آراء و أقلام إنجيلية

زكا ورحلة التغيير

  • بقلم: ق. عيد صلاح

"ثُمَّ دَخَلَ وَاجْتَازَ فِي أَرِيحَا. وَإِذَا رَجُلٌ اسْمُهُ زَكَّا، وَهُوَ رَئِيسٌ لِلْعَشَّارِينَ وَكَانَ غَنِيًّا، وَطَلَبَ أَنْ يَرَى يَسُوعَ مَنْ هُوَ، وَلَمْ يَقْدِرْ مِنَ الْجَمْعِ، لأَنَّهُ كَانَ قَصِيرَ الْقَامَةِ. فَرَكَضَ مُتَقَدِّمًا وَصَعِدَ إِلَى جُمَّيْزَةٍ لِكَيْ يَرَاهُ، لأَنَّهُ كَانَ مُزْمِعًا أَنْ يَمُرَّ مِنْ هُنَاكَ. فَلَمَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى الْمَكَانِ، نَظَرَ إِلَى فَوْقُ فَرَآهُ، وَقَالَ لَهُ: يَا زَكَّا، أَسْرِعْ وَانْزِلْ، لأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَمْكُثَ الْيَوْمَ فِي بَيْتِ. فَأَسْرَعَ وَنَزَلَ وَقَبِلَهُ فَرِحًا. فَلَمَّا رَأَى الْجَمِيعُ ذلِكَ تَذَمَّرُوا قَائِلِينَ: إِنَّهُ دَخَلَ لِيَبِيتَ عِنْدَ رَجُل خاطئ فَوَقَفَ زَكَّا وَقَالَ لِلرَّبِّ: هَا أَنَا يَا رَبُّ أُعْطِي نِصْفَ أَمْوَالِي لِلْمَسَاكِينِ، وَإِنْ كُنْتُ قَدْ وَشَيْتُ بِأَحَدٍ أَرُدُّ أَرْبَعَةَ أَضْعَاف.ٍ فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: الْيَوْمَ حَصَلَ خَلاَصٌ لِهذَا الْبَيْتِ، إِذْ هُوَ أَيْضًا ابْنُ إِبْرَاهِيمَ، لأَنَّ ابْنَ الإِنْسَانِ قَدْ جَاءَ لِكَيْ يَطْلُبَ وَيُخَلِّصَ مَا قَدْ هَلَكَ "(لوقا 19: 1- 10)
هل التغيير ممكن؟ وهل هو متاح؟
للإجابة على هذا السؤال نلتقي مع زكا الذي أختبر حياة التغيير في حياته وعبرَّ عن ذلك عمليًا. تحول زكا من التركيز حول الذات مستغلاً الآخرين إلى التركيز حول شخص المسيح ليهتم بالآخرين المظلومين، فيقول: "هَا أَنَا يَا رَبُّ أُعْطِي نِصْفَ أَمْوَالِي لِلْمَسَاكِينِ، وَإِنْ كُنْتُ قَدْ وَشَيْتُ بِأَحَدٍ أَرُدُّ أَرْبَعَةَ أَضْعَافٍ" (لو 19: 8). كانت لدية رغبة التأمين على الحياة فجعل من المال غايته وسيده إلى أن يكون المال عنصرًا هامشيًا في حياته. ما أسباب هذا التحول من أنه يطلق عليه "رَجُل خَاطِئٍ" (لو 19: 7) إلى قول المسيح: "الْيَوْمَ حَصَلَ خَلاَصٌ لِهذَا الْبَيْتِ، إِذْ هُوَ أَيْضًا ابْنُ إِبْرَاهِيمَ" (لو 19: 9).
من هو زكا؟
يسلط البشير لوقا الضوء على زكا على أساس أنه أول غني يخلص في الإنجيل. كما أنِّ شخصية زكا تضع أمامنا قضية أنَّ المال والمكانة لا يشبعان الإنسان ففي القلب فراغ لا يملأه سوى المسيح، ويعطي له مجموعة من المواصفات الشخصية مثل:
1. رجل،
2. رئيس للعشارين،
3. غني،
4. قصير القامة،
5. خاطئ،
6. ابن إبراهيم،
7. التصرف الذكي أمام العائق.
زكا شخص يشعر بالرفض:
مهنة العشار كانت مهنة مرفوضة وغير محبوبة من اليهود لسببين على الأقل: الأول هو التحالف مع المستعمر، والثاني هو إستغلال البشر بزيادة الأموال عن الحد المطلوب. فعندما جاء العشارين إلى يوحنا المعمدان: وَجَاءَ عَشَّارُونَ أَيْضًا لِيَعْتَمِدُوا فَقَالُوا لَهُ: يَا مُعَلِّمُ، مَاذَا نَفْعَلُ؟ فَقَالَ لَهُمْ: لاَ تَسْتَوْفُوا أَكْثَرَ مِمَّا فُرِضَ لَكُمْ" (لوقا 3: 12-13)
وفي موقف تبعية لاوي للمسيح تبين هذا الموقف الصعب ضد العشارين "وَبَعْدَ هذَا خَرَجَ فَنَظَرَ عَشَّارًا اسْمُهُ لاَوِي جَالِسًا عِنْدَ مَكَانِ الْجِبَايَةِ، فَقَالَ لَهُ: اتْبَعْنِي فَتَرَكَ كُلَّ شَيْءٍ وَقَامَ وَتَبِعَهُ. وَصَنَعَ لَهُ لاَوِي ضِيَافَةً كَبِيرَةً فِي بَيْتِهِ. وَالَّذِينَ كَانُوا مُتَّكِئِينَ مَعَهُمْ كَانُوا جَمْعًا كَثِيرًا مِنْ عَشَّارِينَ وَآخَرِينَ. فَتَذَمَّرَ كَتَبَتُهُمْ وَالْفَرِّيسِيُّونَ عَلَى تَلاَمِيذِهِ قَائِلِينَ: لِمَاذَا تَأْكُلُونَ وَتَشْرَبُونَ مَعَ عَشَّارِينَ وَخُطَاةٍ؟ فَأَجَابَ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: لاَ يَحْتَاجُ الأَصِحَّاءُ إِلَى طَبِيبٍ، بَلِ الْمَرْضَى. لَمْ آتِ لأَدْعُوَ أَبْرَارًا بَلْ خُطَاةً إِلَى التَّوْبَةِ" (لوقا 5: 27- 32).
وهو نفس الموقف في (لوقا 19: 1- 2) "وَكَانَ جَمِيعُ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ يَدْنُونَ مِنْهُ لِيَسْمَعُوهُ. فَتَذَمَّرَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَالْكَتَبَةُ قَائِلِينَ: هذَا يَقْبَلُ خُطَاةً وَيَأْكُلُ مَعَهُمْ. (لوقا 15: 1- 2).
من خلال المواقف السابقة نجد أن رد الفعل تجاه التعامل مع العشارين كان سلبيًا ففي العقل الجمعيّ اليهوديّ هؤلاء خونة وعملاء للإستعمار، ولا يجوز التعامل معهم بأي شكل من الأشكال. ولعل هذا ما جعل زكا يشعر بالرفض.
زكا وقضية الغني وموقف المسيح
يُسَجِّل البشير لوقا مواقف سلبية عن الأغنياء فيذكر الغني الغبي في (لوقا 12: 13-21)، والغني ولعازر في (لوقا 16: 19-31)؛ ثم موقف الشاب الغني في (لوقا 18: 18-26)، كل هؤلاء أخذوا مواقف سلبية في الحياة، وكان المال المركز لحياتهم، فالغني الغبي أعتمد على المال في الحياة، والغني أهمل لعازر الفقير مكتفيًا بنفسه فقط، فنال العذاب في المصير الأبديّ، ثم الشاب الغني الذي مضى حزينًا لأن الرب أراد أن يغير عنده مركز التفكير نحو المال. ومع كل هذه النماذج تلمع شخصية وحياة زكًا كأول غني يدخل لملكوت الله.
زكا والتغيير:
يمكننا رصد حياة زكا في ثلاثة مواقف، وهي:
الموقف الأول: زكا في الطريق
وهو في الطريق لرؤية يسوع وفي هذا الموقف شعر بالعجز، في عدم قدرته على رؤية يسوع " وَطَلَبَ أَنْ يَرَى يَسُوعَ مَنْ هُوَ، وَلَمْ يَقْدِرْ مِنَ الْجَمْعِ، لأَنَّهُ كَانَ قَصِيرَ الْقَامَةِ" (لوقا 19: 3). في هذه المرحلة تمتزج الرغبة والإرادة مع العجز. ولكن لم يستسلم للعجز، فوضع البدائل المتاحة.
الموقف الثاني: زكا فوق الشجرة
حقَّقَ زكا المطلوب والرغبة في رؤيته ليسوع، في هذا الموقف يرى الحياة بصورة أوضع، ويرى المسيح بصورة أعمق، واللافت للنظر في هذا الموقف هو غلبة لغة العيون ولغة القلب والإرادة على الكلام لم نسمع كلامًا أو طلبًا لزكا، نظر المسيح لزكا، أطاع زكا كلام المسيح، ونزل فرحًا، قد يكون صعد الشجرة مرتبكًا قلقًا ولكنه نزل فرحًا، إذ شعر بالقبول: فَرَكَضَ مُتَقَدِّمًا وَصَعِدَ إِلَى جُمَّيْزَةٍ لِكَيْ يَرَاهُ، لأَنَّهُ كَانَ مُزْمِعًا أَنْ يَمُرَّ مِنْ هُنَاكَ. فَلَمَّا جَاءَ يَسُوعُ إِلَى الْمَكَانِ، نَظَرَ إِلَى فَوْقُ فَرَآهُ، وَقَالَ لَهُ: يَا زَكَّا، أَسْرِعْ وَانْزِلْ، لأَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَمْكُثَ الْيَوْمَ فِي بَيْتِك.َ فَأَسْرَعَ وَنَزَلَ وَقَبِلَهُ فَرِحًا" (لوقا 19: 4- 6).
الموقف الثالث: زكا في البيت
لم يتكلم زكا فوق شجرة الجميز، ولكنه تكلم في البيت، وفي كلامه شعور بتغيير من ناحية المال "فَوَقَفَ زَكَّا وَقَالَ لِلرَّبِّ: هَا أَنَا يَا رَبُّ أُعْطِي نِصْفَ أَمْوَالِي لِلْمَسَاكِينِ، وَإِنْ كُنْتُ قَدْ وَشَيْتُ بِأَحَدٍ أَرُدُّ أَرْبَعَةَ أَضْعَافٍ" (لوقا 19: 8). يعطي نصف أمواله للمساكين، ويرد أربعة أضعاف للمسلوب، وأمام التصرف المالي الثاني يجدر بنا أن نعود لبعض نصوص العهد القديم لنعرف تصرف زكا لرد المسلوب حيث نشير إلى بعض النصوص، مثل:
"وَكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى قَائِلًا: إِذَا أَخْطَأَ أَحَدٌ وَخَانَ خِيَانَةً بِالرَّبِّ، وَجَحَدَ صَاحِبَهُ وَدِيعَةً أَوْ أَمَانَةً أَوْ مَسْلُوبًا، أَوِ إغْتَصَبَ مِنْ صَاحِبِهِ، أَوْ وَجَدَ لُقَطَةً وَجَحَدَهَا، وَحَلَفَ كَاذِبًا عَلَى شَيْءٍ مِنْ كُلِّ مَا يَفْعَلُهُ الإِنْسَانُ مُخْطِئًا بِهِ، فَإِذَا أَخْطَأَ وَأَذْنَبَ، يَرُدُّ الْمَسْلُوبَ الَّذِي سَلَبَهُ، أَوِ الْمُغْتَصَبَ الَّذِي اغْتَصَبَهُ، أَوِ الْوَدِيعَةَ الَّتِي أُودِعَتْ عِنْدَهُ، أَوِ اللُّقَطَةَ الَّتِي وَجَدَهَا، أَوْ كُلَّ مَا حَلَفَ عَلَيْهِ كَاذِبًا. يُعَوِّضُهُ بِرَأْسِهِ، وَيَزِيدُ عَلَيْهِ خُمْسَهُ. إِلَى الَّذِي هُوَ لَهُ يَدْفَعُهُ يَوْمَ ذَبِيحَةِ إِثْمِهِ." لاويين 6: 1- 5) "وَكَلَّمَ الرَّبُّ مُوسَى قَائِلًا :قُلْ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: إِذَا عَمِلَ رَجُلٌ أَوِ امْرَأَةٌ شَيْئًا مِنْ جَمِيعِ خَطَايَا الإِنْسَانِ، وَخَانَ خِيَانَةً بِالرَّبِّ، فَقَدْ أَذْنَبَتْ تِلْكَ النَّفْسُ. فَلْتُقِرَّ بِخَطِيَّتِهَا الَّتِي عَمِلَتْ، وَتَرُدَّ مَا أَذْنَبَتْ بِهِ بِعَيْنِهِ، وَتَزِدْ عَلَيْهِ خُمْسَهُ، وَتَدْفَعْهُ لِلَّذِي أَذْنَبَتْ إِلَيْهِ." (عدد 5: 5- 7).
"إِذَا سَرَقَ إِنْسَانٌ ثَوْرًا أَوْ شَاةً فَذَبَحَهُ أَوْ بَاعَهُ، يُعَوِّضُ عَنِ الثَّوْرِ بِخَمْسَةِ ثِيرَانٍ، وَعَنِ الشَّاةِ بِأَرْبَعَةٍ مِنَ الْغَنَمِ". (خروج 22: 1)
وأعتقد أن زكا في رحلة التغيير رد ما ورد في سفر الخروج الإصحاح الثاني والعشرين حول الأربعة أضعاف التي التزم وتعهد بها. ماذا فعل المسيح؟
قدَّم المسيح لزكا القبول والاحتواء، إذ نظر إليه وناداه باسمه ودخل إلى بيته، لم يعر المسيح إهتمامًا لكلام الناس الرافض لتعامله مع العشارين، فهو قد جاء للمهشمين والخطاة. ثم أعطى المسح زكا دفعة من الرجاء والأمل في القدرة على حياة التغيير. ثم أعاد المسيح زكا إلى وضعه الأصلي عن طريق الخلاص إذ هو إبن إبراهيم.
ملاحظات ختامية:
1. لا أحد خارج نعمة الله فالله يتعامل مع الكل حسب ظروفه فيتعامل عند البئر مع السامرية وتحت الشجرة مع زكا.
2. موقف المسيح إيجابي نحو الخطاة، لم يدن زكا، ولكن قبله بكل الحب، وهذا ما يفعله معنا.
3. الأغنياء كالفقراء لهم مكان في ملكوت الله، فالنعمة تخلص الجميع دون تمييز.
4. لا يوجد أي عائق يمنع الإنسان في التعامل مع المسيح، فلم يكن لزكا ثقافة الأعذار أو ثقافة تبرير المواقف، فبحث عن بدائل ونجح في ذلك.
5. الله يعرفك بأسمك، ويعرف إحتياجك، وأمام دعوته يجب أن نلبي النداء.
6. القيمة الحقيقية ليست في المال أو المكانة أو الشهرة فليست فيما نملك ولكن في من يمتلكنا.
7. التغيير يرافقه دائمًا فعل مبني على قرار فالتغيير ممكن ومتاح، إن أردنا ذلك، وزكا خير مثال على ذلك.