يونان .. النبي الهارب من دعوة الله
3/4/2024 12:00:00 AM
يونان أسم عبري معناه "حمامة" أو "يمامة" وهو أبن "أمتَّاي" الذي يعني أسمه "حق" أو "حقيقة"، ويونان من بلدة "جت حافر" الواقعة في زبولون بالقرب من بحيرة طبريّة في الشمال الشرقي لمدينة الناصرة، في المملكة الشماليّة، إسرائيل (2 ملوك 14: 25)
يروي التقليد أن يونان قد يكون هو أبن أرملة صرفة صيدا التي أعالت النبي إيليا (1 ملوك 17: 22 – 23)، بينما يرى تقليد أخر أنه النبي الذي أرسله أليشع ليمسح ياهو بن يهوشافاط بن نمشي (2 ملوك 9: 1 – 2)، وتقليد أخر يقول أن يونان هو زوج المرأة الشونميّة التي كان أليشع في ضيافتها (2 ملوك 4: 8 – 38).
لكن من المؤكد أن يونان تنبأ في عهد يربعام الثاني أحد أقوى ملوك إسرائيل (2ملوك 14: 25). وأستمرت خدمته نحو 40 سنة في الفترة من 793 ق.م وحتى عام 753 ق.م.
ومن الأنبياء الذين عاصروا خدمة يونان، يوئيل النبي الذي تنبأ في الفترة من 853 – 796 ق.م؛ وعاموس الذي تنبأ في الفترة 760-750 ق.م.
خلفيّة تاريخيّة
كانت نينوى أهم مدينة في بلاد آشور، وهي تقع في الشمال الشرقي لمملكة إسرائيل، وسرعان ما أصبحت عاصمة الإمبراطوريّة الآشوريّة، القوة العظمى التي تسيدت العالم آنذاك، وقد سكن فيها سنحاريب ملك آشور (2ملوك 19: 36).
كانت آشور هي الإمبراطوريّة العظمى، والشريرة، كانت العدو المرعب بالنسبة لشعب الله، وقد كانت تستعرض قوتها أمام الله والعالم كله من خلال أفعال وحشيّة بلا قلب، وكان ملوك آشور من القوة والوحشيّة والشراسة، فحين يهاجمون أمة أو مملكة فهم يستمتعوا بإفنائها، ولا يبقون على شئ فيها، يكتب الوحي عن جبروت ملوك آشور فيقول "إنك قد سمعت ما فعل ملوك آشور بجميع الأراضي لإهلاكها ..حقا يا رب إن ملوك آشور قد خربوا الأمم وأراضيهم ودفعوا آلهتهم إلى النار ولأنهم ليسوا آلهة بل صنعة أيدي الناس خشب وحجر فأبادوهم" (2ملوك 19: 11 – 18). كما أن النبي ناحوم كتب يصف شرور وحالة نينوى قائلًا "ويل لمدينة الدماء كلها ملآنة كذبًا وخطفًا .. ويكون كل من يراك يهرب منك ويقول خربت نينوى" (ناحوم 3: 1-7).
كانت نينوى كما يصفها النبي ناحوم، مدينة مذنبة، تتآمر على الرب (ناحوم 1: 9)، مدينة زنى وإستعباد (ناحوم 3: 4). ولهذه المدينة عينها جاءت دعوة الله ليونان، حين "صَارَ قَوْلُ الرَّبِّ إِلَى يُونَانَ بْنِ أَمِتَّايَ: «قُمِ إذْهَبْ إِلَى نِينَوَى الْمَدِينَةِ الْعَظِيمَةِ وَنَادِ عَلَيْهَا، لأَنَّهُ قَدْ صَعِدَ شَرُّهُمْ أَمَامِي»" (يونان 1: 1-2).
يونان .. دعوته وهروبه
كان يونان أحد بني الأنبياء، وكان يمارس خدمته حين جاءته دعوة الله ليقوم ويذهب لمدينة نينوى التي تزايد شرّها أمام الله، ليعلن لشعبها رسالة الدينونة الإلهيّة، وليعلن غضب الله على شرورهم، والذي حين تأتي ساعة إعلان هذا الغضب فإنه سيقع على جميع أهلها، لأن جميعهم أخطأ في حق الله.
كان تجاوب يونان مع دعوة الله، سلبي، بل قل طبيعي، فرغبة يونان كرغبة أي يهودي آلا وهي الخلاص من هذه المدينة، وطلب النقمة لها، وإن كان في الإمكان محوها من الوجود، فهي مدينة الأعداء، وعاصمة الإمبراطوريّة الآشوريّة.
كان يونان يعلم أنه إذ ذهب إلى هذه المدينة ليناد عليها كما أمره الله، وتجاوب شعب البلدة مع رسالة الله، فإن الله سوف يغفر لهم إثمهم، ويمحو عنهم شرهم، وسيكون هو الوسيلة التي أستخدمها الله في ذلك، فكيف تكون صورته أمام بني الأنبياء؟ وبين شعبه الذي ينتظر عقاب الله لتلك المملكة؟ كيف يكون هو وسيلة الخلاص؟!
أمام هذا المأزق راودت يونان فكرة الهرب إلى أبعد مكان عن نينوى، وقبل أن يفكر كثيرًا عقد العزم على تنفيذ ما ظننه سيبعده عن تلك الإرساليّة، فقام ونزل إلى يافا، فبدلاَ من أن يتجه نحو الشمال الشرقي، إلى نينوى (العراق حاليًا)، اتجه جنوبًا حيث ميناء يافا ومنها ليستقل أيّة سفينة متجهة نحو الجهة العكسيّة، نحو الغرب، وكانت هناك سفينة مزمعة أن تبحر إلى ترشيش في أقصى الغرب (أسبانيا حاليًا)، كانت الأمور تبدو وكأن الله هو الذي رتب كل هذه الأشياء ليبتعد يونان عن المكان الذي يجب أن يكون فيه، وكم من مرة نبتعد فيها عن إرادة الله، ونجد الأمور سهلة والظروف ميسرة فنعتقد أننا في طريق الله سائرون! وفي الحقيقة نكون أبعد ما نكون عن خطة الله وإرادته لحياتنا! وهكذا فعل يونان محاولًا الهرب من وجه الرب.
أغلب الظن أن يونان لم يحاول الهرب من الله ذاته، فهو يعرف الكتب المقدسة، وهو يعلم أن لله ملء السماوات والأرض، ويعلم قول المرنم، حين يتساءل "أَيْنَ أَذْهَبُ مِنْ رُوحِكَ، وَمِنْ وَجْهِكَ أَيْنَ أَهْرُبُ؟ إِنْ صَعِدْتُ إِلَى السَّمَاوَاتِ فَأَنْتَ هُنَاكَ، وَإِنْ فَرَشْتُ فِي الْهَاوِيّة فَهَا أَنْتَ!" (مزمور 139: 7 – 8). لكن يونان حاول الهرب من المهمة التي كلَّفه بها الله، من الإرساليّة التي حددها الله له للقيام بها.
دائمًا وأبدًا في الهروب من خطة الله وإرادته لحياتنا تبدأ رحلة الهبوط، والنزول، بكل ما فيها من ضعفٍ، وهزيمة، وتنازلات لا ينبغي لأبن الله أن يقدمها، هذا ما فعله إبراهيم حين نزل إلى أرض مصر رغمًا عن وعد الله له بالبركة، فكان نزوله إلى مصر تعبيرًا عن عدم ثقته في وعد الله، وتقديمه لتنازلات كادت تؤدي لكارثة لولا تدخل الله في الوقت المناسب وإنقاذه. (تكوين 12: 10 – 20). وهذا ما فعله يونان أيضًا حين أراد الهروب من وجه الله، يقول الكتاب المقدس "فَقَامَ يُونَانُ لِيَهْرُبَ إِلَى تَرْشِيشَ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ، فَنَزَلَ إِلَى يَافَا وَوَجَدَ سَفِينَةً ذَاهِبَةً إِلَى تَرْشِيشَ، فَدَفَعَ أُجْرَتَهَا وَنَزَلَ فِيهَا لِيَذْهَبَ مَعَهُمْ إِلَى تَرْشِيشَ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ" (يونان 1: 3).
بدأت رحلة الهرب هذه بالنزول، وحين يبدأ النزول فإن ما يتبعه هو نزولًا أيضًا، كان النزول إلى يافا أولًا، ثم النزول إلى السفينة، ومنها إلى جوف السفينة العميق، وأخيرًا النوم في جوف حوتٍ عظيمًا في أعماق البحر.
إن الله حين يختار إنسانًا ليحقق من خلاله قصدًا معينًا، أو رسالة يريد إبلاغها للبشر، أو لجماعة معينة، أو حتى لشخص بذاته، فهو يعرف مَن يختار! وفي اختياره لا يُوِجِد بديلًا، لأنه لا يعرف الفشل أبدًا، قد يفشل الرسول، وقد يكون غير مجهزًا لحمل تلك الرسالة، لكن الله لا يفشل في أن يُعِد مَن يختاره لتأديّة رسالته، حتى ولو أستخدم في ذلك البر أو البحر، وهكذا فحين أختار الله يونان لم يختر بديلًا عنه، في حال فشله، لكنه أجرى العجائب والمعجزات التي من شأنها مساعدة يونان في القيام بمهمته، ولو علَم كل إنسانٍ أن إختيار الله لا يقاوم، أو أنه تكليفٌ لمشاركة الله خطته الفضلى للعالم ما تردد أحدٌ أو حاول الهرب.
على أن الهروب من وجه الله، أو هكذا نظن، لا يُمكَّنُنا من الإختباء عن رب الكون، أو أن يبعدنا عن قصده أو مشيئته، لكنه في نفس الوقت يجلب لنا الكثير من المتاعب، وعلى من يكونون في طريقنا، فها هم بحارة السفينة الذين لم يعملوا شيئًا يستحقون عليه ما أتي عليهم بسبب يونان، كانوا في طريقهم للهلاك لا محالة، ظن يونان أنه وهو في قاع السفينة في أمانٍ تام بعيدًا عن عيني الله، وظن يونان للحظةٍ إن الطريق ممهدٌ تمامًا للهرب من وجه الله، لكن الله أرسل "رِيحًا شَدِيدَةً إِلَى الْبَحْرِ، فَحَدَثَ نَوْءٌ عَظِيمٌ فِي الْبَحْرِ حَتَّى كَادَتِ السَّفِينَةُ تَنْكَسِرُ. فَخَافَ الْمَلاَّحُونَ وَصَرَخُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى إِلَهِهِ، وَطَرَحُوا الأَمْتِعَةَ الَّتِي فِي السَّفِينَةِ إِلَى الْبَحْرِ لِيُخَفِّفُوا عَنْهُمْ. وَأَمَّا يُونَانُ فَكَانَ قَدْ نَزَلَ إِلَى جَوْفِ السَّفِينَةِ وَاضْطَجَعَ وَنَامَ نَوْمًا ثَقِيلًا. فَجَاءَ إِلَيْهِ رَئِيسُ النُّوتِيّة وَقَالَ لَهُ: «مَا لَكَ نَائِمًا؟ قُمِ اصْرُخْ إِلَى إِلَهِكَ عَسَى أَنْ يَفْتَكِرَ الإِلَهُ فِينَا فَلاَ نَهْلِكَ». وَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: «هَلُمَّ نُلْقِي قُرَعًا لِنَعْرِفَ بِسَبَبِ مَنْ هَذِهِ الْبَلِيّة». فَأَلْقُوا قُرَعًا، فَوَقَعَتِ الْقُرْعَةُ عَلَى يُونَانَ. فَقَالُوا لَهُ: «أَخْبِرْنَا بِسَبَبِ مَنْ هَذِهِ الْمُصِيبَةُ عَلَيْنَا؟ مَا هُوَ عَمَلُكَ؟ وَمِنْ أَيْنَ أَتَيْتَ؟ مَا هِيَ أَرْضُكَ، وَمِنْ أَيِّ شَعْبٍ أَنْتَ؟» فَقَالَ لَهُمْ: «أَنَا عِبْرَانِيٌّ، وَأَنَا خَائِفٌ مِنَ الرَّبِّ إِلَهِ السَّمَاءِ الَّذِي صَنَعَ الْبَحْرَ وَالْبَرَّ». فَخَافَ الرِّجَالُ خَوْفًا عَظِيمًا وَقَالُوا لَهُ: «لِمَاذَا فَعَلْتَ هَذَا؟». فَإِنَّ الرِّجَالَ عَرَفُوا أَنَّهُ هَارِبٌ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ، لأَنَّهُ أَخْبَرَهُمْ. فَقَالُوا لَهُ: «مَاذَا نَصْنَعُ بِكَ لِيَسْكُنَ الْبَحْرُ عَنَّا؟». لأَنَّ الْبَحْرَ كَانَ يَزْدَادُ إضْطِرَابًا. فَقَالَ لَهُمْ: «خُذُونِي وَإطْرَحُونِي فِي الْبَحْرِ فَيَسْكُنَ الْبَحْرُ عَنْكُمْ، لأَنَّنِي عَالِمٌ أَنَّهُ بِسَبَبِي هَذَا النَّوْءُ الْعَظِيمُ عَلَيْكُمْ" (يونان 1: 4-12).
تعرضت السفينة لنوء عظيم، وريحٍ شديدة، وتعرضت أرواح ركابها، وبحارتها للخطر، وكانت المسئوليّة تقع على عاتق يونان نبي الله، وهذه مسئوليّة كل إبن لله، فعدم طاعته لله لا تؤذيه هو وحده بل كل الذين من حوله.
إن يونان هذا الذي كان هاربًا وخائفًا من الله، إله السماء، الذي صنع البرَّ والبحر، بعدما إعترف للبحارة بخطئه، وضحي بنفسه وأُلقيَّ في البحر، صار شهادة حيّة لعظمة الله، وبسببه صار خوفٌ عظيم من الرب وقربوا له الذبائح ونذروا النذور.
قد يُكلفنا الله بمهام لا تتوافق مع رغباتنا الشخصيّة، أو أنها من الصعوبة التي تجعلنا غير مصدّقين أن الله يريدنا أن نعملها، أو أنها رسالة إلى جماعة من البشر قد ألفت على مضايقتنا، وإضطهادنا، فهل نحاول الهرب من وجه الرب؟! أم تُرانا نُسرع الخطى لنشاركه محبته وخلاصه العجيب المُقدم لجميع الأمم.
يونان وصلاته
بعدما ألقى البحارة يونان من السفينة وقف البحر عن هيجانه، وكان الله قد أعد حوتًا عظيمًا ليبتلع يونان، فمكث يونان في جوف الحوت ثلاثة أيَّام وثلاث ليالٍ، كان يونان في جوف السفينة نائمًا نومًا عميقًا، أما وهو في جوف الحوت نراه مستيقظًا واعيًا لما يحدث، عارفًا بما عمله الله لأجل إنقاذه، مصليًا صلاة تكشف لنا عمق العلاقة بين يونان وإلهه، ونستطيع أن نتبين أن صلاة يونان لم تكن صلاة الغريق الذي يتوسل وسيلة للنجاة، لكنها كانت صلاة الإنسان الذي يعرف أن الله هو سيد الطبيعة، وما أغرب ما أعده الله لنجاة يونان، صلى يونان من جوف الحوت، وليس من الأهميّة شكل أو ظروف المكان الذي نرفع فيه صلاتنا، لكن المهم هو طبيعة هذه الصلاة، والثقة أن الله يسمعنا رغم كل الظروف المحيطة، عبرت صلاة يونان عن الظروف الصعبة التي أحاطت به، الضيق والتيارات والأمواج، التي إكتنفته، عن الإعياء والخزف من أن يكون مطرودًا من أمام عيني الله، لكنها عبّرت أيضًا عن الثقة الكبيرة في رحمة الله، وفي كيفيّة استجابته لصلاة المتضايق.
تأتي صلاة يونان كمزمور حمدٍ يعلن من خلاله ندمه وتوبته ورجوعه إلى الله، وإرساليته، وليؤكد أن الذين يلهثون وراء الأكاذيب إنما يتركون نعمتهم، إن صلاة يونان وهو في جوف الحوت إنما تعلمنا أن الله مالئ السموات والأرض، وأنه ليس مكانٍ نستطيع فيه أن نختبئ من وجه الرب، أو أن الظروف تمنعنا من أن نرفع صلاة قلوبنا لله، كما تعلمنا أيضًا أن الله يسمع طالبيه، ويسرع في نجدتهم.
تنتهي صلاة يونان لنسمع أمر الرب للحوت بأن يقذف يونان إلى البرّ، وسرعان ما جاء "قَوْلُ الرَّبِّ إِلَى يُونَانَ ثَانِيّة: «قُمِ اذْهَبْ إِلَى نِينَوَى الْمَدِينَةِ الْعَظِيمَةِ وَنَادِ لَهَا الْمُنَادَاةَ الَّتِي أَنَا مُكَلِّمُكَ بِهَا" (يونان 3: 1).
إن إلهنا هو إله الفرصة الثانيّة، فها هو يمنح يونان فرصة ثانيّة للمشاركة في عمله، وتوصيل رسالته؛ وكم من مرة نفشل، أو نتعثر، أو نخور في الطريق؛ لكننا نجد الله يُسرع لعوننا، ويمنحنا الفرصة تلو الفرصة لنشاركه عمله، وحين نستجيب له ونعود لمشاركته خطته لخلاص العالم، نتغنى مع الرسول بولس لأننا حينها ".. إِذًا نَسْعَى كَسُفَرَاءَ عَنِ الْمَسِيحِ، كَأَنَّ اللهَ يَعِظُ بِنَا. نَطْلُبُ عَنِ الْمَسِيحِ: تَصَالَحُوا مَعَ اللهِ" (2كورنثوس 5: 20).
عزيزي: قد تكون الآن هاربًا من وجه الرب، أو هاربًا من مسؤوليّة خدمة كلَّفك بها، أو أنك تستصغر نفسك على المشاركة في عمله، لكن الله يأتيك الآن ويمنحك فرصة ثانيّة للانضمام والمشاركة في خدمته فهل تأتي؟
يونان وكرازته
كانت نينوى مدينة عظيمة لله، أي أنها مدينة كبيرة جدًا، وكانت تحتاج من يونان لمسيرة ثلاثة أيام ليناد عليها برسالة الله، ولم تكن الرسالة التي يحملها يونان رسالة محبة وغفران، أو رسالة دعوة للمصالحة مع الله.
كانت رسالة يونان، رسالة دينونة وعقاب، رسالة تؤكد وتعلن غضب الله على شر هذه المدينة، كان قول الرب على فم نبيه يونان إنه "بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا تَنْقَلِبُ نِينَوَى" (يونان 3: 4).
"فَابْتَدَأَ يُونَانُ يَدْخُلُ الْمَدِينَةَ مَسِيرَةَ يَوْمٍ وَاحِدٍ، وَنَادَى: «بَعْدَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا تَنْقَلِبُ نِينَوَى"، وماذا كانت النتيجة؟ يقول الوحي المقدس "فَآمَنَ أَهْلُ نِينَوَى بِاللَّهِ، وَنَادُوا بِصَوْمٍ وَلَبِسُوا مُسُوحًا مِنْ كَبِيرِهِمْ إِلَى صَغِيرِهِمْ" (يونان 3: 4-5).
كانت الاستجابة سريعة وفعّالة، ولم يتوقعها يونان نفسه، كان جمهور الناس منفتحين لرسالة الله، فقاموا ونادوا بصومٍ ولبسوا المسوح من كبيرهم لصغيرهم، دلالة على توبتهم وندمهم وطلب رحمة الله، كما أن ملك نينوى الوثني فعل ذات الشيء، وأمر بأن كل العظماء والناس العاديين حتى البهائم لا تأكل ولا تشرب، بل على كل واحد أن يرفع صلاتًا لله، ويعود عن طرقه الرديّة وعن الظلم الذي في أيديهم "لعل الله يعود ويندم ويرجع عن حمو غضبه".
لابد وأن منظر المدينة كان رهيبًا، فها هي المدينة الشريرة تتغطى بالمسوح، وتجثو أمام الله، وتتوقف عن شرورها، وظُلمها، وأعمالها الرديئة، لعل الله يرجع عن حمو غضبه، ولا يهلكها، "10فَلَمَّا رَأَى اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ أَنَّهُمْ رَجَعُوا عَنْ طَرِيقِهِمِ الرَّدِيئَةِ، نَدِمَ اللَّهُ عَلَى الشَّرِّ الَّذِي تَكَلَّمَ أَنْ يَصْنَعَهُ بِهِمْ فَلَمْ يَصْنَعْهُ" (يونان 3: 10).
آمن أهل نينوى الوثنيون برسالة يونان وتابوا، ياله من أثر معجزي ذلك الذي أحدثته كلمة الله في الشعب الشرير، وياله من تباين صارخ بين توبتهم وبين عناد شعب الله، الذين كم من مرة استمعوا فيها لرسالة الله على فم أنبيائه، لكنهم احتقروها ولم يؤمنوا، بل كم من نبي قتلوه لأنه أعلن رسالة الله، هذا الشعب الوثني كان كافيًا له أن يسمع رسالة الله مرة واحدة لكي يكون تجاوبه رائعًا وليعلن توبة حقيقيّة أمام الله، حتى أن الرب يسوع استشهد بأهل نينوى ليوبخ بهم شعب إسرائيل حين قال "رِجَالُ نِينَوَى سَيَقُومُونَ فِي الدِّينِ مَعَ هَذَا الْجِيلِ وَيَدِينُونَهُ" (متى 12: 41).
في رحمة الله ألغى العقاب الذي توعد به أهل نينوى، قال الله إن الأمة التي تتوب وتندم، وترجع عن شرها، فإنه يسامحها ويرجع عن العقاب الذي توعدها به (إرميا 18: 7 – 8). لقد سامح الله أهل نينوى، كما سامح يونان، إذ أن هدف عقاب الله التقويم، وليس الانتقام فالله على استعداد دائم لإظهار محبته ولطفه ألم يكن هو القائل "هَلْ مَسَرَّةً أُسَرُّ بِمَوْتِ الشِّرِّيرِ، يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ؟ أَلاَ بِرُجُوعِهِ عَنْ طُرُقِهِ فَيَحْيَا؟" (حزقيال 18: 23).
إن الله اليوم يدعونا لنحمل رسالة محبته وغفرانه، ولنعلنها لجميع الشعوب، لا فرق عند الله بين شعب وأخر، إن رسالته هي لجميع الأمم، اسمعه حين يقول "اذْهَبُوا إِلَى الْعَالَمِ أَجْمَعَ وَاكْرِزُوا بِالإِنْجِيلِ لِلْخَلِيقَةِ كُلِّهَا" (مرقس 16: 15).
وأحيانًا تكون الرسالة التي يُكلفنا بها الله هي إعلان رسالة الدينونة، والعقاب، لمن لا يتجاوب مع رسالة محبته، ومع مَن يتمادون في فعل الشر، لكن نهايّة الأمر هي أن لله طرقه، وهو يعرف الطريقة التي بها يتجاوب هذا الإنسان أو ذاك، وهو حين يُكلفنا برسالة ما لا ينبغي أن نعدلها، أو أن نتوجه بها لغير أصحابها.
يونان بين الحزن والفرح
أمام توبة أخل نينوى كنا نتوقع أن نرى يونان فرحًا مبتهجًا، فها هم أقسى شعوب الأرض يرجعون إلى الله، ويتوقفون عن أعمالهم الشريرة، لكن على العكس تمامًا نجد يونان مكتئبًا مغمومًا، وبدا أنه يعاتب الرب قائلًا «آهِ يَا رَبُّ أَلَيْسَ هَذَا كَلاَمِي إِذْ كُنْتُ بَعْدُ فِي أَرْضِي؟ لِذَلِكَ بَادَرْتُ إِلَى الْهَرَبِ إِلَى تَرْشِيشَ لأَنِّي عَلِمْتُ أَنَّكَ إِلَهٌ رَأُوفٌ وَرَحِيمٌ بَطِيءُ الْغَضَبِ وَكَثِيرُ الرَّحْمَةِ وَنَادِمٌ عَلَى الشَّرِّ. فَالآنَ يَا رَبُّ خُذْ نَفْسِي مِنِّي لأَنَّ مَوْتِي خَيْرٌ مِنْ حَيَاتِي».(يونان 4: 2، 3).
وحين خرج يونان خارج المدينة حتى لا يرى توبة الشعب الذي يكرهه، ويتمنى الموت على أن يراه عائدًا لله، كان الله قد له يقطينة ليستظل تحتها، وهنا تبدَّل حال يونان "فَفَرِحَ يُونَانُ مِنْ أَجْلِ الْيَقْطِينَةِ فَرَحًا عَظِيمًا" (يونان 4: 6). لكن الله كان قد أعد دودة فضربت اليقطينة فيبست وذبلت، وعند طلوع شمس النهار وحينما لفحت الشمس رأس يونان أغتم ثانيّة وطلب الموت لنفسه، وهنا كان حديث الله مع يونان ليكشف عمق محبة الله، وطول أناته، ورأفته على بني الإنسان يقول الكتاب المقدس "فَقَالَ اللَّهُ لِيُونَانَ: «هَلِ اغْتَظْتَ بِالصَّوَابِ مِنْ أَجْلِ الْيَقْطِينَةِ؟» فَقَالَ: «اغْتَظْتُ بِالصَّوَابِ حَتَّى الْمَوْتِ». فَقَالَ الرَّبُّ: «أَنْتَ شَفِقْتَ عَلَى الْيَقْطِينَةِ الَّتِي لَمْ تَتْعَبْ فِيهَا وَلاَ رَبَّيْتَهَا، الَّتِي بِنْتَ لَيْلَةٍ كَانَتْ وَبِنْتَ لَيْلَةٍ هَلَكَتْ. أَفَلاَ أَشْفَقُ أَنَا عَلَى نِينَوَى الْمَدِينَةِ الْعَظِيمَةِ الَّتِي يُوجَدُ فِيهَا أَكْثَرُ مِنِ اثْنَتَيْ عَشَرَةَ رَبْوَةً مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ لاَ يَعْرِفُونَ يَمِينَهُمْ مِنْ شِمَالِهِمْ، وَبَهَائِمُ كَثِيرَةٌ!»." (يونان 4: 9-11).
لقد عالج الله نفس يونان، وكشف له سر رحمته، وأن نفس الإنسان عنده غاليّة وتستحق الرحمة والشفقة، لا العقاب والدينونة، وهو في إرادته "يُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَ النَّاسِ يَخْلُصُونَ، وَإِلَى مَعْرِفَةِ الْحَقِّ يُقْبِلُونَ" (1تيموثاوس 2: 4).
دروس من حياة يونان:
1 عندما يختار الله إنسانًا لخدمة ما فهو لا يختار بديلًا له، فلكل واحدٍ دورٌ ومسؤوليّة في خدمة الله.
2. قد تكون البدايات غير مشجعة، أو أنك يبدأ مترددًا، لكن الله يفرح كثيرًا عندما يجدك تلبي دعوته وتفرح بخدمة الأخرين وبعمل إرادته (متى 21: 28 – 31).
3. قد لا تكون الشخص الذي يقفز عند سماع دعوة الله له، لتأديّة خدمة ما، لكنك إن أطعت صوته ستكون شريكًا فاعلًا في تحقيق خطة الله.
4. بدأت قصة يونان بدايّة مأساويّة وهو يحاول الهرب من وجه الرب، لكنها كانت ستنتهي بأكثر مأسويّة لو لم يعيده الله لما أراده منه.
5. أبطال الإيمان هم الذين يحملون رسالة الله إلى العالم الضال.
6. لا أحد يستعصي على خلاص الله، فالبشارة لكل من يتب ويؤمن.
7. يستخدم الله أحيانًا طرقًا مختلفة لدعوة خدَّامه، فمرة يستخدم كلمة هامسة، وأحيانًا يجعل الظروف تضطرهم لخدمته.
8. الله يستجيب الصلاة، حتى وإن جاءت من جوف حوت في قلب البحار.
9. ليست كل الأمور السهلة والميسرة علامة على التوافق مع مشيئة الله، كما أنه ليست كل الأمور المعقدة علامة على عدم موافقة الله على ما نعمله.
10. مازال سؤال العالم لك اليوم كابنٍ لله هو ذات سؤال البحارة ليونان "من أنت؟"
11. يتعجب الخطاة كثيرًا من أخطاء المؤمنين الذين يدعون أنهم أولاد الله.
12. عصياننا لأوامر الله قد لا يأتي لنا بالمشاكل وحدنا بل يجلب المشاكل على الذين حولنا أيضًا.
13. عندما نعرف صفات الله حقًا ندرك أنه لا يريد فقط أن يخلص الذين نحبهم، بل حتى أولئك الذين يضطهدوننا ويسببون لنا المتاعب.