آراء و أقلام إنجيلية

يوحنا المعمدان: وقف مع الحق ضد القوة

  • بقلم: ق. عيد صلاح

"أَمَّا الصَّبِيُّ فَكَانَ يَنْمُو وَيَتَقَوَّى بِالرُّوحِ، وَكَانَ فِي الْبَرَارِي إِلَى يَوْمِ ظُهُورِهِ لإِسْرَائِيلَ." (لو 1: 80).
يوحنا المعمدان ولد بطريقة معجزية وترك العالم بطريقة ماسوية، وما بين الولادة والموت كان رسالته وشهادته قوية فهو تحقيق لنبوة إشعياء: "صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ. قَوِّمُوا فِي الْقَفْرِ سَبِيلًا لإِلَهِنَا." (إش 40: 3). التي ذكرها متى: "فَإِنَّ هذَا هُوَ الَّذِي قِيلَ عَنْهُ بِإِشَعْيَاءَ النَّبِيِّ الْقَائِلِ: صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ. اصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً" (مت 3: 3). ومرقس: "صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ، اصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً." (مر 1: 3). وفي متى يقول المسيح عن يوحنا: "اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: لَمْ يَقُمْ بَيْنَ الْمَوْلُودِينَ مِنَ النِّسَاءِ أَعْظَمُ مِنْ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانِ، وَلكِنَّ الأَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ أَعْظَمُ مِنْهُ." (مت 11: 11). "لأَنَّهُ يَكُونُ عَظِيمًا أَمَامَ الرَّبِّ، وَخَمْرًا وَمُسْكِرًا لاَ يَشْرَبُ، وَمِنْ بَطْنِ أُمِّهِ يَمْتَلِئُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ." (لو 1: 15). وسجل عنه مرقس: "أَنَّهُ رَجُلٌ بَارٌّ وَقِدِّيسٌ" (مر 6: 20).
ويقول عنه يوحنا في إنجيليه: "هذَا جَاءَ لِلشَّهَادَةِ لِيَشْهَدَ لِلنُّورِ، لِكَيْ يُؤْمِنَ الْكُلُّ بِوَاسِطَتِهِ." (يو 1: 7). وعندما وجه إليه سؤالاً: "فَسَأَلُوهُ وَقَالُوا لَهُ: فَمَا بَالُكَ تُعَمِّدُ إِنْ كُنْتَ لَسْتَ الْمَسِيحَ، وَلاَ إِيلِيَّا، وَلاَ النَّبِيَّ؟ "أَجَابَهُمْ يُوحَنَّا قِائِلًا: أَنَا أُعَمِّدُ بِمَاءٍ، وَلكِنْ فِي وَسْطِكُمْ قَائِمٌ الَّذِي لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ." (يو 1: 25-26).
مع ولادة يوحنا الله يتدخل بصورة متميزة:
ولادة يوحنا المعمدان تعيد بالذاكرة الكتابيّة تدخل الله مع إبراهيم في الوعد بالبركة بالرغم من العقم، فسارة كانت عاقرًا وكذلك رفقة وراحيل وحنة أم صموئيل والله قد تدخل معهن بطريقة معجزية، وهو ما حدث مع زكريا وأليصابات "وَلَمْ يَكُنْ لَهُمَا وَلَدٌ، إِذْ كَانَتْ أَلِيصَابَاتُ عَاقِرًا. وَكَانَا كِلاَهُمَا مُتَقَدِّمَيْنِ فِي أَيَّامِهِمَا." (لو 1: 7). والسؤال الذي سأله زكريا يؤكد ذلك: "فَقَالَ زَكَرِيَّا لِلْمَلاَكِ: كَيْفَ أَعْلَمُ هذَا، لأَنِّي أَنَا شَيْخٌ وَامْرَأَتِي مُتَقَدِّمَةٌ فِي أَيَّامِهَا؟" (لو 1: 18). على مدار التاريخ الله يعمل بطريقته وليس بتوقعاتنا، بإرادته وليس بإرادتنا، فمع كل أزمة هناك مخرج لها.
تكامل الرؤى في تعاون بعيدًا عن الصراع:
ولد المسيح مع يوحنا في عام واحد، وتقاربت الرؤى والخدمات، وبالرغم من ذلك لم تحدث مشكلة أو صراع قيادات. ومن الأمور المتعارف عليها أن بعض الأزمات تحدث في المجتمع أو الخدمة عندما يتقارب الأقران في السن ولا سيما في موضع القيادة. والأناجيل تعبر على أن هناك شخصان في غاية الأهمية وفي غاية القوة قد ظهرا معًا في وقت واحد: المسيح ويوحنا كنموذج يحتذى به في العلاقات بين الخدام والقادة، يوحنا كان دوره هو أن يشير إلى شخص المسيح، أن يعيد الطريق للملك. من الملاحظ أن يوحنا لم يغر أو يتضايق من ذهاب بعض من تلاميذه إلى تبعية المسيح كما سجل يوحنا ذلك (يو 1: 53-42)، ويسجل لنا سفر أعمال الرسل أن هناك ولاء لتلاميذ يوحنا له وقد ظلوا أوفياء له (أع 19: 1-7).
خدمة يوحنا:
خدمة يوحنا هي خدمة الشخص في أي وقت أو أي مكان الذي يقود الناس إلى المسيح ويشاور عليه "وَفِي الْغَدِ نَظَرَ يُوحَنَّا يَسُوعَ مُقْبِلًا إِلَيْهِ، فَقَالَ: هُوَذَا حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ!" (يو 1: 29). وفي وقت المقارنة بينه وبين المسيح قال أيضًا: "يَنْبَغِي أَنَّ ذلِكَ يَزِيدُ وَأَنِّي أَنَا أَنْقُصُ." (يو 3: 30). يا لروعة هذا الرجل، فهو يعرف قدر نفسه ويعرف من يتعامل معه. قال نابليون بونابرت: إذ أتى سقراط ودخل الحجرة فيجب أن نقوم أمامه ونحترمه، ولكن إذا أتى يسوع ودخل الحجرة فينبغي أن نركع على ركبنا ونسجد له." أدرك يوحنا من هو المسيح وهو جنين في بطن أمه: "فَهُوَذَا حِينَ صَارَ صَوْتُ سَلاَمِكِ فِي أُذُنَيَّ ارْتَكَضَ الْجَنِينُ بِابْتِهَاجٍ فِي بَطْنِي." (لو 1: 44). ومن وهو جنين حتى سؤاله من السجن: "فَدَعَا يُوحَنَّا اثْنَيْنِ مِنْ تَلاَمِيذِهِ، وَأَرْسَلَ إِلَى يَسُوعَ قَائِلًا: أَنْتَ هُوَ الآتِي أَمْ نَنْتَظِرُ آخَرَ؟" (لو 7: 19). وهو يعرف من هو يسوع، والمسيح أيضًا رأي في قصة يوحنا في الرفض والقتل صورة له، ولذلك حين سمع عن قتل يوحنا "فَلَمَّا سَمِعَ يَسُوعُ انْصَرَفَ مِنْ هُنَاكَ فِي سَفِينَةٍ إِلَى مَوْضِعٍ خَلاَءٍ مُنْفَرِدًا. فَسَمِعَ الْجُمُوعُ وَتَبِعُوهُ مُشَاةً مِنَ الْمُدُنِ." (مت 14: 13).
مدخل للاقتراب من شخصية يوحنا:
نقف عند محطات هامة في تاريخ وقصة يوحنا لكي نأخذ بعض العبر والدروس لوقتنا الحاضر ونطبقها في حياتنا سنقف عن تكوينه الشخصي وخروجه للرسالة ثم نهاية حياته، ففي تكوينه الشخصي: نقف عن القدرة على النمو، وفي خروجه ورسالته نقف عن الرسالة والصوت النبوي، ثم في نهاية حياته نقف عند الضمير والمسؤولية والتكلفة. وفي كل مواقفه هو كإيليا في العهد القديم الذي وقف مع الحق ضد القوة.
أولاً: التكوين والقدرة على النمو
في نهاية الإصحاح الأول من إنجيل لوقا يكون الكلام عن يوحنا "أَمَّا الصَّبِيُّ فَكَانَ يَنْمُو وَيَتَقَوَّى بِالرُّوحِ، وَكَانَ فِي الْبَرَارِي إِلَى يَوْمِ ظُهُورِهِ لإِسْرَائِيلَ." (لو 1: 80). وهي نفس تشابه النهاية الواردة في الإصحاح الثاني عن المسيح "وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ يَتَقَدَّمُ فِي الْحِكْمَةِ وَالْقَامَةِ وَالنِّعْمَةِ، عِنْدَ اللهِ وَالنَّاسِ." (لو 2: 52). ولد يوحنا بمعجزة وعاش في طفولة متوترة من جراء ما فعلة هيرودس مع قتل الأطفال والكتاب المقدس لم يقل لنا كيف أنقذ يوحنا لكن بعض المصادر تقول إن أمه هربت به إلى الجبال. والكتاب المقدس يذكر عنها أنه عاش في البراري (لو 1: 8) وتحدث متى عن طريقة لبسه ونوع أكله: "وَيُوحَنَّا هذَا كَانَ لِبَاسُهُ مِنْ وَبَرِ الإِبِلِ، وَعَلَى حَقْوَيْهِ مِنْطَقَةٌ مِنْ جِلْدٍ. وَكَانَ طَعَامُهُ جَرَادًا وَعَسَلًا بَرِّيًّا." (مت 3: 4).
ربما تكون الحياة التي عاشها حياة قاسية ولكنها مالت إلى الزهد في الحياة ومن البرية كانت نقطة انطلاقة يوحنا كما كانت نقطة انطلاقة المسيح (متى 4: 1) وليس العكس، كانت البرية مرحلة إعداد ولم تكن مقرًا وإقامة. يبدو أن يوحنا رفض السلك الكهنوتي استمرارًا لوالده زكريا. كان يوحنا ينمو في فهمه لذاته وفي فهمه لله، وفهمه بما يحدث في المجتمع الذي يعيش فيه، وبالتالي فهم رسالته جيدًا. هذا النمو جعله مؤهلًا أن يتلقى كلمة الله ويتميز في دعوته بالرغم من وجود السلطة السياسيّة والسلطة الدينيّة أي رجال الدين والسياسة: "وَفِي السَّنَةِ الْخَامِسَةِ عَشْرَةَ مِنْ سَلْطَنَةِ طِيبَارِيُوسَ قَيْصَرَ، إِذْ كَانَ بِيلاَطُسُ الْبُنْطِيُّ وَالِيًا عَلَى الْيَهُودِيَّةِ، وَهِيرُودُسُ رَئِيسَ رُبْعٍ عَلَى الْجَلِيلِ، وَفِيلُبُّسُ أَخُوهُ رَئِيسَ رُبْعٍ عَلَى إِيطُورِيَّةَ وَكُورَةِ تَرَاخُونِيتِسَ، وَلِيسَانِيُوسُ رَئِيسَ رُبْعٍ عَلَى الأَبِلِيَّةِ، فِي أَيَّامِ رَئِيسِ الْكَهَنَةِ حَنَّانَ وَقَيَافَا، كَانَتْ كَلِمَةُ اللهِ عَلَى يُوحَنَّا بْنِ زَكَرِيَّا فِي الْبَرِّيَّةِ." (لو 3: 1-3). النمو أيضًا جعله يميز بين القمح والتبن، ويكرز بالتوبة وعظًا ومشجعًا الناس على التوبة.
قضية النمو في شخصية يوحنا يماثلها النمو في شخصية المسيح الذي كان ينمو في النعمة والحكمة والقامة عند الله والناس، يقابل ذلك الحث على النمو بالنسبة للمؤمنين "وَلكِنِ انْمُوا فِي النِّعْمَةِ وَفِي مَعْرِفَةِ رَبِّنَا وَمُخَلِّصِنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ. لَهُ الْمَجْدُ الآنَ وَإِلَى يَوْمِ الدَّهْرِ. آمِينَ." (2 بط 3: 18).
وقد أخذ الكتاب المقدس من شجر الأرز رمزًا للثبات والاستقامة: "اَلصِّدِّيقُ كَالنَّخْلَةِ يَزْهُو، كَالأَرْزِ فِي لُبْنَانَ يَنْمُو" (مز 92: 12) والنمو دائمًا يكون لرسالة وهدف: "بَلْ صَادِقِينَ فِي الْمَحَبَّةِ، نَنْمُو فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَى ذَاكَ الَّذِي هُوَ الرَّأْسُ: الْمَسِيحُ، الَّذِي مِنْهُ كُلُّ الْجَسَدِ مُرَكَّبًا مَعًا، وَمُقْتَرِنًا بِمُؤَازَرَةِ كُلِّ مَفْصِل، حَسَبَ عَمَل، عَلَى قِيَاسِ كُلِّ جُزْءٍ، يُحَصِّلُ نُمُوَّ الْجَسَدِ لِبُنْيَانِهِ فِي الْمَحَبَّةِ." (أف 4: 15-16). هدف النمو هو شخص المسيح وغرض النمو حياة البنيان. وهي أمور تتحدانا في حياتنا الروحية، وبالتالي النمو رحلة عمر وليس محطة وصول.
ثانيًا: الخروج، الرسالة والصوت النبويّ
في التعاليم والأقوال التي قالها عن نفسه وعن المسيح تبين أنه صاحب رسالة، وهدف الرسالة هو إعداد الطريق أمام المسيا الملك الآتي، فعندما سئل قال: صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: أَعِدُّوا طَرِيقَ الرَّبِّ، اصْنَعُوا سُبُلَهُ مُسْتَقِيمَةً." (مر 1: 3). يُعدّ الطريق أمام المسيح: "وَهذِهِ هِيَ شَهَادَةُ يُوحَنَّا، حِينَ أَرْسَلَ الْيَهُودُ مِنْ أُورُشَلِيمَ كَهَنَةً وَلاَوِيِّينَ لِيَسْأَلُوهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَاعْتَرَفَ وَلَمْ يُنْكِرْ، وَأَقَرَّ: إِنِّي لَسْتُ أَنَا الْمَسِيحَ. فَسَأَلُوهُ: إِذًا مَاذَا؟ إِيلِيَّا أَنْتَ؟ فَقَالَ: لَسْتُ أَنَا. أَلنَّبِيُّ أَنْتَ؟ فَأَجَابَ: لاَ. فَقَالُوا لَهُ: مَنْ أَنْتَ، لِنُعْطِيَ جَوَابًا لِلَّذِينَ أَرْسَلُونَا؟ مَاذَا تَقُولُ عَنْ نَفْسِكَ؟ قَالَ: أَنَا صَوْتُ صَارِخٍ فِي الْبَرِّيَّةِ: قَوِّمُوا طَرِيقَ الرَّبِّ، كَمَا قَالَ إِشَعْيَاءُ النَّبِيُّ. وَكَانَ الْمُرْسَلُونَ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ، فَسَأَلُوهُ وَقَالُوا لَهُ: فَمَا بَالُكَ تُعَمِّدُ إِنْ كُنْتَ لَسْتَ الْمَسِيحَ، وَلاَ إِيلِيَّا، وَلاَ النَّبِيَّ؟ أَجَابَهُمْ يُوحَنَّا قِائِلًا: أَنَا أُعَمِّدُ بِمَاءٍ، وَلكِنْ فِي وَسْطِكُمْ قَائِمٌ الَّذِي لَسْتُمْ تَعْرِفُونَهُ. هُوَ الَّذِي يَأْتِي بَعْدِي، الَّذِي صَارَ قُدَّامِي، الَّذِي لَسْتُ بِمُسْتَحِقّ أَنْ أَحُلَّ سُيُورَ حِذَائِهِ. هذَا كَانَ فِي بَيْتِ عَبْرَةَ فِي عَبْرِ الأُرْدُنِّ حَيْثُ كَانَ يُوحَنَّا يُعَمِّدُ. وَفِي الْغَدِ نَظَرَ يُوحَنَّا يَسُوعَ مُقْبِلًا إِلَيْهِ، فَقَالَ: هُوَذَا حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ! (يو 1: 19-29).
محتوى تعليم المعمدان:
1- ركَّز على التوبة كأساس وركيزة للتعامل مع الله: "وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ جَاءَ يُوحَنَّا الْمَعْمَدَانُ يَكْرِزُ فِي بَرِّيَّةِ الْيَهُودِيَّةِ قَائِلًا: تُوبُوا، لأَنَّهُ قَدِ اقْتَرَبَ مَلَكُوتُ السَّماوَاتِ." (مت 3: 1-2). وطالب بثمر التوبة في الحياة الروحية قائلاً: "فَاصْنَعُوا أَثْمَارًا تَلِيقُ بِالتَّوْبَةِ". (مت 3: 8). وهناك تحذير شديد اللهجة في إعلان الدينونة قائلاً: "وَالآنَ قَدْ وُضِعَتِ الْفَأْسُ عَلَى أَصْلِ الشَّجَرِ، فَكُلُّ شَجَرَةٍ لاَ تَصْنَعُ ثَمَرًا جَيِّدًا تُقْطَعُ وَتُلْقَى فِي النَّارِ." (مت 3: 10). وهناك حتمية الفصل: "الَّذِي رَفْشُهُ فِي يَدِهِ، وَسَيُنَقِّي بَيْدَرَهُ، وَيَجْمَعُ قَمْحَهُ إِلَى الْمَخْزَنِ، وَأَمَّا التِّبْنُ فَيُحْرِقُهُ بِنَارٍ لاَ تُطْفَأُ»." (مت 3: 12).
2- شملت التوبة نواحي الحياة الروحية والعامة، فخاطب قضايا الفضاء العام وربطها بقضية التوبة، وقد ربط يوحنا بين الفكر والسلوك، بين العمل الروحي والعمل العام وتفاصيل الحياة فقد خاطب أربع فئات في إنجيل متى: فئة الفريسيين والصدوقيين: "فَلَمَّا رَأَى كَثِيرِينَ مِنَ الْفَرِّيسِيِّينَ وَالصَّدُّوقِيِّينَ يَأْتُونَ إِلَى مَعْمُودِيَّتِهِ، قَالَ لَهُمْ: يَا أَوْلاَدَ الأَفَاعِي، مَنْ أَرَاكُمْ أَنْ تَهْرُبُوا مِنَ الْغَضَبِ الْآتِي؟ فَاصْنَعُوا أَثْمَارًا تَلِيقُ بِالتَّوْبَةِ. وَلاَ تَفْتَكِرُوا أَنْ تَقُولُوا فِي أَنْفُسِكُمْ: لَنَا إِبْراهِيمُ أَبًا. لأَنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ اللهَ قَادِرٌ أَنْ يُقِيمَ مِنْ هذِهِ الْحِجَارَةِ أَوْلاَدًا لإِبْراهِيمَ. (مت 3: 7-9). وهنا يعلم يوحنا عن عدم الاعتماد على النسب والعنصرية الدينية والعرقية، وهو نفس الموقف الذي انتقده المسيح في (يوحنا 8: 37-40). وفئة العامة من الشعب: "وَسَأَلَهُ الْجُمُوعُ قائِلِينَ: فَمَاذَا نَفْعَلُ؟ فَأَجَابَ وَقَالَ لَهُمْ: مَنْ لَهُ ثَوْبَانِ فَلْيُعْطِ مَنْ لَيْسَ لَهُ، وَمَنْ لَهُ طَعَامٌ فَلْيَفْعَلْ هكَذَا." (لو 3: 10-11). فئة العشارين: وَجَاءَ عَشَّارُونَ أَيْضًا لِيَعْتَمِدُوا فَقَالُوا لَهُ: يَا مُعَلِّمُ، مَاذَا نَفْعَلُ؟ فَقَالَ لَهُمْ: لاَ تَسْتَوْفُوا أَكْثَرَ مِمَّا فُرِضَ لَكُمْ. (لو 3: 12-13). وفئة العسكر: وَسَأَلَهُ جُنْدِيُّونَ أَيْضًا قَائِلِينَ: وَمَاذَا نَفْعَلُ نَحْنُ؟ فَقَالَ لَهُمْ: لاَ تَظْلِمُوا أَحَدًا، وَلاَ تَشُوا بِأَحَدٍ، وَاكْتَفُوا بِعَلاَئِفِكُمْ." (لو 3: 14). تبين من مخاطبة هذه الفئات أن يوحنا رغم أنه يبدو منعزلاً عن الناس لكنه في الحقيقة يعرف كل المشكلات والقضايا لدى الشعب بكامل فئاته، وكيف ربط بين حياة التوبة وحياة الاستقامة الأخلاقية والسلوكية. الرسالة الروحية ليست بمعزل عن الرسالة الاجتماعية.
3- لو جاء يوحنا في مجتمعنا اليوم لأنتقد الأوضاع الروحية والمالية والاجتماعية في الوقت الذي يدعو الناس للتوبة، كان لا بد أن ينتقد العلاقات الاجتماعية المشوهة بين البشر، والازدواجية المقيتة، والروحانيّة المزيفة، والفساد الماليّ والأخلاقيّ، كان لا بد أن ينتقد الفهلوة والاستسهال والغش، كان سينتقد غلاء الأسعار وجشع التجار...إلخ.
4- في دعوته كان قويًا، وفي إعداده للطريق كان واضحًا، بالرغم من ظهوره في المشهد كان هامشيًا، ولكنه مثل في وقته قمة الضمير والمسؤولية والحق.
ثالثًا: المسؤولية والضمير والتكلفة
في متى 14: 5-12 نجد أن صوت يوحنا يصل لأعلى سلطة في ذلك الوقت حيث ينتقد علاقة غير شرعية وقع فيها هيرودس، كان صوت يوحنا بدون مداهنة مدويًا بالقول: "لأَنَّ يُوحَنَّا كَانَ يَقُولُ لِهِيرُودُسَ: لاَ يَحِلُّ أَنْ تَكُونَ لَكَ امْرَأَةُ أَخِيكَ" (مر 6: 18). وكانت النتيجة كما يدونها متى: "فَإِنَّ هِيرُودُسَ كَانَ قَدْ أَمْسَكَ يُوحَنَّا وَأَوْثَقَهُ وَطَرَحَهُ فِي سِجْنٍ مِنْ أَجْلِ هِيرُودِيَّا امْرَأَةِ فِيلُبُّسَ أَخِيهِ، لأَنَّ يُوحَنَّا كَانَ يَقُولُ لَهُ: «لاَ يَحِلُّ أَنْ تَكُونَ لَكَ". (مت 14: 3-4). وردت تفاصيل هذه القصة في متى (مت 14: 3-12) ووردت بتفاصيل أكثر في مرقس (مر 6: 14-29).
صيحة "لا يحل لك" أصبحت شعارة للثورة على الظلم والفساد ونقد السلطة والغطرسة حتى لو كانت النتيجة قطع الراس فلابد من دفع الثمن. أن تطير راس يوحنا مكافأ لرقصة ابنة هيروديا في لحظة غياب للعقل من هيرودس، مجد التاريخ يوحنا في الوقت الذي خزل فيه هيرودس، وأصبح يوحنا أعظم المولدين على حد تعبير المسيح.
عرف يوحنا بالرجل الشجاع، الذي وقف مع الحق ضد القوة، عرف رسالته ووعى بذاته في حالة من النمو والتقدم ويقظة الضمير والمسؤولية دافعًا الثمن والتكلفة، فضل أن يعيش بلا رأس على أن يعيش بلا مبدأ في الحياة. وصدى هذه الكلمات أن القوة والشجاعة لا تأتي من فراغ، ولكن بتدريب يومي واعي مستمر، وإدراك واضح للمسؤولية، وهي رسالة لنا في كرازتنا ودعوتنا كصوت صارخ في برية هذا العالم نعد القلوب ونجهز الطريق لملك الملوك ورب الأرباب، وتكون خدمتنا دائمًا هي الإشارة المستمرة إلى المسيح: "هُوَذَا حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ!" (يو 1: 29). دعوة يوحنا للتوبة تضع أمامنا القواعد التسعة للتوبة التي سجلها إشعياء النبي بالقول:
- اِغْتَسِلُوا.
- تَنَقَّوْا.
- اعْزِلُوا شَرَّ أَفْعَالِكُمْ مِنْ أَمَامِ عَيْنَيَّ.
- كُفُّوا عَنْ فِعْلِ الشَّرِّ.
- تَعَلَّمُوا فَعْلَ الْخَيْرِ.
- اطْلُبُوا الْحَقَّ.
- انْصِفُوا الْمَظْلُومَ.
- اقْضُوا لِلْيَتِيمِ.
- حَامُوا عَنِ الأَرْمَلَةِ. (إش 1: 16-17)