب منها! أنه يريد أن يشرب! فبادرته بلغة الاستنكار! كيف تتحدث معي وأنت غريب الجنس؟، وأكثر من ذلك ليس بيننا معاملة! فأنا لا أريد الحديث مع أحد الآن!
حاولت الهروب بكلمات الاستغراب من الطلب والاقتراب. حاولت جمع شمل نفسها والدفاع عن كرامتها. لعلها تبلغ ثقته فيها. لكن فشلت. وعندما انكشف الحال. التجأت إلى السؤال عن الماء الحي الذي يمتلكه كما قال لها؛ بل طلبته، وهكذا انفتح القلب وانفك اللسان، وراحت تسأل لعلها تصل لنتيجة تريحها من تعبها ومعاناتها في الحياة؛ حتى لو كان مجرد أنها لا تأتي للبئر مرة أخرى.
وهـذا حال الكثيرين منا... النظـرة للاحـتياج الوقتي وليس لتغيير مسار الحياة.
كانت كلماته مدهشة لها؛ ومنها تأكدت أنه يعلم أمور حياتها. فلا مجال للجدال الآن. فعادت تسأل في استعطاف. أني ارغب في معرفة ما هو الصحيح والحق؟ لأنها احتارت بين الأقاويل والتفاسير. فهي تريد أن تعرف أين المكان؟ أين مكان السجود لله؟
أرادت بسؤالها اِلتماس العذر لنفسها، وتوضح أن سبب تراخيها في حياة العبادة والصلاة. هو عدم معرفتها للمكان الصحيح!، وكأنها تريد أن تقول:" لو عرفت ما تراخيت وانحرفت! ".
نعم تراخت في حياتها فانحرفت في طريقها، وصارت آثمة. وذلك لمعيشتها مع رجل ليس زوجها، ولا تربطها به صلة قرابة، وهذا يتضح من كلمات الرب لها " وَالَّذِي لَكِ الآنَ لَيْسَ هُوَ زَوْجَكِ" (يو4: 18).
سألت لعلها تستطيع أن تجد مبرر لحياتها الفاسدة. لذلك تمسكت بما يقولون، وتأتي باللوم على من ينادون. بأن العبادة والسجود في مكان، وآخرون يقولون إنه في مكان آخر، وأصبح الأمر أمامها غير واضح. بل أكثر من ذلك تخاف السـجود في أي من المكانـين. لأنهـا لا تعـلم أيهما هـو المكـان الصحيح، ومازال سؤالها... أين المكان؟
الحقيقة لها العذر. فإنها إن طالعت الشريعة لوجدت أن هناك مكان محدد ومخصص للسجود لله. اتَّجه إليه كل عابد ومُصَلي من قديم الزمن. من أيام إبراهيم إلى نحميا (المذبح. بيت إيل. خيمة الاجتماع. الهيكل بأورشليم). وزاد الأمر صعوبة عليها عندما لم يستطع السامريون الاقتراب من اليهود والعبادة في الهيكل؛ لأن الآخرين رفضوا التعامل معهم. لذا قال السامريون أن السجود في جرزيم وليس في أورشليم.
لكِ حق أيتها السامرية في سؤالك. أين المكان؟ نعم لكِ العذر في حيرتك!، ولكن ألم تسمعي عن هؤلاء؟ [يوسف ابن يعقوب الفتى الصغير وكيف واجه الخطية. أو دانيآل ورفقائه، ومُردخاي، ونحميا، والكثيرين غيرهم].
كيف عاشوا وسجدوا في مخافة لله، وأعلنوا عن الله القادر على كل شيء. في أماكن ليس فيها مكان للسـجود لله الحق، وكـيف تحمـلوا الآلام في سبيل حـياة نقية وعبادة حقيقية لله.
فإن كنا نلتمس لكِ العذر في حيرة التفكير فيما تسمعين! فليس لكِ أن تتخذي من ذلك عذر لحياة الخطية والشر. ففي حياتك الشخصية؛ ليس لك عذر في انحرافك، وعدم سجودك لله بخوف ورعدة.
يا للعجب تأتيها الإجابة بما لم تتوقع إطلاقًا. أن السجود الحقيقي لله "لا في جرزيم ولا في أورشليم". لأن السجود لله فهو بالروح والحق. أي أن السجود لله لا يُحد بمكان!
الإجابة بالنسبة لها غاية في الغرابة، ولكثيرين في أيامنا هذه ممن يتمسكون بمكان للسجود والعبادة. لأن الرب يقول:" وَلكِنْ تَأْتِي ‍سَاعَةٌ، وَهِيَ الآنَ، حِينَ السَّاجِدُونَ الْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ، لأَنَّ الآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هؤُلاَءِ السَّاجِدِينَ لَهُ " (يو4: 23).
أين المكان؟ الإجابة لم تذكر ولم تحدد مكان!، لأن الرب أراد أن يوضح لها أن العبادة الحقيقية في القلب وليس المكان.
فالعبادة نابعة من داخل الإنسان، ولا تأتي من المكان. العبادة النقية في قلب الإنسان؛ لا في المباني الكـبيرة الفخـمة الشامخـة التي هي فخـر للإنسان، ولا حتى في صغيرة المساحة والمتواضعة في التصميم.
أراد الرب أن يقول لها أنتِ هنا في أعظم مكان للسجود!، وأنتِ أمام ينبوع الحب. أمام مروي العطاش.
أمام معطي الحياة. في مكان خلوتك التي فَضَّلتِ الابتعاد فيها عن الأنظار. يمكنك السجود في أي مكان لأن الله موجود في كل مكان.
الآن وأنتِ أمام فاحص القلوب ومختبر الكُلى. في المكان الصحيح للسجود. ماذا ستفعلين؟ هل لك رغبة في السجود الذي كنت تبحثين عن مكانه الصحيح؟، أم أنك تحاورين لتهربين! هيا تحدثي. أعلني ماذا تريدين؟
خرجت أنفاسها محبوسة تكتم أنَّة مرة. من قسوة الحياة. من فقرها رغم كثرة المتعاملين معها. الناهشين جسدها. من الوحدة الموحشة، ومن الرفقة الغير سوية. من العار الذي يطاردها في كل مكان، وبصوت مبحوح وكلمات ضعيفة أخذت تتمتم بما معناه: آه... لو أعلم أين المسيا؟
+ فأجابها سريعًا. لماذا؟ قالت في لهفة: ليخبرني ماذا أفعل؟
+ أنا هو. هيا تكلمي. عن نفسك. عن مشكلتك.
وفي حنو أخذ يتجاذب معها الحديث؛ وبقوته ودفئ محبته. كلماته دخلت إلى أعماقها كمشرط جراح ماهر لتستأصل الخطية من قلبها، وتُذيب تجمد مشاعرها، وتُعيد لها حرارة الروح. فشعرت بالطمأنينة والسلام والرغبة في الكلام. لأنها رأت نفسها أمام كاشف الأسرار. ففاض قلبها وسالت دموعها؛ وهي تتحدث معترفة له عن فراغ حياتها؛ رغم كثرة المتعاملين معها. عن عدم استقرارها. عن شعورها بالمهانة. عن حياتها المريرة البائسة.
+ بالصواب تكلمتِ. فحياتك أنا أعلمها جيدًا، ولكن ماذا تريدين الآن وأنت مع مَن كنت تبحثين عنه؟
أعطني أشرب من الماء الذي لك. لكي أرتوي ولا آتي إلى هنا مرة أخرى.
+ سأعطيك. لا ماء لتشربي للارتواء. بل سأعطيك عطـية الله لك لتحـيي. وتكوني في سلام وطمأنينة في حاضرك ومستقبلك، وتضمني الحياة الأبدية. سأمنحك ما تحتاجين إليه لتعيشي الفضيلة.
+ الفضيلة. أحيا الفضيلة!، فأنا كم اشتقت لها كثيرًا. فقد حاولت مرات ومرات؛ وضغوط الحـياة في هـذا العالم هـزمتـني... لكن أنا الآن اشعر بقوة داخلي. قلبي امتلاء بسلام وفرح لم أعرفهما من قبل!
+ وهذا كان الارتواء الحقيقي. ليس بالماء بل بالحرية من قيود الخطية. فنراها وقد تنفست الصعداء. لأن حمل ثقيل سقط عن كاهلها. فراحت تعدو مسرعة نحو القرية تاركة المُعلم السيد وجرة الماء.
+ أسرعت وهي فرحة... و خطواتها أسرع من كلماتها، وهي تنادي بصوت عالٍ وتنادي قائلة: هلموا... هلموا أني وجدت من يعرف الأسرار ويرفع من الأوحال، من يُسقط الأحمال ويحقق الآمال. لقد وجدت المخلص والمريح، والمُفرح والمُعزي. وجدت من ننتظره ونبحث عنه. لعله هو (المسيح) المنتظر.
+ هلموا يا تعابى إليه. لأنه قال لي كل ما فعلت! نعم كل ما فعلت بالتمام!، قال لي ليس للتشهير بل للستر والتطهير. أنه قال لي لا ليقاصصني بل ليخلصني. لا ليعيرني بل ليبررني. لا ليرذلني بل ليطمأنني ويضمنني. أنه المخلص. المُطهر. المُقدس. الضامن.
+ هلموا... هلموا فهنا مكان السجود! نعم هنا مكان السجود حيث الرب (المسيح) موجود. هنا وليس في جرزيم ولا في أورشليم.

صديقي... لقد تعرفت السامرية على الرب. وأصبحت ابنة له ليس في جرزيم ولا في أورشليم. لكنها تعرفت عليه في مكان احتياجها.
نعم... نعم في مكان احتياجها الذي هو (فراغ قلبها). وهذا ما يطلبه الرب من كل شخص.

صديقي... لا تضل الطريق! ببحثك عن المكان الذي تعبد فيه الرب، والمفاضلة بين مكان وآخر.
بل اعرف جيدًا المكان الذي منه تعبد الرب (القلب).
فالرب لا يريدك أن تبحث عن مكان. بل أن تعطيه أنت المكان الأساسي في حياتك (قلبك).
لذلك يقول:" هنَذَا وَاقِـفٌ عَلَى الْبَابِ وَأَقْـرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَـدٌ صَوْتِي وَفَـتَحَ الْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي"(رؤ3: 20).
أنه يقرع على باب قلبك مكانه المُفضل.
بل مكانه الوحيد في العالم. لأن كلمة الله تعلن أن " الإِلهُ الَّذِي خَلَقَ الْعَالَمَ وَكُلَّ مَا فِيهِ، هذَا، إِذْ هُوَ رَبُّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ، لاَ يَسْكُنُ فِي هَيَاكِلَ مَصْنُوعَةٍ بِالأَيَادِي"(أع 17: 24). ويؤكد هذه الحقيقة الرسول بولس ذلك بقوله: " أَمَا ‍تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ هَيْكَلُ اللهِ، وَرُوحُ اللهِ يَسْكُنُ فِيكُمْ؟"(1كو3: 16).
لأجل ذلك يجب أن تكون الحياة مقدسة لأنه
"إِنْ كَانَ أَحَدٌ ‍يُفْسِدُ هَيْكَلَ اللهِ فَسَ‍يُفْسِدُهُ اللهُ، لأَنَّ هَيْكَلَ اللهِ مُقَدَّسٌ الَّذِي أَنْتُمْ هُوَ"(1كو3: 17).
ويوضح ذلك الرسول بولس أيضًا بقوله:" وَأَيَّةُ مُوَافَقَةٍ لِ‍هَيْكَلِ اللهِ مَعَ الأَوْثَانِ؟ فَإِنَّكُمْ أَنْتُمْ هَيْكَلُ اللهِ الْحَيِّ، كَمَا قَالَ اللهُ:" إِنِّي سَأَسْكُنُ فِيهِمْ وَأَسِيرُ بَيْنَهُمْ، وَأَكُونُ لَهُمْ إِلهًا، وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْبًا"(2كو6: 16).

صديقي... بهذه الإجابة حوَّل الرب السامرية من النظر إلى المكان المادي إلى الاهتمام بالحياة النابعة من القلب.
أو بمعنى أدق حوَّلها من الخارج إلى الداخل. فالقلب هو مكان السجود الحقيقي للرب بالروح والحق. فقد تكون في مكان مخصص للسجود، وأنت غير موجود بالذهن؛ نعم موجود جسد فقط غير شاعر بوجود الله. لا يمكن أن يكون هذا سجود، وقد تكون في مكان تظنه أنه لا يليق بالرب، ولكنك أن رفعت قلبك بخشوع للرب فأنت في سجود بالروح.
فالمكـان الـذي خصصه الناس للسجود والعبـادة على هـذه الأرض (مبنى الكنيسة). لا يمكن أن يصل بك إلى السماء. بل قلبك النقي بالإيمان، والمرشوش عليه دم الحمل، والعمل النابع من حياة الرب فيك؛ فتكون أعمالك صالحة، وبذلك تكون في السماء وأنت هنا على الأرض.
الحقيقة الجوهرية في المسيحية هي عبادة (الله في القلب). لذلك كلمة الله تعلمنا أن مَن لا يسلم قلبه للرب؛ لا يمكن للمكان أن يقربه للرب، والدليل حياة الذين كانوا في الهيكل ( مكان السجود لله ) ولم يسجدوا لله بالحق. اقرأ...
- ( لا 10: 1- 7) عن ( أبناء هارون ) وخدمة الكبرياء. كيف قدموا نار غريبة أمام الرب في الهيكل؛ تاركين الوصية. فكانت نهايتهم الموت
- (1صم2: 22) عن ( أبناء عالي ) وحياة النجاسة. كيف لم يمنعهم وجودهم في الهيكل من الخطية؛ بمضاجعة النساء. فكان الموت مصيرهم المحتوم.
- (1صم8: 1- 5) عن ( أبناء صموئيل ) وشهوة الغنى ومحبة المال. كيف أنهم أخذوا رشوة من الشعب، وعوجوا القضاء. فرِفضُوا من الخدمة بالهيكل.
فهؤلاء جميعًا رغم أنهم كانوا يخدمون في مكان السجود (الهيكل - الكنيسة). إلا أنهم ساروا وراء شهواتهم الجسدانية الشريرة؛ ولم يجعلوا القلب على الطريق. فكانت النهاية الحزينة لهم.
[ويا للحسرة هذا يحدث بالتمام في أيامنا هذه]

صديقي... تحذر من التعلق بالمكان المادي أي كان تكوينه، أو اسمه، أو مَن فيه ومعتقداته،
وتترك مكان السجود الحقيقي للرب (قلبك) خالي من الرب. فتكون النهاية المؤسفة.

وأخيرًا نستطيع أن نجيب السامرية التي تسأل عن المكان.
ونقول لها: اجعلي قلبك على طريقك. فتعرفين أن مكان السجود الحقيقي هو (قلبك النقي) الموجود داخلك.