آراء و أقلام إنجيلية

مؤمن بالمسيح .. أم مسيحي؟!

  • بقلم: ق. رفعت طنيوس بدروس

كلمة مؤمن تتداول في شتى مجالات الحياة، من أفكار ومعتقدات أو فلسفات أو علوم، فهناك من يؤمن بنظرية علمية أو رأي فلسفي أو مذهب ديني، وتوجد اختلافات لا حصر لها فيما يؤمن به البشر، وكل منهم متمسك بإيمانه، فهل المؤمن في المسيحية يتساوى مع هذا المضمون أم يختلف؟!.
الحقيقة أن كل من اعتنق فكر يسمى به. فمن يؤمن بالماركسية يُدعى ماركسي، أو الشيوعية يُدعى شيوعي، أو البوذية فهو بوذي.. الخ، وهكذا من يؤمن بالمسيحية يُدعى مسيحي. فكلمة مؤمن تطلق على عموم معتنقي الفكر أو النظرية أو المعتقد أو الدين. لذا كان عنوان حديثي [مؤمن بالمسيح ... أم مسيحي]، فلست أتحدث عن عامة الشعب المؤمن بالمسيح وبالمسيحية كدين، بل أتحدث عن شخص يعيش حياة المسيح فيستحق أن يُدعى "مسيحي أو بالأحرى مسيح".
فالمسيحية ليست دين يُعتنق، بل هي اسلوب حياة أو بالأحرى "حياة"، وهذا ما أعلنه رب المجد عن سبب تجسده ومجيئه لأرضنا فقال " .. ، وَأَمَّا أَنَا فَقَدْ أَتَيْتُ ‍لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ. (يو10: 10)"، وهكذا أكد الحقيقة لتوما حينما سأله عن كيف نعرف الطريق؟ قَالَ لَهُ يَسُوعُ: "أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ".( يو14: 6 )، فهو الطريق الوحيد لمغفرة الخطايا، والحق الوحيد الذي لا سواه يرشد الناس، والحياة الحقيقية أي الحياة الأبدية، لأن كل من يؤمن بالرب يسوع ويسير في طريقه تابعاً للحق فأنه " يحيا "، وهذا ما أختبره الرسول بولس في حياته فقال " لأَنَّ ‍لِيَ الْحَيَاةَ هِيَ الْمَسِيحُ وَالْمَوْتُ هُوَ رِبْحٌ". (في 1: 21)، فالأمر لم يتوقف عند كلمات الإيمان بل أصبح جوهــر الحــياة.
+ الإيمان في ضوء الكتاب المقدس.
الإيمان كما جاء بالكتاب المقدس لم يقتصر على ترك عبادة الوثن بكل أشكالها ومعتقداتها، والإقرار بوجود الله وسلطانه على العالم بأثره، بل تنفيذ وصايا الله في طاعة تامة والسير في طريقه بأمانة وكمال، وهذا ما طلبه الله من أبراهيم " أَنَا اللهُ الْقَدِيرُ. سِرْ أَمَامِي وَكُنْ ‍كَامِلاً". (تك 17: 1) أي الحياة العملية بالوصية، وهذا يؤكده العهد الجديد بقول الرسول بولس " وَكَيْفَ ‍رَجَعْتُمْ إِلَى اللهِ مِنَ الأَوْثَانِ، لِتَعْبُدُوا اللهَ الْحَيَّ الْحَقِيقِيَّ".(1تس 1: 9)، ويشاركه الفكر الرسول يعقوب فيكتب " أَنْتَ تُؤْمِنُ أَنَّ اللهَ وَاحِدٌ. حَسَنًا تَفْعَلُ. وَالشَّيَاطِينُ يُؤْمِنُونَ وَيَقْشَعِرُّونَ! (يع2: 19)، موضحاً عدم نفع هذا الإيمان للحياة " مَا الْمَنْفَعَةُ يَا إِخْوَتِي إِنْ قَالَ أَحَدٌ إِنَّ لَهُ إِيمَانًا وَلكِنْ لَيْسَ لَهُ أَعْمَالٌ، هَلْ ‍يَقْدِرُ الإِيمَانُ أَنْ يُخَلِّصَهُ؟ (يع2: 14)، فأن لم يكن في حياتك "ثـمر" أي عمل الإيمان، ويختلف عن عمل الشياطين فأنت نظيرهم في الإيمان، وهذا دلل علية كاتب رسالة العبرانيين وهو يقول " الَّذِينَ ‍بِالإِيمَانِ: قَهَرُوا مَمَالِكَ، صَنَعُوا بِرًّا، نَالُوا مَوَاعِيدَ، سَدُّوا أَفْوَاهَ أُسُودٍ". (عب11: 33)، تأمل أنها أعمال الإيمان، وهذا ما يعلنه الكتاب المقدس بعهديه.
فلا نقرأ في الكتاب المقدس عن الإيمان القولي، بل الإيمان العملي في الحياة، فبرجوعنا إلى سفر التكوين نرى أول ذكر لكلمة "إيمان" ومنها نعرف المعنى المقصود " فَ‍آمَنَ بِالرَّبِّ فَحَسِبَهُ لَهُ بِرًّا. (تك 15: 6)، والكلام هنا عن أبرام "إبراهيم" ابو المؤمنين، ونسأل بماذا آمن أبرام؟ فأبرام كان يؤمن بوجود الله، لأنه نسل سام ابن نوح الناجي من غضب الله "بتنفيذ " أمر الرب له بصنع الفلك، لأن نوح "آمن = صدق" بقول الرب له فنفذ الأمر، وهكذا أبرام الخارج مع تارح أبيه من أور الكلدانيين قاصداً كنعان، ليبتعد عن الوثنية، فيسمع دعوة الله له بترك أهله وعشيرته ويذهب إلى الأرض التي يريها له، وهنا نرى مرة أخرى "التصديق = الإيمان " فيخرج أبرام وهو لا يعلم إلى أين يذهب، لكنه في يقين من قيادة الله له، ويأتي إلى أرض كنعان، ويبني مذبح للعبادة والشكر ويدعو باسم الرب، ويعده الله بالبركة وبالنسل الكثير رغم أنه كان بلا نسل وتقدم في السن هو وزوجته، إلا أنه آمن في وعد الله، وعلى هذا الوعد تصرف في حياته عندما طلب منه الرب تقديم أسحق ذبيحة فشرع في التنفيذ دون تردد، هذا هو الإيمان "التنفيذ "، فإيمان أبرام يقول ويؤكد [الله وعد فأنا سأنفذ ما يطلبه بكل يقين وطاعة]، فيقينية ثقته في الله تقوده للطاعة الكاملة، وهنا يقول الروح " فَ‍آمَنَ بِالرَّبِّ فَحَسِبَهُ لَهُ بِرًّا. (تك6:15)، بالفعل وليس بالقول نال البر أمام الله، وهكذا تأتي كلمة "إيمان" عبر اسفار العهد القديم بصيغة "التنفيذ العملي للوصية"، ويضيق المجال للإسهاب.
لكن الروح القدس يعلن عتاب الرب لشعبه على عدم السلوك بالإيمان، أي عدم " تنفيذ " الوصية في حياتهم والاكتفاء بالكلمات والشعارات بقوله "الابْنُ يُكْرِمُ أَبَاهُ، وَالْعَبْدُ يُكْرِمُ سَيِّدَهُ. فَإِنْ كُنْتُ أَنَا أَبًا، فَأَيْنَ كَرَامَتِي؟ ‍وَإِنْ كُنْتُ سَيِّدًا، فَأَيْنَ هَيْبَتِي؟ قَالَ لَكُمْ رَبُّ الْجُنُودِ. أَيُّهَا الْكَهَنَةُ الْمُحْتَقِرُونَ اسْمِي. وَتَقُولُونَ: بِمَ احتقرنا اسمك؟ (ملا 1: 6)، أنه عتاب لنا نحن أيضًا على سلوكنا الغير منضبط في هذه الأيام، فيقول الرب بحزن وتعجب "أين حياتكم من كلماتكم؟!؛ فأنتم تنادوني في صلواتكم أباً دون احترام وورع، وسيداً دون تقدير ومخافة في تصرفاتكم، فما هي هذه الحياة المزدوجة الضعيفة المرتبكة؟! أليس هذا هو حال "المؤمنين" في هذه الأيام؟، وهل يمكن أن تكون لشخص هذه الحياة ونحن ندعوه مؤمن؟!
أيضاً كلمة "إيمان" واضحة في العهد الجديد من خلال رسالتي رومية ويعقوب نرى وجهي عملة "الإيمان"، فنرى في رسالة رومية الإيمان الذي به نخلص من خطايانا التي فعلناها في جهل حياتنا الوثنية، وبعد قبولنا للرب سيداً وإلهاً لنا في خضوع تام له "لأَنَّكَ إِنِ اعْتَرَفْتَ بِفَمِكَ بِالرَّبِّ يَسُوعَ، وَآمَنْتَ بِقَلْبِكَ أَنَّ اللهَ أَقَامَهُ مِنَ الأَمْوَاتِ، خَلَصْتَ"( رو10: 9)، وبهذا الإيمان القلبي المُعلن نصير ابرار ونحيا في سلام مع الله " فَإِذْ قَدْ ‍تَبَرَّرْنَا بِالإِيمَانِ لَنَا سَلاَمٌ مَعَ اللهِ بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ. (رو 5: 1)، وفي رسالة يعقوب نرى ضرورة العمل الذي يؤكد ويُظهر إيماننا في حياتنا اليومية " فَتَرَى أَنَّ الإِيمَانَ عَمِلَ مَعَ أَعْمَالِهِ، وَبِالأَعْمَالِ أكْمِلَ الإِيمَانُ". (يع2: 22)، (وكلمة أكمل هنا تعني أظهر) وهذه حقيقة أن "ما في قلوبنا تظهره أعمالنا وتصرفاتنا في الحياة"، وبهذا يشهد الأخرون لإيماننا، فبحياتك وليس بكلماتك تعلن أنك "مؤمن أي مسيحي".
+ من هو المسيحي؟!
فقد تبارى الوعاظ من كل الطوائف والمذاهب المسيحية في تقديم رسالة المسيح في عبارات لغوية رنانة لجذب الناس لسماعهم "فأخذتهم بلاغة اللغة وفلسفة العقيدة بعيدًا عن بساطة وصدق الرسالة وجوهرها "، واهتموا بتقديم الحقائق الكتابية بفلسفاتهم وقناعاتهم الشخصية، وهي مختلفة ومتنوعة في التعبير والمضمون، دون التركيز على جوهـر "حياة" الفرد وسلوكياته، فاهتمامهم ينصب على "إيمان" الفرد بالمعتقدات والتأويلات والتفسيرات المعقدة لنصوص الكتاب المقدس، وذلك لخدمة المعتقد الذي ينتمي إلية مقدم الرسالة، وفور اقتناع الفرد وقبوله الفكرة أو المعتقد يلقب بـ "المؤمن"، وينادى بالأخ فلان، دون اختبار حياة حقيقي، مجرد مقتنع بالفكر، وبعد اسابيع قليلة نجد هذا الأخ يتأبط الكتاب المقدس، فقد صار واعظًا. لذلك أصبح الإيمان للفرد أي "المؤمن" مجرد كلمات وشعارات تُرفع دون مضمون في الحياة، لعدم تنفيذ ما يُعلم ويُنادى به، وضاع مضمون الكلمة وقوة فعلها.
فحديثي من البداية إلى أخي "المسيحي" الذي يتمثل بحياة المسيح، ولكن لكيلا يفهم القصد خطأ بدأت بكلمة "المؤمن" كمفهوم عام وشائع في الأوساط الدينية، والحقيقة كلمة مؤمن في الوسط الديني أصبحت كلمة بلا معنى في الحياة، فما نراه ونلمسه على أرض الواقع يعلن أنها استُهلكت، بل فُرغت من مضمونها تماماً من زمن ولم يتبقى منها إلا "حروفها" لتستخدم كلقب، فقد لقب بها كل من تطأ قدمه قاعة الاجتماعات بأي كنيسة، وهذا باطل يراد به حق، فهو مؤمن بالمسيح وبالمسيحية كدين، أنما "المسيحي" فهذا أمر آخر.
صديقي. دعنا نعود إلى كلمة الله في بساطتها وعمقها وقوتها
ونرتشف من ينبوعها قطرات ماء حي، لنرتوي من الظماء الذي أصابنا من تعاليم العالم وفلسفاته، ونعرف الحقيقة الجوهرية لحياة المسيحي، فلا نبحر في غياهب جهل الفلسفة والمعتقدات، بل ترسو سفينة حياتنا على مرفأ الإيمان الصادق في حياة عملية تمجد الله وحده، فنُدعى من العالم مسيحيين كما التلاميذ في انطاكية قديما " وَدُعِيَ التَّلاَمِيذُ "‍مَسِيحِيِّينَ" فِي أَنْطَاكِيَةَ أَوَّلاً. (أع 11: 26)، والسؤال: لماذا دعي التلاميذ بالمسيحيين؟!، والإجابة هي من خلال التصرفات الحياتية لهم عرف أهل انطاكية مَن يتبع هؤلاء التلاميذ، أنه السيد المعلم "المسيح" فدعوهم باسمه. وهنا نقف في تأمل مدققين في كلمتين هامتين غابتا عن الأذهان في خضم فلسفة الوعظ، وهما (تلاميذ - مسيحيين).
التلميذ = مسيحي: وجهين لعملة واحدة {التلميذ هو المسيحي والمسيحي هو التلميذ}، فالتلميذ هو الشخص الذي يتبع معلمه في كل مناحي الحياة، أي يحاكي معلمه في كل شيء، وهذا ما أكده الرب يسوع " يَكْفِي التِّلْمِيذَ أَنْ يَكُونَ كَمُعَلِّمِهِ". (مت 10: 25)، فعندما يعيش ويتصرف ويتكلم التلميذ كمعلمه، يلقبه الناس باسم معلمه، لأنه يجب على من أتبع معلم يعيش تعاليم معلمه التي آمن بها في كل سلوكيات الحياة، وذلك ما حدث مع التلاميذ فهم عاشوا وتصرفوا وتكلموا وخدموا كمعلمهم المسيح فدعوهم "مسيحيين ". {ولم يدعوهم المؤمنين بالمسيح}.
+ الحقيقة المجردة.
تأمل معي [ليس كل المسيحيين مؤمنين، ولكن كل المؤمنين مسيحيين]،{ كل المسيحين مؤمنين، لكن ليس كل المؤمنين مسيحيين}، ما رأيك في العبارتين؟ إيهما توافق واقع أيامنا هذه؟! في العبارة الأول نرى هذا القول نودي به من سنوات وليومنا هذا يُردد، أن المؤمنين بالمسيح هم المسيحيين، وأقول نعم ولكن أي إيمان " إيمان القول أم سلوك الحياة؟!، فهم يعرفون الكثير عن الحقائق المسيحية ويؤمنون ويتكلمون بها، ولكنهم قط لم يعيشوها في حياتهم، فهل هم فعلاً مسيحيين؟! أم مؤمنون بالمسيح "فهم ينتمون إلى المسيحية فقط". ولكن رغم هذا ندعوهم مؤمنين بل مسيحيين!، لماذا لأنهم يعترفون بالمسيح قولاً، فلا يستطيع أحد أن يمنع لقب مؤمن أو مسيحي عنهم، كما سبق ووضحنا أن كل معتنق فكر يُطلق اسمه عليه، والقصد من العبارة كان هو: الفصل بين المنتمي للمسيحية بالاسم، ومن يعيش حياة الإيمان بتعاليمها في حياته، والكلمة المفصلية في العبارة "مؤمن" أو بالأحرى "مسيحي". لكن واقع الحياة الأن شيء آخر!!
أما في العبارة الثانية تقدمت الحياة المسيحية الحقيقية على لقب الإيمان، فأصبح الفرد لأنه يعيش بالإيمان تعاليم المسيح في حياته وتصرفاته فهو "مسيحي"، فليس كل من أدعى الإيمان بالمسيح صار مسيحيًا، حتى وإن كرز بالمسيح أو قدم خدمات متنوعة باسم المسيح، تذكر قول الرب: " كَثِيرُونَ سَيَقُولُونَ لِي فِي ذلِكَ الْيَوْمِ: يَا رَبُّ، يَا رَبُّ! ‍ ألَيْسَ بِاسْمِكَ تَنَبَّأْنَا، وَبِاسْمِكَ أَخْرَجْنَا شَيَاطِينَ، وَبِاسْمِكَ صَنَعْنَا قُوَّاتٍ كَثِيرَةً؟ فَحِينَئِذٍ أُصَرِّحُ لَهُمْ: إِنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ! اذْهَبُوا عَنِّي يَا فَاعِلِي الإِثْمِ!" (مت 7: 22-23)، بل العبرة بسلوك الحياة في وصية الرب والتمثل بالمسيح، وهذ هو الفارق الذي اريد أن أعلنه بالحياة وليس بلقب مؤمن أنا "مسيحي".
أنظر إلى خدام الكنائس في كل المجالات "المؤمنين" كما ندعوهم وتأمل حياتهم جيداً "وهذا ليس تعميم"، بل نظرة لنرى الحالة، تأمل.. ماذا ترى؟! ألا تتعجب وتسأل هل هذه هي المسيحية؟! أين قدسية تعاليم المسيح؟ لماذا تحولت إلى شعارات دون حياة؟ أين حب المسيح وغفرانه وسماحته واتضاعه وقداسته ... الخ؟!، فأنك تسمع الكثير والكثير من العظات عن هذه الصفات العظيمة، ولكن تبحث عنها في حياة من يعظ بها فلا تجدها، فهل هذا "مؤمن" أي مسيحي؟، وهل هذا هو الإيمان الذي نتمسك به؟!، يمكن أن ندعو هؤلاء "المتمسحين" المدعين الإيمان المنكرون له بالأعمال دون حياة كما المسيح بـ "المسيحيين؟!".