آراء و أقلام إنجيلية

دخول المسيح الانتصاريّ إلى أورشليم

  • بقلم: ق. عيد صلاح

دخول المسيح الانتصاريّ إلى أورشليم حادث كاشف ومعلن لأمور كثيرة، وقد وردت تفاصيله في الأناجيل الأربعة (متى 21: 1-18؛ مرقس 11: 15-19؛ لوقا 19: 28-48؛ يوحنا 12: 12-19). وحسب ويرزبي في تفسيره لمتى يقول: من بداية هذه الحادثة يكشف الرب خطايا إسرائيل، ويشرح لماذا رفضه القادة الدينيون، ولماذا رفضوا رسالته؟ (وريزبي، 98). وفي هذا المشهد أيضًا كما يقول عيّوش: "تتبين الرسالة المسيانيّة ليسوع الناصريّ كملك للسلام الذي يتضع ويقترب من المساكين والضعفاء من أجل خلاصهم. (عيّوش، 1728). والأسئلة التي يجب أن نفكر فيها هي: ما هو هدف دخول المسيح الانتصاريّ إلى أورشليم؟ وما هي الرسالة المعلنة وماذا كشف لنا؟ وماذا نستفيد من قراءة هذا الحدث هنا والآن، أي ما هي الفائدة لحياتنا؟
دخول المسيح الانتصاريّ إلى أورشليم يعلن لنا عددًا من الإعلانات حول المسيح، وفي نفس الوقت يكشف لنا مجموعة من الغيابات التي إذا غابات عن جماعة ما تصيبها كوارث جمة. وسوف نتحدث في أمرين، هما: ماذا أعلنت لنا قصة دحول المسيح الانتصاريّ إلى أورشليم؟ وماذا كشفت لنا؟ في كلمتين: إعلانات واكتشافات.
أولًا: إعلانات
------------------

أعلنت لنا قصة دخول المسيح الانتصاريّ إلى أورشليم ثلاثة أمور هامة، وهي: إعلان عن يسوع الملك، رسالة المسيح وهي رسالة الخلاص، غرض القصة وتكاملها.
الإعلان الأول: يسوع الملك
كشفت هذه القصة عن هوية المسيح، أي من هو يسوع؟ ومن بداية إنجيل متى يعلن أن يسوع هو الملك، ففي الإصحاح الثاني نقرأ عن المجوس: "وَلَمَّا وُلِدَ يَسُوعُ فِي بَيْتِ لَحْمِ الْيَهُودِيَّةِ، فِي أَيَّامِ هِيرُودُسَ الْمَلِكِ، إِذَا مَجُوسٌ مِنَ الْمَشْرِقِ قَدْ جَاءُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ قَائِلِينَ: أَيْنَ هُوَ الْمَوْلُودُ مَلِكُ الْيَهُودِ؟ فَإِنَّنَا رَأَيْنَا نَجْمَهُ فِي الْمَشْرِقِ وَأَتَيْنَا لِنَسْجُدَ لَهُ." (متى 2: 1-2). وبعد هذا يُسَجِّل متى بدقة عن موقف هيرودس ويذكر: "فَلَمَّا سَمِعَ هِيرُودُسُ الْمَلِكُ اضْطَرَبَ وَجَمِيعُ أُورُشَلِيمَ مَعَهُ." (متى 2: 3). هو هو نفس الموقف الذي يسجله متى "وَلَمَّا دَخَلَ أُورُشَلِيمَ ارْتَجَّتِ الْمَدِينَةُ كُلُّهَا قَائِلَةً: مَنْ هذَا؟ (متى 21: 10).
ومن خلال إنجيل متى الذي يعلن المسيح كملك له سلطان على الطبيعة والمرض وإبليس في نهاية إنجيل متى يعلن المسيح سلطانه وسيادته، "فَتَقَدَّمَ يَسُوعُ وَكَلَّمَهُمْ قَائِلًا: دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْضِ." (متى 28: 18).
ورسالة يسوع الملك كما يعلنها متى من البداية هي: "فَسَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ يَسُوعَ. لأَنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ." (متى 1: 21).
وقد أصبح لسان حال الكنيسة في أعمال أرسل وفي كل العصور: "وَلَيْسَ بِأَحَدٍ غَيْرِهِ الْخَلاَصُ. لأَنْ لَيْسَ اسْمٌ آخَرُ تَحْتَ السَّمَاءِ، قَدْ أُعْطِيَ بَيْنَ النَّاسِ، بِهِ يَنْبَغِي أَنْ نَخْلُصَ." (أعمال 4: 12). وعندما كان السؤال: "ثُمَّ أَخْرَجَهُمَا وَقَالَ: يَا سَيِّدَيَّ، مَاذَا يَنْبَغِي أَنْ أَفْعَلَ لِكَيْ أَخْلُصَ؟" (أعمال 16: 30). كانت الإجابة: "فَقَالاَ: آمِنْ بِالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ فَتَخْلُصَ أَنْتَ وَأَهْلُ بَيْتِكَ." (أعمال 16: 31). وما زالت هذه الدعوة متجدّدة لكل مَنْ يبحث عن الخلاص ويطلبه، فلا خلاص إلا من خلال شخص المسيح.
الإعلان الثاني: رغبة الخلاص
هتفت الجموع: خلصنا، حسب وصف البشير متى: "وَالْجُمُوعُ الَّذِينَ تَقَدَّمُوا وَالَّذِينَ تَبِعُوا كَانُوا يَصْرَخُونَ قَائِلِينَ: أُوصَنَّا لابْنِ دَاوُدَ! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبِّ! أُوصَنَّا فِي الأَعَالِي! (متى 21: 9). والخلاص الذي كان يطلبه الجموع هو خلاص سياسيّ، خلاص من نير الاستعمار الرومانيّ، ولكن الخلاص الذي يقدمه المسيح هو خلاص عكس تصورات البشر في ذلك الوقت. فالمسيح يملك على القلوب والأفكار، وهو يشفي، ولعل الصورة المبهرة التي تصور عمل المسيح تؤكِّد ذلك، ففي وسط مظاهر الاحتفال والهتافات نجد قلب يسوع مع المحتاجين والمتألمين: "وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ عُمْيٌ وَعُرْجٌ فِي الْهَيْكَلِ فَشَفَاهُمْ." (متى 21: 14).
كان انتصار المسيح انتصارًا روحيًا وليس عسكريًا. كان على القائد الروماني أن يقتل على الأقل خمسة ألاف جندي من الأعداء ليستحق احتفالًا انتصاريًا، غير أنه في غضون أسابيع قليلة سوف يلامس أو يهزم الإنجيل قلوب خمسة ألاف يهودي ويغير حياتهم (أعمال 4: 4). فانتصار المسيح هو انتصار المحبة على الكراهية، وانتصار الحق على الباطل، والحياة على الموت. (ويرزبي، 192). وتكون أنشودتنا: "وَلَكِنْ شُكْرًا لِلَّهِ الَّذِي يَقُودُنَا فِي مَوْكِبِ نُصْرَتِهِ فِي الْمَسِيحِ كُلَّ حِينٍ، وَيُظْهِرُ بِنَا رَائِحَةَ مَعْرِفَتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ." (2 كورنثوس 2: 14).
الإعلان الثالث: تكامل الرؤية
كان السؤال المحوريّ في حادثة دخول المسيح إلى أورشليم حسب البشير متى: مَنْ هذَا؟ (متى 21: 10). فالبشير متى يعود بالحدث على أساس أنَّه تحقيق لنبوة العهد القديم الوارد في زكريا: "اِبْتَهِجِي جِدًّا يَا ابْنَةَ صِهْيَوْنَ، اهْتِفِي يَا بِنْتَ أُورُشَلِيمَ. هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِي إِلَيْكِ. هُوَ عَادِلٌ وَمَنْصُورٌ وَدِيعٌ، وَرَاكِبٌ عَلَى حِمَارٍ وَعَلَى جَحْشٍ ابْنِ أَتَانٍ." (زكريا 9: 9) وورد تحقيق هذه النبوة في (متى 21: 4-5؛ يوحنا 12: 15).
ويتبع هذه النبوة عمل هذا الملك كما ورد في نبوة زكريا في أربعة أمور هامة، وهي: إنهاء الحرب، وصناعة السلام، صاحب السلطان، وإطلاق الأسرى وذلك من خلال دم العهد: "وَأَقْطَعُ الْمَرْكَبَةَ مِنْ أَفْرَايِمَ وَالْفَرَسَ مِنْ أُورُشَلِيمَ وَتُقْطَعُ قَوْسُ الْحَرْبِ. وَيَتَكَلَّمُ بِالسَّلاَمِ لِلأُمَمِ، وَسُلْطَانُهُ مِنَ الْبَحْرِ إِلَى الْبَحْرِ، وَمِنَ النَّهْرِ إِلَى أَقَاصِي الأَرْضِ. وَأَنْتِ أَيْضًا فَإِنِّي بِدَمِ عَهْدِكِ قَدْ أَطْلَقْتُ أَسْرَاكِ مِنَ الْجُبِّ الَّذِي لَيْسَ فِيهِ مَاءٌ." (زكريا 9: 10-11). وهو ما تحقق في شخص المسيح الذي دخل راكبًا على حمار طالبًا السلام لا الحرب، وترك لنا أعظم تركة في الوجود: "سَلاَمًا أَتْرُكُ لَكُمْ. سَلاَمِي أُعْطِيكُمْ. لَيْسَ كَمَا يُعْطِي الْعَالَمُ أُعْطِيكُمْ أَنَا. لاَ تَضْطَرِبْ قُلُوبُكُمْ وَلاَ تَرْهَبْ." (يوحنا 14: 27). وبدمه لنا غفرانًا لخطايانا: "الَّذِي لَنَا فِيهِ الْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ الْخَطَايَا." (كولوسي 1: 14).
وفي إنجيل يوحنا في تعليقه على هذه القصة يأخذنا إلى المستقبل، أن التلاميذ فهموا هذه الحادثة بعد قيامته من الأموات: "وَهذِهِ الأُمُورُ لَمْ يَفْهَمْهَا تَلاَمِيذُهُ أَوَّلًا، وَلكِنْ لَمَّا تَمَجَّدَ يَسُوعُ، حِينَئِذٍ تَذَكَّرُوا أَنَّ هذِهِ كَانَتْ مَكْتُوبَةً عَنْهُ، وَأَنَّهُمْ صَنَعُوا هذِهِ لَهُ." (يوحنا 12: 16). إذا المسيح هو تحقيق للنبوات وهو مركز الكتاب المقدس كله، وهو أيضًا مستقبل التلاميذ والكنيسة به ومن خلاله نفهم نفوسنا وحياتنا والعالم من حولنا.
ثانيًا: الاكتشافات
-------------------------

تكشف لنا قصة دخول المسيح الانتصاري إلى أورشليم وما تلاها من أحداث عن أربعة غيابات حسب وصف مايكل جرين (Michael Green) في تفسيره لإنجيل متى وهي: غياب العبادة، وغياب الحمد، غياب الثمر، وغياب النزاهة. وإذا غابت هذه الأمور تكون النتيجة كارثية، وهذه ما وصلت إليه حالة إسرائيل في ذلك الوقت، وقد أطلق عليها ويرزبي في تفسيره بالعمى الروحيّ (وريزبي، 98). وهي بمثابة دينونة المسيح على الهيكل الذي تحول لمغارة لصوص، وعلى التدينّ الشكلي، وحالة العقم الروحيّة التي كانت فيها الأمة الإسرائيلية في ذلك الوقت.
ولكي نفهم هذا الأمر نلاحظ أن القصة كانت صراعًا بين نظامين الأول أَفَلَ والثاني قادم آتٍ، نظام الهيكل القديم الذي في طريقه إلى التواري والاختفاء والزوال ونظام الهيكل الجديد في المسيح القادم، ففي النظام الأول: لا عبادة، لا حمد، لا ثمر، لا نزاهة، وفي المسيح الهيكل الجديد العبادة، والحمد، والثمر والنزاهة والاستقامة. إِذًا إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ. الأَشْيَاءُ الْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ. هُوَذَا الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيدًا. (2 كورثوس 5: 17)
الغياب الأول: العبادة (متى 21: 12-13)
دخل المسيح أورشليم، ودخل إلى قلب أورشليم وهو الهيكل، وكان الهيكل برهانًا على حضور الله وسط شعبه الذي معه تكون العبادة والثمر والنزاهة، في تدشين هيكل سليمان كان الهدف الأساسي: "وَكَانَ كَلاَمُ الرَّبِّ إِلَى سُلَيْمَانَ قَائِلًا: هذَا الْبَيْتُ الَّذِي أَنْتَ بَانِيهِ، إِنْ سَلَكْتَ فِي فَرَائِضِي وَعَمِلْتَ أَحْكَامِي وَحَفِظْتَ كُلَّ وَصَايَايَ لِلسُّلُوكِ بِهَا، فَإِنِّي أُقِيمُ مَعَكَ كَلاَمِي الَّذِي تَكَلَّمْتُ بِهِ إِلَى دَاوُدَ أَبِيكَ، وَأَسْكُنُ فِي وَسَطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَلاَ أَتْرُكُ شَعْبِي إِسْرَائِيلَ. فَبَنَى سُلَيْمَانُ الْبَيْتَ وَأَكْمَلَهُ." (ملوك الأول 6: 11-14).
وفي صلاة سليمان الطويلة يقول: وَوَقَفَ سُلَيْمَانُ أَمَامَ مَذْبَحِ الرَّبِّ تُجَاهَ كُلِّ جَمَاعَةِ إِسْرَائِيلَ، وَبَسَطَ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: أَيُّهَا الرَّبُّ إِلهُ إِسْرَائِيلَ، لَيْسَ إِلهٌ مِثْلَكَ فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ، وَلاَ عَلَى الأَرْضِ مِنْ أَسْفَلُ، حَافِظُ الْعَهْدِ وَالرَّحْمَةِ لِعَبِيدِكَ السَّائِرِينَ أَمَامَكَ بِكُلِّ قُلُوبِهِمْ. الَّذِي قَدْ حَفِظْتَ لِعَبْدِكَ دَاوُدَ أَبِي مَا كَلَّمْتَهُ بِهِ، فَتَكَلَّمْتَ بِفَمِكَ وَأَكْمَلْتَ بِيَدِكَ كَهذَا الْيَوْمِ. (ملوك الأول 8: 22-24) ليصل لنهاية الصلاة بالقول: "فَلِيَكُنْ قَلْبُكُمْ كَامِلًا لَدَى الرَّبِّ إِلهِنَا إِذْ تَسِيرُونَ فِي فَرَائِضِهِ وَتَحْفَظُونَ وَصَايَاهُ كَهذَا الْيَوْمِ. (ملوك الأول 8: 60).
الأمر هنا مشروط بالسلوك والعمل والحفظ، السلوك في الفرائض، عمل الأحكام، حفظ الوصايا. وهو الأمر الذي لم يتحقق في الهيكل أيام المسيح ولعل حادثة تطهير الهيكل تبرهن أن الهيكل قد أنصرف عن هدفه الأساسي، لأن القلب تلوث بالخطية فلم تكن هناك محبة لله أو محبة للقريب فظهر في الهيكل كل مظاهر الاستغلال.
تحول الهيكل إلى مغارة لصوص بدلًا من أن يكون بيت الصلاة، "وَقَالَ لَهُمْ: مَكْتُوبٌ: بَيْتِي بَيْتَ الصَّلاَةِ يُدْعَى. وَأَنْتُمْ جَعَلْتُمُوهُ مَغَارَةَ لُصُوصٍ!" (متى 21: 13). كان الهدف الأساسي للهيكل هو عبادة الله الحي، أنحرف الهيكل عن الهدف وأصبح مغارة لصوص، لذلك غضب المسيح وطهره ليعيده إلى وضعه الأساسي. التحول الذي حدث هو أن الهيكل لم يعد متمركزًا حول الله بل تمركز حول الإنسان، فاستغل الإنسان أخيه الإنسان. لم تعد العبادة عبادة بل تحولت إلى مجموعة من الطقوس والشعائر الفارغة بلا مضمون فتمادى الناس في خطاياهم وآثامهم.
الدعوة للعبادة متجددة ومستمرة وهي أن نعبد الله الحي بفرح، بترنم، بخوف: "اعْبُدُوا الرَّبَّ بِفَرَحٍ. ادْخُلُوا إِلَى حَضْرَتِهِ بِتَرَنُّمٍ." (مزمور 100: 2). "اعْبُدُوا الرَّبَّ بِخَوْفٍ، وَاهْتِفُوا بِرَعْدَةٍ." (مزمور 2: 11). أن تكون الكنيسة مكان للعبادة لعبادة الله الحي، وأن تكون خالية من الاستغلال والصراعات والانقسامات، أن تكون الكنيسة مكان عبادة حقيقي يمجد الله ويغير البشر. أن يكون الله هو مركز العبادة وليس الإنسان.
الغياب الثاني: الحمد (متى 21: 15-16)
كشف دخول المسيح الانتصاري إلى أورشليم عن قلبه المحب، ففي وسط الأصوات العالية والهتافات المدوية نجد أن رسالته وقلبه في منطقة آخرى: "وَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ عُمْيٌ وَعُرْجٌ فِي الْهَيْكَلِ فَشَفَاهُمْ." (متى 21: 14). يسجل متى بعد هذه الموقف مباشرة غضب وتذمر تجاه ما حدث "فَلَمَّا رَأَى رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالْكَتَبَةِ الْعَجَائِبَ الَّتِي صَنَعَ، وَالأَوْلاَدَ يَصْرَخُونَ فِي الْهَيْكَلِ وَيَقُولُونَ: أُوصَنَّا لابْنِ دَاوُدَ!، غَضِبُوا." (متى 21: 15). ودار الحوار بينهم وبين المسيح: "وَقَالُوا لَهُ: أَتَسْمَعُ مَا يَقُولُ هؤُلاَءِ؟ فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: نَعَمْ! أَمَا قَرَأْتُمْ قَطُّ: مِنْ أَفْوَاهِ الأَطْفَالِ وَالرُّضَّعِ هَيَّأْتَ تَسْبِيحًا؟ (متى 21: 16). يقتبس المسيح من المزمور الثامن "أَيُّهَا الرَّبُّ سَيِّدُنَا مَا أَمْجَدَ اسْمَكَ فِي كُلِّ الأَرْضِ حَيْثُ جَعَلْتَ جَلاَلَكَ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ! مِنْ أَفْوَاهِ الأَطْفَالِ وَالرُّضَّعِ أَسَّسْتَ حَمْدًا بِسَبَبِ أَضْدَادِكَ لِتَسْكِيتِ عَدُوٍّ وَمُنْتَقِمٍ." (مزمور 8: 1-2).
هذا الموقف يكشف لنا موقفين متناقضين: موقف الرفض والغضب وموقف القبول والشكر، تمثل الموقف الأول في رؤساء الكتبة والكتبة والثاني بين الأطفال، الأول رفض والثاني حمد. وهذين الموقفين لا ثالث لهما، وتجاه أعمال الله العجيبة يكون لسان حالنا هو الحمد:
بَارِكِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ،
وَكُلُّ مَا فِي بَاطِنِي لِيُبَارِكِ اسْمَهُ الْقُدُّوسَ.
بَارِكِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ،
وَلاَ تَنْسَيْ كُلَّ حَسَنَاتِهِ.
الَّذِي يَغْفِرُ جَمِيعَ ذُنُوبِكِ.
الَّذِي يَشْفِي كُلَّ أَمْرَاضِكِ.
الَّذِي يَفْدِي مِنَ الْحُفْرَةِ حَيَاتَكِ.
الَّذِي يُكَلِّلُكِ بِالرَّحْمَةِ وَالرَّأْفَةِ.
الَّذِي يُشْبعُ بِالْخَيْرِ عُمْرَكِ،
فَيَتَجَدَّدُ مِثْلَ النَّسْرِ شَبَابُكِ. (مزمور 103: 1-5)
حياة الحمد والشكر في حين على كل شيء: "شَاكِرِينَ كُلَّ حِينٍ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فِي اسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، للهِ وَالآبِ." (أفسس 5: 20). ولسان حالنا هو: "مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي حَسَبَ رَحْمَتِهِ الْكَثِيرَةِ وَلَدَنَا ثَانِيَةً لِرَجَاءٍ حَيٍّ، بِقِيَامَةِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ مِنَ الأَمْوَاتِ، لِمِيرَاثٍ لاَ يَفْنَى وَلاَ يَتَدَنَّسُ وَلاَ يَضْمَحِلُّ، مَحْفُوظٌ فِي السَّمَاوَاتِ لأَجْلِكُمْ، أَنْتُمُ الَّذِينَ بِقُوَّةِ اللهِ مَحْرُوسُونَ، بِإِيمَانٍ، لِخَلاَصٍ مُسْتَعَدٍّ أَنْ يُعْلَنَ فِي الزَّمَانِ الأَخِيرِ." (بطرس الأولى 1: 3-5). لينخفض مستوى التذمر والغضب وليرتفع منسوب الشكر لله على عطاياه التي لا تعدُّ ولا تحصى.
الغياب الثالث: الثمر (متى 21: 18-22)
النتيجة الطبيعية أنه حيث لا عبادة في الهيكل ولا حمد بين قادة اليهود يكون لا ثمر، وتمثل ذلك في التينة التي يبست: "فَنَظَرَ شَجَرَةَ تِينٍ عَلَى الطَّرِيقِ، وَجَاءَ إِلَيْهَا فَلَمْ يَجِدْ فِيهَا شَيْئًا إِلاَّ وَرَقًا فَقَطْ. فَقَالَ لَهَا: لاَ يَكُنْ مِنْكِ ثَمَرٌ بَعْدُ إِلَى الأَبَدِ! فَيَبِسَتِ التِّينَةُ فِي الْحَالِ. فَلَمَّا رَأَى التَّلاَمِيذُ ذلِكَ تَعَجَّبُوا قَائِلِينَ: كَيْفَ يَبِسَتِ التِّينَةُ فِي الْحَالِ؟ (متى 21: 19-20).
تشير التينة إلى أمة إسرائيل والتي لا ثمر فيها وبالتالي كان عليها حكم الدينونة قال المسيح: "لِذلِكَ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ مَلَكُوتَ اللهِ يُنْزَعُ مِنْكُمْ وَيُعْطَى لأُمَّةٍ تَعْمَلُ أَثْمَارَهُ." (متى 21: 43). يعلق ويرزبي بالقول: وكما كانت تلك الشجرة لها أوراق ولكن بلا ثمر، كان شعب إسرائيل لهم مظهر التدين لكن بلا خبرة إيمانية ينتج عنها حياة نقية (ويرزبي، 100). هي هي نفس موقف التربة في الثلاث مظاهر الأولى في مثل الزارع: الطريق، الأرض المحجرة، الأرض التي بها شوك (متى 13: 1-6) هذه بخلاف التربة الجيدة التي تعطي ثمرًا (متى 13: 8).
هدف المسيح في دعوته لنا أن نأتي بثمر ويدوم هذا الثمر، فقال بفمه الكريم: "لَيْسَ أَنْتُمُ اخْتَرْتُمُونِي بَلْ أَنَا اخْتَرْتُكُمْ، وَأَقَمْتُكُمْ لِتَذْهَبُوا وَتَأْتُوا بِثَمَرٍ، وَيَدُومَ ثَمَرُكُمْ، لِكَيْ يُعْطِيَكُمُ الآبُ كُلَّ مَا طَلَبْتُمْ بِاسْمِي." (يوحنا 15: 16). والثمر علامة المعرفة والتمييز: "مِنْ ثِمَارِهِمْ تَعْرِفُونَهُمْ. هَلْ يَجْتَنُونَ مِنَ الشَّوْكِ عِنَبًا، أَوْ مِنَ الْحَسَكِ تِينًا؟" (متى 7: 16). وحياة الروح هي حياة الثمر "وَأَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهُوَ: مَحَبَّةٌ، فَرَحٌ، سَلاَمٌ، طُولُ أَنَاةٍ، لُطْفٌ، صَلاَحٌ، إِيمَانٌ، وَدَاعَةٌ، تَعَفُّفٌ. ضِدَّ أَمْثَالِ هذِهِ لَيْسَ نَامُوسٌ." (غلاطية 5: 22-23).
الغياب الرابع: النزاهة (متى 21: 23-27)
موقف رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب في حوارهم مع المسيح حول السلطان، هو حوار يدعو للدهشة، فقالوا له: وَلَمَّا جَاءَ إِلَى الْهَيْكَلِ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَشُيُوخُ الشَّعْب وَهُوَ يُعَلِّمُ، قَائِلِينَ: بِأَيِّ سُلْطَانٍ تَفْعَلُ هذَا؟ وَمَنْ أَعْطَاكَ هذَا السُّلْطَانَ؟ (متى 21: 23). وقد رد المسيح عليهم بسؤال: فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: وَأَنَا أَيْضًا أَسْأَلُكُمْ كَلِمَةً وَاحِدَةً، فَإِنْ قُلْتُمْ لِي عَنْهَا أَقُولُ لَكُمْ أَنَا أَيْضًا بِأَيِّ سُلْطَانٍ أَفْعَلُ هذَا: مَعْمُودِيَّةُ يُوحَنَّا: مِنْ أَيْنَ كَانَتْ؟ مِنَ السَّمَاءِ أَمْ مِنَ النَّاسِ؟ (متى 21: 24-25)، كان موقفهم: فَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ قَائِلِينَ: إِنْ قُلْنَا: مِنَ السَّمَاءِ، يَقُولُ لَنَا: فَلِمَاذَا لَمْ تُؤْمِنُوا بِهِ؟ وَإِنْ قُلْنَا: مِنَ النَّاسِ، نَخَافُ مِنَ الشَّعْبِ، لأَنَّ يُوحَنَّا عِنْدَ الْجَمِيعِ مِثْلُ نَبِيٍّ. فَأَجَابُوا يَسُوعَ وَقَالُوا: لاَ نَعْلَمُ. (متى 21: 26-27). فكانت الإجابة الطبيعية من المسيح: "فَقَالَ لَهُمْ هُوَ أَيْضًا: وَلاَ أَنَا أَقُولُ لَكُمْ بِأَيِّ سُلْطَانٍ أَفْعَلُ هذَا." (متى 21: 27).
الخوف والتردد جعلهم يقيمون حسابات فقالوا: لا نعلم، ادَّعوا الجهل وعدم المعرفة للهروب من الموقف، لم يكن السبب هو عدم المعرفة ولكن وضع الحسابات، موقفهم بيَّن عدم نزاهتهم إذا لم يقولوا الحقيقة. الفساد هنا هو في القيادة، وهو أمر محزن، وأقسى أنواع الفساد هو الذي يأتي من القيادة، القيادة فسدت في وقت المسيح لم يكن لها الاستطاعة أن تقول الحق. غياب النزاهة هو نتيجة للغيابات الثلاثة الأولى، فعندما تغيب العبادة الحقيقية، ويغيب الحمد والتسبيح لله على عظائمه وعجائبه يغيب أيضًا الثمر، ومعه تغيب النزاهة الأخلاقية والاستقامة الروحية. ولعل النتيجة التي وصل لها المسيح من خلال المثلين الذين قالهما بعد كل هذه الغيابات في مثل الابنين (متى 21: 28-32) والكرامين (متى 21: 33-46). واللذان يمثلان رفض الله. وهذه كانت نتيجة طبيعة للغيابات الأربعة التي أشرنا إليها من قبل والتي كانت نتيجة تدين شكلي ووعي غائب.
في الختام، في دخول المسيح إلى أورشليم إعلانات واكتشافات، يعلن لنا الإنجيل أن يسوع ملك له رسالة وهي رسالة الخلاص التي هي محور كلمة الله، وفي الوقت نفسه كشف لنا عن غيابات أربعة: العبادة، والحمد، الثمر، النزاهة.
وعندما نتقابل مع ملك الملوك ورب الأرباب كما أعلن يوحنا الرائي: "وَلَهُ عَلَى ثَوْبِهِ وَعَلَى فَخْذِهِ اسْمٌ مَكْتُوبٌ: مَلِكُ الْمُلُوكِ وَرَبُّ الأَرْبَابِ." (رؤيا 19: 16). وهو رئيس ملوك كما أعلن يوحنا الرائي أيضًا: "وَمِنْ يَسُوعَ الْمَسِيحِ الشَّاهِدِ الأَمِينِ، الْبِكْرِ مِنَ الأَمْوَاتِ، وَرَئِيسِ مُلُوكِ الأَرْضِ: الَّذِي أَحَبَّنَا، وَقَدْ غَسَّلَنَا مِنْ خَطَايَانَا بِدَمِهِ، وَجَعَلَنَا مُلُوكًا وَكَهَنَةً للهِ أَبِيهِ، لَهُ الْمَجْدُ وَالسُّلْطَانُ إِلَى أَبَدِ الآبِدِينَ. آمِينَ." (رؤيا 1: 5-6). تكون العبادة مبنية على حب وليس خوف، نحيا حياة الحمد والشكر، يكون لنا ثمر، نحيا حياة النزاهة الأخلاقية والاستقامة الروحية في كل مناحي الحياة. لأننا نرتبط بالله القدوس الذي يدعونا لنكون قديسين: "لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: كُونُوا قِدِّيسِينَ لأَنِّي أَنَا قُدُّوسٌ." (بطرس الأولى 1: 16).