آراء و أقلام إنجيلية

فتاة السامرة .. من الأزمة إلى البركة

  • بقلم: ق. عيد صلاح

(2 مل 5: 1-19)
عظماء في الظل هذا هو المفتاح الذي من خلاله نقترب من هذه الفتاة التي في أزمتها الشخصية والوطنية استطاعت أنْ تفعل أمرًا هامًا في حياتها، فهي فتاة مسبية فقدت أهلها وشعبها ومعارفها وأصحابها، فقدت بيتها وذكرياتها وكل ما تحب، ومَن تحب، وسُبيت في بلاد غريبة لا تعرف فيها أحدًا.
لم يذكر الكتاب عن هذه الشخصية أي شيء من ناحية المعلومات الأساسية كالأسم، والسن، أو الأهل مَن هم؟ ولكن التاريخ خلَّد عملها بأحرف من نور وسطور من ذهب. إذ قامت بدور هام وحيويّ في حياة نعمان السريانيّ، فالكتاب المقدّس يذكر ويركّز على الدور البسيط الذي قامت به، وما ترتب عليه من آثار نتائج عظيمة.
في الإصحاح الخامس من سفر الملوك الثاني، يركِّز البعض على شخصيات مشهورة مثل: نعمان السريانيّ، أليشع النبيّ، المعجزة الرائعة التي حدثت في شفاء نعمان السريانيّ، أو جيحزي وما حدث له، ويتناسون هذه البطلة الصغيرة التي أعطت لنا معنى ومفهومًا جديدًا للحياة.
وتثير هذه القصة العديد من الأسئلة مثل: كيف قدّمت خدمة جليلة لسيدها في وقت محنتها؟ كيف تخطت الحواجز الدينيّة والوطنيّة؟ كيف نظرت إلى دورها ورسالتها وليست إلى مكانتها؟ كيف عاشت الإيمان العمليّ في حياتها؟ ونحن عندما نستدعي هذه القصّة اليوم نسأل دائمًا ما هي الاستفادة والدروس التي نخرج منها عندما نعيد قراءة هذه القصّة وعندما نعيد حكايتها لأولادنا ولنا جيلاً بعد جيل؟
والدرس الذي نتعلمه من هذه القصّة أن الحروب مدمرة، من الناحية النفسيّة، ومن الناحية الإنسانيّة، ومن الناحية الماديّة والعلاقاتيّة. وهذه الفتاة الإسرائيلية الصغيرة، وهي في مقتبل العمر ووسط روعة الحياة ومباهجها واحلام المراهقة وورديّة العمر، تجد نفسها مسبية لا حول لها ولا قوة، ففقدت الحرية وأصبحت مسبية ليس لها إرادة أو حرية. ليحمي الله بلادنا ومنطقة الشرق الأوسط من ويلات الحروب التي تجلب معها كل دمار وخراب. ويمنح الله دعاة السلام في كل مكان لنشر ثقافة السلام والحب.
لنعد إلى بطلة المشهد في هذه القصة وهي فتاة السامرة، فتاة إسرائيل التي كانت أمل نعمان ومنفذه للشفاء، عندما نركز على جوانب الشخصية نجد الآتي:
1- العلاقة بين الدور والمكانة،
2- الخدمة لا ترتبط بحجم الدعاية والإعلان
3- المعاناة تخلق حلولاً مبدعة،
4- الفتاة تجاوزت المشكلات الشخصية وأهتمت بالآخرين بحب،
5- في المشورة لا نستغل ظروف الناس.

أولاً: العلاقة بين الدور والمكانة
أعطت فتاة السامرة درسًا مهمًا وهو أن الرسالة لا ترتبط بالمكانة، أستطيع أن أقوم برسالتي مهما تكون مكانتي، ومهما كان حجم الدور الذي أقوم به. نلاحظ معًا أنها فتاة صغيرة، مسبية، جارية، "وَكَانَ الأَرَامِيُّونَ قَدْ خَرَجُوا غُزَاةً فَسَبَوْا مِنْ أَرْضِ إِسْرَائِيلَ فَتَاةً صَغِيرَةً، فَكَانَتْ بَيْنَ يَدَيِ امْرَأَةِ نُعْمَانَ" (2 مل 5: 2) وتسجل القصة رد فعل فتاة السامرة ورد فعل ملك إسرائيل. ففتاة السامرة قدمت اقتراحًا مهمًا وهو: "فَقَالَتْ لِمَوْلاَتِهَا: يَا لَيْتَ سَيِّدِي أَمَامَ النَّبِيِّ الَّذِي فِي السَّامِرَةِ، فَإِنَّهُ كَانَ يَشْفِيهِ مِنْ بَرَصِه." (2 مل 5: 3). ورد فعل ملك السامرة.
فقد فسَّر الموقف على أساس أنها مؤامرة: " فَلَمَّا قَرَأَ مَلِكُ إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ مَزَّقَ ثِيَابَهُ وَقَالَ: هَلْ أَنَا اللهُ لِكَيْ أُمِيتَ وَأُحْيِيَ، حَتَّى إِنَّ هذَا يُرْسِلُ إِلَيَّ أَنْ أَشْفِيَ رَجُلاً مِنْ بَرَصِهِ؟ فَاعْلَمُوا وَانْظُرُوا أَنَّهُ إِنَّمَا يَتَعَرَّضُ لِي" (2 مل 5: 7)، هناك تباين في ردود الفعل بين ملك وفتاة مسبية لحدث واحد. الدور الذي يمكن أن يقوم به الشخص ليس مرتبطًا بالمكانة.
ثانيًا: الخدمة لا ترتبط بحجم الدعاية والإعلام
ما يميّز الفتاة الإسرائيليّة أنّها فعلت هذا في الظل، ليس لي شيء أخر لمكانة أو مال أو منصب، ولكن من خلال مشاعرها الرقيقة وقلبها الكبير، وإدراكها لدورها ولرسالتها، وفعلت ما قامت به عن رضى وقناعة وثقة وإيمان. الخدمة الحقيقية تشهد عن نفسها دون ضجيج بلا معنى، بارك الله ما يحدث في الخفاء حيث قال المسيح، فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك علانية، خدمتنا ورسالتنا لا تحتاج لدعاية لكسب رضى الناس فكم من خدمات تقدم في الخفاء ويعلم بها الله وحدة ويكون لها التأثير الفعال في تغيير النفوس واتجاهاتهم.
انتقد المسيح المظهرية التي كان يعيش فيها الناس وما زالوا حين قال: "احْذَرُوا مِنَ الْكَتَبَةِ الَّذِينَ يَرْغَبُونَ الْمَشْيَ بِالطَّيَالِسَةِ وَيُحِبُّونَ التَّحِيَّاتِ فِي الأَسْوَاقِ وَالْمَجَالِسَ الأُولَى فِي الْمَجَامِعِ وَالْمُتَّكَآتِ الأُولَى فِي الْوَلاَئِمِ." (لو 20: 46).
ثالثًا: المعاناة تخلق حلولاً مبدعة
المعاناة هي القاسم المشترك بين البشر مهما إختلفت أعمارهم، أو ثقافاتهم، أو جنسياتهم، أو ديانتهم، فالذي جمع بين الفتاة الصغيرة والملك الكبير هو المعاناة والألم. فتاة السامرة ونعمان السريانيّ، امرأة ورجل، كبير وصغير، فتاة مسبية وقائد محارب منتصر ومريض إنَّه الشعور بالألم، والمتألم يشعر بآلام الأخرين.
قدمت من خلال مشورة صالحة بنيت على قدرة فائقة على التواصل والطلب والتمني: لَيْتَ سَيِّدِي. إنَّ المعاناة على قدر ما تعطي لنا الألم هي تمنح لنا البكرة، وعلى قدر ما يكون هناك ألم تكون هناك اللمسات الإنسانية الرقيقة المعزية والمبدعة أيضًا. إقتراح صغير قاد إلى حل عظيم فتحولت التراجيديا والألم والمأساة إلى بركة عظيمة.
ما الذي دفع الفتاة أن تقوم بذلك، قد يكون الثقة الكاملة في الله، والحب، والإيمان العملي، إيمان بالله القدير، وبالنبي أليشع كرجل يستخدمه الله لعمل معجزة، إيمانها برسالتها قد ظهر في أنها قدمت حلاً مبدعًا وسط أزمة طاحنة بالرغم من صغر حجمها ومكانتها.
رابعًا: تجاوزت المشكلات الشخصية وأهتمت بالآخرين عن حب
عرفنا أن هذه الفتاة فقدت أهلها وكل من تحب، مستقبلها ضائع، عاينت ويلات الحروب، شعرت بالخوف والوحدة. ولكن عندما رأت الأخر يتألم إهتمت به، حاولت أن تخفف عنه. عندما نهتم بذواتنا وأمورنا الشخصية نضع حاجزًا فولازيًا بيننا وبين الآخرين. الأمر قد يحتاج منا أن نتعالى قليلا عن مشاكلنا الشخصية، وننظر إلى آلام ومشاكل الآخرين في هذه اللحظة نستطيع أن نخرج من ذواتنا. ونستطيع أن نقدم لمسة حب للآخرين، كتب عن الرب يسوع: وفيما هو قد تألم مجربا يقدر أن يعين المجربين.
اهتمت بصحة سيدها رغم أنَّه وثني أضر بلادها ولكنها وجهت نظره إلى الإحتياج الأساسي، كلماتها تدل على الحب. لأنها عرفت أن محبة الله تتعدى الحدود الوطنيّة الضيقة الممزوجة في الرغبة في الإنتقام. تعاملت الفتاة في هذا الموضوع مع نعمان كإنسان بغض النظر عن أي شيء أخر، وهو ما يعلمه لنا الرب يسوع فيما فعله السامريّ الصالح في لوقا 10 في العهد الجديد.
ففيما فعلته هذه الفتاة نرى أن المحبة تشمل القريب والبعيد. من هنا نرى أنْ هذا الفتاة عابرة ثقافات في الكرازة رفضت أن تتقيد بالحواجز الدينيّة والعرقيّة بل إنطلقت نحو إنسان الذي يعاني من المرض، وقدمت له حلاً كان طوق نجاة بالنسبة له.
خامسًا: في المشورة لا نستغل ظروف الناس
قدمت الفتاة مشورة طيبة بل أعطت مفهوما طيبا في كيفية مساعد الناس، وكيف نوجههم إلي الإتجاه الصحيح، فعندما تعرض أمامنا بعض المشكلات ويطلب منا الناس التدخل لا نقدم حلولاً جاهزة ولكن نقدم بعض الإقتراحات، قالت فتاة السامرة: لَيْتَ سَيِّدِي.
الفتاة الصغيرة في السن والخبرة وجهت نعمان في الإتجاه الصحيح. علينا فقط في التوجيه دون إملاء حلول جاهزة لمن لديهم مشكلات. في النهاية هذه الفتاة الصغيرة تعلمنا أن:
1- رسالتنا ليست مبنية على المكانة أو الوظيفة ولكن من خلال أي موقع أستطيع أن أقوم برسالتي.
2- قد أخدم في الظل دون دعاية ولكن الله هو الذي يكافئ،
3- المعاناة تخلق بيننا إحساس بالآخرين وتعطينا حلولاً مبدعة.
4- عندما نتجاوز مشكلاتنا الشخصية نستطيع أن نساعد الآخرين.
5- في مساعدة الناس عن طريق المشورة نحن لا نعرض على الناس حلولاً جاهزة ولكن نقدم بعض الاقتراحات التي قد تكون بناءة في حل المشكلات.
6- الله دائما وأبدًا في حكمته ونعمته يقودنا من الأزمة إلى البركة.