آراء و أقلام إنجيلية

سر النجاح في قصة نحميا

  • بقلم: ق. عيد صلاح

تُعتبر قصة نحميا الواردة في أحد أسفار الكتاب المقدّس بإسمه من القصّص المشجعة على مر التاريخ وقد دونت في كلمة الله لكي تعطي لنا رجاءً وأملاً مستمرًا للبناء والتشييد الماديّ والروحيّ، أستخدم الرب نحميا في عملية البناء، ويمكن أن يستخدمنا نحن في إعادة كل ما إنهدم في حياتنا، ويحمل السفر لنا رسالة هامة أنه وسط الخراب في الحياة والنفوس روحيًا ومعنويًا فالله قادر على أن يبني.
ونحن نعيد قراءة قصة نحميا نقف عند سر النجاح لدى نحميا ويبنى هذا النجاح على ثلاثة مبادئ أساسيّة من خلال ما ورد في (نحميا 1: 1-11، 2: 19-20). وهي: الأول: إرتباط الإنسان بالمكان، الثاني: إرتباط البناء الروحيّ بالبناء الماديّ، الثالث: إرتباط الجميع معًا بقضية واحدة، هذه المبادئ الثلاث هي صلب قصة نحميا الذي وضع أمامه الهدف والرؤية بوضوح: "هَلُمَّ فَنَبْنِيَ سُورَ أُورُشَلِيمَ وَلاَ نَكُونُ بَعْدُ عَارً" (نحميا 2: 17).
المبدأ الأول: إرتباط الإنسان بالمكان نرى نحميا وهو متغرّب عن الوطن مهموم به فهو يسأل ويستفسر: "فَسَأَلْتُهُمْ عَنِ الْيَهُودِ الَّذِينَ نَجَوْا، الَّذِينَ بَقُوا مِنَ السَّبْيِ، وَعَنْ أُورُشَلِيمَ" (نحميا 1: 2). يسأل عن الناس والبشر وعن الوطن أورشليم. وهو في السبيّ وفي مكان متميز (شوشن القصر) ومكانه رفيعة (ساقي الملك) مشغول بالوطن الأم، فمازال الوطن بقضايا وأزماته ومشكلاته في قلبه ووجدانه.
السؤال يقوده إلى صدمة المعرفة: فَقَالُوا لِي: إِنَّ الْبَاقِينَ الَّذِينَ بَقُوا مِنَ السَّبْيِ هُنَاكَ فِي الْبِلاَدِ، هُمْ فِي شَرّ عَظِيمٍ وَعَارٍ. وَسُورُ أُورُشَلِيمَ مُنْهَدِمٌ، وَأَبْوَابُهَا مَحْرُوقَةٌ بِالنَّار" (نحميا 1: 3) عَرَفَ أنَّ الفساد الأخلاقيّ مستشري: "في شر عظيم وعار" نتيجة للخطية والبعد عن الله، وعَرَفَ أيضًا أن المدينة شملها الدمار المعماريّ الماديّ، "أسوار أورشليم منهدمة (ضياع الحماية والخصوصيّة)، والأبواب محروقة بالنار" (الدمار الشامل).
النتيجة هي الصلاة فلما سمع صُدِمَ ولما صُدِمَ صلى فالأزمة قادته للصلاة وليس العكس ومعظم إصحاحات نحميا مليئة بالصلوات، فكان موقفه: "فَلَمَّا سَمِعْتُ هذَا الْكَلاَمَ جَلَسْتُ وَبَكَيْتُ وَنُحْتُ أَيَّامًا، وَصُمْتُ وَصَلَّيْتُ أَمَامَ إِلهِ السَّمَاءِ" (نحميا 1: 4). ومن هنا نرى فردًا واحدً مهمومًا بقضايا وطنه وأهله يصنع تغييرً ملموسًا، فلا نستهين بأقلية عددية لها هدف ورؤية وصلة حقيقية بالله.
وليس غريبًا أن سفر نحميا يركِّز على البناء المعماريّ ويركز أيضًا على البناء الروحيّ في إرتباط الشعب وعودتهم بشوق مرة أخرى لكلمة الله. فالأصحاحات الأولى من 1-7 تركز على البناء الماديّ، ومن إصحاح 8-13 يضع نحميا ركيزة هامة في مفهوم العمل الروحيّ الناجح وهو العودة إلى كلمة الله بشرحها وبيانها للناس وفهمها. ومن هنا يأتي النجاح الروحيّ للنهضة الحقيقية التي ترتكز على الكلمة المقدّسة وحياة الصلاة.
نحميا وهو غريب مشغول بوطنه، واليهود الذين بقوا في السبيّ هم متغربون في أوطانهم، قضية الإنتماء والولاء جعلت من نحميا بناءً عظيمًا.
المبدأ الثاني: إرتباط البناء الروحيّ بالبناء الماديّ
الأخبار المحزنة الذي سمعها نحميا في الأصحح الأول وصفت الحالة الصعبة والقاسية من ناحية الشعب: في خزي عظيم عار، ومن ناحية المدينة: الأسوار منهدمة والأبواب محروقة بالنار. لا أحد ينكر أن هذا الموقف منظر قاتم ومظلم، الذين بقوا في شر عظيم وعار، فلم يستوعبوا الدرس بعد؟ ولم يسألوا لماذا حدث هذا؟ وتعودوا على المشاهد المنهدمة ولم تحركهم أية مشاعر ناحية هذا، فظلوا في خطاياهم وشرورهم، وفقدوا القيادة والمعنى الحقيقي للحياة. أصبحوا غرباء في بلادهم، وأصبح نحميا الغريب في السبي في قلب بلاده.
الذي أقلق نحميا ليست المباني المنهدمة أو الأبواب المحروقة ولكن الذي أبكاه وأوجع قلبه هو أن الشعب ضل الطريق فتفرق، الذي أقلقه هو أن الشعب في شر عظيم وعار.
وإذا كان الأصحاح الأول يوصف لنا أن الأمر مر وقاس نوح وبكاء، لكن تخبرنا قصة نحميا أن الأمور عادت إلى مجراها الطبيعي الصحيح فالأسوار تبنى والنفوس أيضًا. نجد بناء يتواصل، كل جماعة تقوم بدورها، ونلاحظ تعاون وشركة توبة ورجوع.
البناء الروحيّ هو التركيز على كلمة الله في صدقها وكمالها، نحميا يصلي "أَعْطِ النَّجَاحَ الْيَوْمَ لِعَبْدِكَ" (نحميا 1: 11)، إِنَّ إِلهَ السَّمَاءِ يُعْطِينَا النَّجَاحَ، وَنَحْنُ عَبِيدُهُ نَقُومُ وَنَبْنِي." (نحميا 2: 20) وفي نفس الوقت ينشر ثقافة البناء، لم يركز كثيرًا على وصف الحالة وتشخيصها ولكنه بدأ في العمل بنفسه، وقد نجحت دعوته في إحداث بناء روحيّ ومادي عظيمين.
والنهضة الروحيّة تقوم على التوبة وقد فعلها نحميها في صلاته حين صلى وقال: فَلَمَّا سَمِعْتُ هذَا الْكَلاَمَ جَلَسْتُ وَبَكَيْتُ وَنُحْتُ أَيَّامًا، وَصُمْتُ وَصَلَّيْتُ أَمَامَ إِلهِ السَّمَاءِ، وَقُلْتُ: أَيُّهَا الرَّبُّ إِلهُ السَّمَاءِ، الإِلهُ الْعَظِيمُ الْمَخُوفُ، الْحَافِظُ الْعَهْدَ وَالرَّحْمَةَ لِمُحِبِّيهِ وَحَافِظِي وَصَايَاهُ، لِتَكُنْ أُذْنُكَ مُصْغِيَةً وَعَيْنَاكَ مَفْتُوحَتَيْنِ لِتَسْمَعَ صَلاَةَ عَبْدِكَ الَّذِي يُصَلِّي إِلَيْكَ الآنَ نَهَارًا وَلَيْلًا لأَجْلِ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَبِيدِكَ، وَيَعْتَرِفُ بِخَطَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّتِي أَخْطَأْنَا بِهَا إِلَيْكَ. فَإِنِّي أَنَا وَبَيْتُ أَبِي قَدْ أَخْطَأْنَا. لَقَدْ أَفْسَدْنَا أَمَامَكَ، وَلَمْ نَحْفَظِ الْوَصَايَا وَالْفَرَائِضَ وَالأَحْكَامَ الَّتِي أَمَرْتَ بِهَا مُوسَى عَبْدَكَ. اذْكُرِ الْكَلاَمَ الَّذِي أَمَرْتَ بِهِ مُوسَى عَبْدَكَ قَائِلًا: إِنْ خُنْتُمْ فَإِنِّي أُفَرِّقُكُمْ فِي الشُّعُوبِ، وَإِنْ رَجَعْتُمْ إِلَيَّ وَحَفِظْتُمْ وَصَايَايَ وَعَمِلْتُمُوهَا، إِنْ كَانَ الْمَنْفِيُّونَ مِنْكُمْ فِي أَقْصَاءِ السَّمَاوَاتِ، فَمِنْ هُنَاكَ أَجْمَعُهُمْ وَآتِي بِهِمْ إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي إخْتَرْتُ لإِسْكَانِ اسْمِي فِيهِ. فَهُمْ عَبِيدُكَ وَشَعْبُكَ الَّذِي افْتَدَيْتَ بِقُوَّتِكَ الْعَظِيمَةِ وَيَدِكَ الشَّدِيدَةِ. يَا سَيِّدُ، لِتَكُنْ أُذْنُكَ مُصْغِيَةً إِلَى صَلاَةِ عَبْدِكَ وَصَلاَةِ عَبِيدِكَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ مَخَافَةَ اسْمِكَ. وَأَعْطِ النَّجَاحَ الْيَوْمَ لِعَبْدِكَ وَامْنَحْهُ رَحْمَةً أَمَامَ هذَا الرَّجُلِ. (نحميا 1: 4-11).
لم يعزل نحميا نفسه عن الشعب، لم يتعال عليهم، لم يتشف فيهم، ولكنه في صلاته وضع نفسه معهم، فالتغيير الحقيقي يبدأ من التوبة الحقيقية بإعتراف أمام الله ورجوع حقيقي إليه، وهذا ما يحمله لنا الأصحاح الأول من سفر نحميا.
المبدأ الثالث: إرتباط الجميع بقضية واحدة
الأمر الذي نراه في قصة نحميا أن هناك قائد فاهم وواع حرك مشاعر وطاقات الجماعة، فظهرت جماعة تترابط معًا وتتعاون في وحدة وتنوع، وتنوع في وحدة، رغم كل المعارضات والكلام السلبيّ الذي ظهر من: سنبلط الحوروني وطوبيا العبد العمونيّ، وجشم العربيّ.
لكن تركيز الشعب في قضية البناء في صوره المتعدِّدة وحدَّ كل فئات الشعب في عملية البناء كل فرد وجماعة شارك في عملية البناء إلى أن إتصل السور معًا في وقت قياسي، في نفس الوقت الشعب يصغي إلى الشريعة. إرتباط الجماعة معًا سواء في البناء الروحيّ أو الماديّ ساعد على إنجاز المهمة والمسؤلية، إنَّ في الاتحاد قوة وفي التفرق ضعف. الكنيسة والدولة في إحتياج إلى مشروعات توحد الكيان وتستثمر الطاقات والإمكانيات.
وهي الصورة البديعة التي عبر عنها الرب في العهد الجديد حيث عبر على أن البركة في الوحدة "هؤُلاَءِ كُلُّهُمْ كَانُوا يُواظِبُونَ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ عَلَى الصَّلاَةِ وَالطِّلْبَةِ، مَعَ النِّسَاءِ، وَمَرْيَمَ أُمِّ يَسُوعَ، وَمَعَ إِخْوَتِهِ." (أعمال الرسل 1: 14). "وَلَمَّا حَضَرَ يَوْمُ الْخَمْسِينَ كَانَ الْجَمِيعُ مَعًا بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ،" (أعمال الرسل 2: 1). وهي لب صلاة المسيح لكنيسته "لِيَكُونَ الْجَمِيعُ وَاحِدًا، كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضًا وَاحِدًا فِينَا، لِيُؤْمِنَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي." (يوحنا 17: 21). والوحدة المقصودة هنا ليست الوحدة المؤسَّساتيّة ولكن وحدة المحبة والشركة الرؤية والهدف.
في قضية نحميا:
نجد إرتباط الإنسان بالمكان في ولاء وإنتماء بعد المسافة لم يبعد القلب عن المكان. وهو نموذج متميز لواء إرتباط الشخص بكنيسته وبوطنه في وقت عز فيه الولاء والإنتماء.
كما لاحظنا أن هناك إرتباط بين النجاح الماديّ والنجاح الروحيّ، فلا نستغرق في البناء الماديّ في المشروعات الكنسية على الخدمة الروحيّة فالإثنان يسران معًا لكي يمكن أن نرمم كل ما منهدم في حياتنا. وأخيرًا، نرى في نحميا الإنجاز عندما تلتف الجماعة معًا حول قضية واحدة ومشروع واحد
ليساعدنا الرب أن نرتبط بأماكننا (كنيستنا ووطننا) في انتماء وولاء حقيقي، نبني فيه روحيًا وماديًا (حضاريًا)، نلتف معًا كجماعات شاهدة حول قضية واحدة لكي ننجز فيها، وفي كل الظروف والأحوال نؤمن ونثق: "إِنَّ إِلهَ السَّمَاءِ يُعْطِينَا النَّجَاحَ، وَنَحْنُ عَبِيدُهُ نَقُومُ وَنَبْنِي." (نحميا 2: 20).