أنا إنسان
6/10/2024 12:00:00 AM
خارت قواه النفسية والجسدية... فصار يمشي متعثر الخطوات؛ لا يجد أحد بجواره في أزمته الطاحنة، ولا يجد قوت جسده. أخذ يتجول ويتلفت حوله فلم يرى شيء يسد عوزه. ارتفع صوته وهو يردد أنا جائع... أنا جائع... صوته المرتفع جعل القطيع الذي يرعاه يبتعد عن طعامه... اقترب ونظر إلى الأرض وهو يمني نفسه بأن يجد شيء يسد جوعه الشديد... لكنه أطال النظر... لأنه رأى ما كان القطيع يلتهم... ما هذا؟! ومد يده في تردد... أمسك بقطعة من الذي وجده على الأرض... وفجأة... أخذ يصرخ بصوت مرتفع جدًا وهو يجهش بالبكاء ويقول: لا... لا. أنا إنسان!
وأخذ يضرب كف بكف، وهو يهمهم بصوت مبحوح ويقول: كيف يكون هذا طعامي؟ كيف؟! هل أنا الإنسان أشارك الحيوان في طعامه؟، وبذلك حياته وصفاته؟ كيف صرت هكذا؟! أنا إنسان... نعم إنسان.
جلس على أقرب حجر رأه واضعًا رأسه بين يديه، وهو ينتحب في حزن وكآبة، وجسده يهتز بشدة. والدموع تنهمر من عينيه كالسيل، ويلطم بيديه خديه بقوة مرًة تلو الأخرى، لأن صوت في داخله زلزل كيانه... ولم يستطع إسكاته. صوت يلح عليه؛ ويسأله ماذا أنت فاعل؟ ماذا تنتظر؟ هل أنت راضي عن ما وصلت إليه؟ هل هذه حياة إنسان؟ أين ما كنت تحلم به وتبتغي تحقيقه بعيدًا عن أبيك؟ أين؟
أين الحرية التي كنت تبحث عنها؟ هل أنت الآن حر؟! لا وألف لا... كيف تكون حر وأنت لم تفهم معنى الحرية؟، الحرية التي منحها لك أبيك في حب دون قيود؛ لم تفهم مسؤوليتك تجاهها. فاندفعت وراء شهواتك دون دراية، ولا ترتيب أو إدراك، بل سرت وراء رغبة إثبات الذات؛ بعيدًا عن مَن يرشدك ويقود ويُقَوم خطواتك.
وأخذ الصوت يردد. أين... وأين... وأين؟
أين الأصدقاء الذين التفوا حولك... أو بمعنى ادق التفوا حول نقودك، وكانوا أول الموجدين على المائدة التي تعدها بأفخر المأكولات، والمواظبين على كل سهراتك الماجنة المسرفة في بذخ شديد... أين هم الآن؟
أين الذين كانوا يسيرون معك، ويباركون تصرفاتك؟! بل أطربوا أذنيك بكلمات الإطراء وهم يعددون خصالك الكريمة. لماذا انصرفوا عنك؟، وتركوك وحيدًا تعاني في غربتك؟ دون سؤال عنك أو الحضور إليك؟ لماذا تبدل حالهم وتغير موقفهم سريعًا هكذا منك؟
وها أنت الآن قد خسرت كل شيء. نعم كل شيء!، فأنت خسرت ثروتـك، وصحـتك وكرامتك، وعلى مشارف أن تفقـد حياتك التي لا تقدر بثمن. ازداد الصوت داخله جدًا... بل صار ينتهره أين إجابتك؟ لماذا أنت ساكت؟، ماذا أنت فاعل؟
فأنتفض منتصبًا في مكانه صارخًا... أنا راجع... نعم سأرجع الآن... أرجع إلى أبي طالبًا منه الغفران والقبول... فأنا لي أب عظيم... نعم. أب عظيم وغني، وحنون، وأكثر من ذلك يحبني جدًا... فكيف أعيش هكذا؟، لن أستمر هنا، سأعود إلى حضن الأب... سأعود للحياة.
لكنه نظر إلى ثيابه الرثة، وجسده المتسخ. واشتم الرائحة الكريهة التي لصقت به من الخنازير التي كان يرعاها. فجلس مكانه مرة أخرى، وهو يقول بلغة اليأس وبأسف شديد: لا أستطيع العودة لبيت أبي، لا أستطيع العودة وأنا في هذه الحالة. لقد فقدت كل شيء، ولا أستطيع عمل شيء... كيف أقابل أبي هكذا؟ ماذا أقول له؟ وهل يقبلني هكذا كما أنا، وفي حالتي هذه؟ لا أظن... لا... لا أستطيع.
وهنا جاء إليه الصوت الداخلي مرة أخرى هامسًا: أتذكر بيت أبيك، وكم أجير هناك ينعموا بخيراته؟ أتذكر محبة أبيك لك؟، ثق... ثق في محبة أبيك الصادقة " اَللهُ الَّذِي هُوَ غَنِيٌّ فِي الرَّحْمَةِ، مِنْ أَجْلِ مَحَبَّتِهِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي أَحَبَّنَا بِهَا،"(أف2: 4)، وهو أيضًا في انتظار أن تعود إليه، وتسمع طرقاته الرقيقة وتفتح باب قلبك لمحبته "هنَذَا وَاقِفٌ عَلَى الْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ الْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي"(رؤ3: 20). استمع له جيدًا. فهو يناديك قائلاً:" اِرْجِعْ يَا إِسْرَائِيلُ إِلَى الرَّبِّ إِلهِكَ، لأَنَّكَ قَدْ تَعَثَّرْتَ بِإِثْمِكَ. خُذُوا مَعَكُمْ كَلاَمًا وَارْجِعُوا إِلَى الرَّبِّ. قُولُوا لَهُ: ارْفَعْ كُلَّ إِثْمٍ وَاقْبَلْ حَسَنًا، فَنُقَدِّمَ عُجُولَ شِفَاهِنَا"(هو14: 1-2).
لحظات مرت عليه كالدهر من التفكير والحيرة. لأن روحه " نفسه " مكسورة. بل محطمة بداخله؛ وفي يأس شديد من الحالة التي وصل إليها " رُوحُ الإِنْسَانِ تَحْتَمِلُ مَرَضَهُ، أَمَّا الرُّوحُ الْمَكْسُورَةُ فَمَنْ يَحْمِلُهَا؟"(أم ١٤:١٨). لكن.....
إذ به يصفق بقوة بيديه مبتسمًا؛ لأنه قد توصل لحل مشكلته، وارتفعت معنوياته. فأشرق وجهه رغم أتساخه، ووقف يشير بيديه وينحني بجسده، وكأنه يؤدي مشهد تمثيلي وهو يقول:" أَقُومُ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي وَأَقُولُ لَهُ: يَا أَبِي، أَخْطَأْتُ إِلَى السَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ، وَلَسْتُ مُسْتَحِقًّا بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ابْنًا. اِجْعَلْنِي كَأَحَدِ أَجْرَاكَ"(لو15: 18-19).
ألتفت نحو الطريق إلى بيت أبيه، وانطلق في ماراثون جري يقطع المسافات ويسابق الزمن من الشوق واللهفة التي بداخله للقاء أبيه؛ وللراحة من أتعاب حياة الغربة القاسية، وهو يُذكر نفسه بما سيقول لأبيه. وإذ أقترب من البيت تسمرت قدماه ولم يقوى على الحركة من هول المفاجأة!
أبيه أمام البيت واقف منتظره وهو فاتح زراعيه لاستقباله، أقترب بخطوات بطيئة ووجه يكسوه الخجل؛ وإذ بأبيه يسرع إليه، فما كان منه إلا أنه ارتمي في حض أبيه، والدموع قد غسلت وجهه، وبصوت مبحوح يقول: يَا أَبِي، أَخْطَأْتُ إِلَى السَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ، وَلَسْتُ مُسْتَحِقًّا بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ابْنًا.
لكن طنت أذُناه من صوت أبيه الجهوري وهو يحتضنه؛ وينادي الأهل والأصدقاء للفرح لعودة أبنه، ويأمر الخدم بإكرام الأبن العائد بالثوب الأول (البر الموهوب)، وخاتم ليده (سلطان الفعل) وحذاء لرجله (كرامة السلوك)، وليصنعوا وليمة عظيمة. وهكذا كست الفرحة وجوه الجميع.
صديقي... لنقف برهة نلاحظ الابنان. لنرى هل هناك فعلاً فرق بينهما؟، فهما كانا مع الآب، وبين جدران البيت. فهل كانت لهما علاقة حب مع أبيهم، ومع بعضهما. أم لكل منهما حياته الخاصة. (لو15: 11- 32).
1- الأبن الأكبر. نراه مشغول في أمور كثيرة. في الحقل والرعي، والحفاظ على الممتلكات. نعم أنها خدمة كبيرة يقوم بها لأجل أبيه. لكن لم يعرف معنى المحبة الحقيقية في حياته. حتى (لأبيه أو لأخيه). وهذا ظهر عند عودة أخيه. فلم يقبل كلام أبيه!، إذًا أي شركة بينهما، وأي خدمة كان يقوم بها هذا الأبن!، فالحقيقة أنه ليس له علاقة مع الآب. فهو[ميت].
2- الأبن الأصغر. نراه متمرد لا يبالي إلا بنفسه. فهو يتطلع لحياة غير الحياة التي يعيشها في بيت أبيه. يرسم لمستقبله، فوضع خطة الحرية التي يحلم بها، وشرع في تنفيذها. وهكذا أسرع في طلب نصيبه في ما يملك أبيه. في جحود ومهانة. وجمع وغادر البيت. ليعلن بأنه لم يعرف معنى المحبة الحقيقية في حياته. (لأبيه أو لأخيه). فهو [ميت].
لا تتعجب! هذه الحقيقة أن الابنان وهما في بيت الآب كانا في حالة (الموت). لأن ليس لهما علاقة محبة صادقة. بل كل منهما يحيا لذاته؛ وهو يتمتع بخير أبيه. لكن غير مدرك لذلك!
وهنا نسمع الآب وهو يشرح ببلاغة فائقة الموقف الخاص بأبنه الراجع. يعلن (الحالة- الفعل). إذ يقول:" لأَنَّ ابْنِي هذَا كَانَ مَيِّتًا فَعَاشَ، وَكَانَ ضَالاًّ فَوُجِدَ"(لو15: 24).
فإيهما مصدر الثاني؟ لماذا مات الأبن؟ وماذا حدث بعد أن وجد؟ فحسب تفكيرنا البشري قد نظن أن الضلال أولاً. فيكون الموت كنتيجة. هذا حسب نظرتنا نحن [مات لأنه ضل، وعاش لأنه وجد]. لكن في نظر الآب (الله) الحالة هي سبب الفعل. فلأنه ميت. لذلك ضل الطريق الصحيح، ولأنه رجع أي وجد فكانت له الحياة. [مات فضل – وجد فعاش].
الحقيقة المجردة أن الإنسان [مات. فضَّل]، ويظل هكذا طيلة أيام ضلاله في تعداد الأموات؛ حتى يرجع في توبة حقيقية لحضن الأب فيتم فيه القول [وجد. فعاش].
صديقي... هذا ما حدث مع شخصيتنا التي نتحدث عنها، ولكن ماذا عنك؟ أين أنت؟، هل مازلت في الكورة البعيدة تعاني قسوة الحياة وتتجرع كأس مرارة الخطية؟ أم أنك أصغيت إلى صوت الحق الإلهي، ورجعت لتعيش في حضن الأب حيث الحياة.
فإن كنت في الكورة البعيدة لا تيأس. بل قم... وقم سريعًا جدًا" مُفْتَدِينَ الْوَقْتَ لأَنَّ الأَيَّامَ شِرِّيرَةٌ"(أف5: 16). لأنك لا تعلم يوم الرحيل من هذه الحياة الفانية. لأن الروح يقول:" أَنْتُمُ الَّذِينَ لاَ تَعْرِفُونَ أَمْرَ الْغَدِ! لأَنَّهُ مَا هِيَ حَيَاتُكُمْ؟ إِنَّهَا بُخَارٌ، يَظْهَرُ قَلِيلاً ثُمَّ يَضْمَحِلُّ"(يع4: 14).
وتعال إلى أبيك السماوي دون تردد. فهو ينتظرك... نعم ينتظرك ليحررك من قيود الخطية، ويطهرك من كل شرورك وآثامك. تعال إليه وأنت واثق من رحمته وغفرانه لأن " إِنِ اعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا فَهُوَ أَمِينٌ وَعَادِلٌ، حَتَّى يَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَيُطَهِّرَنَا مِنْ كُلِّ إِثْمٍ"(1يو1: 9).
لا تنظر إلى نفسك وما أنت فيه من فساد، ولا تفكر فيما اقترفت من شرور وآثام؛ وقل للرب:" لاَ تَذْكُرْ خَطَايَا صِبَايَ وَلاَ مَعَاصِيَّ. كَرَحْمَتِكَ اذْكُرْنِي أَنْتَ مِنْ أَجْلِ جُودِكَ يَا رَبُّ" (مز25: 7). فقط أترك مكان الخطية " طُوبَى لِلرَّجُلِ الَّذِي لَمْ يَسْلُكْ فِي مَشُورَةِ الأَشْرَارِ، وَفِي طَرِيقِ الْخُطَاةِ لَمْ يَقِفْ، وَفِي مَجْلِسِ الْمُسْتَهْزِئِينَ لَمْ يَجْلِسْ"(مز1: 1)، وابتعد عن أصدقاء السوء وقل لهم:" اُبْعُدُوا عَنِّي يَا جَمِيعَ فَاعِلِي الإِثْمِ، لأَنَّ الرَّبَّ قَدْ سَمِعَ صَوْتَ بُكَائِي"(مز 6: 8).
صديقي... تعال لأبيك في توبة حقيقية معترفًا له بضعفاتك قائلاً له:" أَعْتَرِفُ لَكَ بِخَطِيَّتِي وَلاَ أَكْتُمُ إِثْمِي. قُلْتُ:" أَعْتَرِفُ لِلرَّبِّ بِذَنْبِي " وَأَنْتَ رَفَعْتَ أَثَامَ خَطِيَّتِي"(مز32: 5). وهو يغفر لك كل ماضيك؛ ويحرر خطوات حاضرك، ويضمن مستقبلك في حياة مباركة ومجيدة. لأن الروح يقول:" إِذًا لاَ شَيْءَ مِنَ الدَّيْنُونَةِ الآنَ عَلَى الَّذِينَ هُمْ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، السَّالِكِينَ لَيْسَ حَسَبَ الْجَسَدِ بَلْ حَسَبَ الرُّوحِ"(رو8: 1).
فتغدو سعيدًا، وتحيا حياة جديدة تختلف تمامًا عن سابقتها لأن" إِذًا إِنْ كَانَ أَحَدٌ فِي الْمَسِيحِ فَهُوَ خَلِيقَةٌ جَدِيدَةٌ: الأَشْيَاءُ الْعَتِيقَةُ قَدْ مَضَتْ، هُوَذَا الْكُلُّ قَدْ صَارَ جَدِيدًا"(2كو5: 17)، وبتلك الحياة تعيش طاعة للوصية بالابتعاد عن عادات الماضي الردية " كَأَوْلاَدِ الطَّاعَةِ، لاَ تُشَاكِلُوا شَهَوَاتِكُمُ السَّابِقَةَ فِي جَهَالَتِكُمْ،"(1بط1: 14)، وأيضًا حياة جادة في السلوك لتمجيد الله فتقول:" مَعَ الْمَسِيحِ صُلِبْتُ، فَأَحْيَا لاَ أَنَا، بَلِ الْمَسِيحُ يَحْيَا فِيَّ. فَمَا أَحْيَاهُ الآنَ فِي الْجَسَدِ، فَإِنَّمَا أَحْيَاهُ فِي الإِيمَانِ، إِيمَانِ ابْنِ اللهِ، الَّذِي أَحَبَّنِي وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِي"(غل2: 20). وتعيش في سلام بيقين الإيمان؛ غير مبال بما يقابلك من مصاعب في الحياة. بل تقبلها وأنت راض وفخور بما وصلت إليه في علاقتك بالرب " لِهذَا السَّبَبِ أَحْتَمِلُ هذِهِ الأُمُورَ أَيْضًا. لكِنَّنِي لَسْتُ أَخْجَلُ، لأَنَّنِي عَالِمٌ بِمَنْ آمَنْتُ، وَمُوقِنٌ أَنَّهُ قَادِرٌ أَنْ يَحْفَظَ وَدِيعَتِي إِلَى ذلِكَ الْيَوْمِ"(1تي١٢:١).
وهكذا تكون في حضن أبيك الضامن لحياتك. فهو يقول: " كُلُّ مَا يُعْطِينِي الآبُ فَإِلَيَّ يُقْبِلُ، وَمَنْ يُقْبِلْ إِلَيَّ لاَ أُخْرِجْهُ خَارِجًا."(يو6: 37). فهنيئًا لك الرجوع للحياة في حضن الآب.