حنة النبيّة نموذج ورسالة
8/12/2024 12:00:00 AM
وصف البشير لوقا حنة النبيَّة بالقول: "وَكَانَتْ نَبِيَّةٌ، حَنَّةُ بِنْتُ فَنُوئِيلَ مِنْ سِبْطِ أَشِيرَ، وَهِيَ مُتَقدِّمَةٌ فِي أَيَّامٍ كَثِيرَةٍ، قَدْ عَاشَتْ مَعَ زَوْجٍ سَبْعَ سِنِينَ بَعْدَ بُكُورِيَّتِهَا. وَهِيَ أَرْمَلَةٌ نَحْوَ أَرْبَعٍ وَثَمَانِينَ سَنَةً، لاَ تُفَارِقُ الْهَيْكَلَ، عَابِدَةً بِأَصْوَامٍ وَطَلِبَاتٍ لَيْلاً وَنَهَارًا. فَهِيَ فِي تِلْكَ السَّاعَةِ وَقَفَتْ تُسَبِّحُ الرَّبَّ، وَتَكَلَّمَتْ عَنْهُ مَعَ جَمِيعِ الْمُنْتَظِرِينَ فِدَاءً فِي أُورُشَلِيمَ" (لوقا 2: 36-38)
قصة الميلاد بكافة تفاصيلها هي غاية في التكامل والانسجام، وكل جزئية فيها تكمّل الأخرى، وليس في القصة ما يُسَمّى بالصدفة، ولكن كل حدث له معنى ومغزى. نحاول أن نقترب من شخصية حنة النبيّة التي ظهرت في قصة الميلاد، وخاصة في إنجيل لوقا، وسوف نركِّز أربعة مواقف، ونلاحظ أن البشير لوقا في إنجيله يركِّز على ذكر المرأة بصورة طيبة وإيجابية. وحسب إنجيل لوقا نجد نساءً ظهرن في قصة الميلاد بقوة مثل: مريم، إليصابات، حنة النبيّة. بل نجد أيضًا 43 إشارة عن النساء في إنجيل لوقا.
ويقول أحد الدارسين إن لوقا يذكر في إنجيله حوالي 13 امرأة لم تذكر في الأناجيل الأخرى ولعله كأممي يعرف المستوى الوضيع الذي انحدرت إليه المرأة في الوثنيّة. ولذلك فقد أراد أن يذكر كم قدّسها الإنجيل، وقدّسها الرب يسوع فهو يذكر أرملة نايين، والمرأة الخاطئة، واللاتي كن يبكين عليه عند الصليب، وفي قصة الميلاد وقيامته تظهر المرأة في مواقف مجدية (23: 49؛ 23: 50؛ 24: 11). (فهيم عزيز، مدخل العهد الجديد، 279-280). ولعل المتأمل فيما قاله الكتاب المقدّس عن حنة النبيّة نجده في أربعة مواقف:
1- نبيَّة: قضية المساواة
2- عابدة: قضية الانتماء
3- مُسَبّحة: أولوية التسبيح
4- شاهدة: يسوع محور الحياة
والدعوة لنا أنْ نتأمل الأربعة جوانب ونحاول تطبيقها في حياتنا المعاصرة، وبالتالي تكون قصة الميلاد ليست حدثًا وانتهى ولكنها قصة تبعث وتُقدِّم لنا المبادئ الروحية في مسيرة الحياة المسيحيّة.
أولاً: حنة النبيّة وقضية المساواة
هي أرملة قارب سنها من المائة عام، قال عنها أحد الدارسين إنَّها كوكب متميز مثلها مثل سمعان الشيخ. ومن أروع الأوصاف التي وصفها بها الكتاب هي "نبيَّة" والنبي في العهد القديم هو من يعلن رسالة الله للبشر. وقد سجَّل الكتاب المقدّس مجموعة من النبيات مثل: مريم "فَأَخَذَتْ مَرْيَمُ النبيّة أُخْتُ هَارُونَ الدُّفَّ بِيَدِهَا، وَخَرَجَتْ جَمِيعُ النِّسَاءِ وَرَاءَهَا بِدُفُوفٍ وَرَقْصٍ" (خروج 15: 20)؛ دبورة "وَدَبُورَةُ امْرَأَةٌ نَبِيَّةٌ زَوْجَةُ لَفِيدُوتَ، هِيَ قَاضِيَةُ إِسْرَائِيلَ فِي ذلِكَ الْوَقْتِ" (قض 4: 4)؛ خَلدة: "فَذَهَبَ حِلْقِيَّا الْكَاهِنُ وَأَخِيقَامُ وَعَكْبُورُ وَشَافَانُ وَعَسَايَا إِلَى خَلْدَةَ النبيّة"، (2 مل 22: 14)؛ نوعدية: "اذْكُرْ يَا إِلهِي طُوبِيَّا وَسَنْبَلَّطَ حَسَبَ أَعْمَالِهِمَا هذِهِ، وَنُوعَدْيَةَ النبيّة وَبَاقِيَ الأَنْبِيَاءِ الَّذِينَ يُخِيفُونَنِي" (نح 6: 14)؛ زوجة إشعياء: فَاقْتَرَبْتُ إِلَى النبيّة فَحَبِلَتْ وَوَلَدَتِ ابْنًا. فَقَالَ لِي الرَّبُّ: ادْعُ اسْمَهُ مَهَيْرَ شَلاَلَ حَاشَ بَزَ". (إش 8: 3)، وبنات فيلبس أربع عذارى كن يتنبأن: ثُمَّ خَرَجْنَا فِي الْغَدِ نَحْنُ رُفَقَاءَ بُولُسَ وَجِئْنَا إِلَى قَيْصَرِيَّةَ، فَدَخَلْنَا بَيْتَ فِيلُبُّسَ الْمُبَشِّرِ، إِذْ كَانَ وَاحِدًا مِنَ السَّبْعَةِ وَأَقَمْنَا عِنْدَهُ. وَكَانَ لِهذَا أَرْبَعُ بَنَاتٍ عَذَارَى كُنَّ يَتَنَبَّأْنَ. (أع 21: 8-9). بالإضافة إلى حنة النبيّة (لوقا 2: 36-38) يكون هناك سبع إشارات عن السيدات كنبيّات في الكتاب المقدّس. وحنة النبيّة كيوحنا المعمدان تصل العهد القديم بالجيد والماضي بالحاضر بالمستقبل.
قصة الميلاد أعطت للمرأة قيمة فقد تجسَّد المسيح من امرأة، وهناك نبيّة في قصة الميلاد، كذلك إليصابات تظهر بصورة قوية في مشهد الميلاد، وهذا يقودنا إلى مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة، ومن خلال السياق الكتابيّ نعرف أنَّ الرجل والمرأة متساويان في الخلق والمسؤولية الحضارية، والخطية، والفداء "لأَنَّهُ كَمَا فِي آدَمَ يَمُوتُ الْجَمِيعُ، هكَذَا فِي الْمَسِيحِ سَيُحْيَا الْجَمِيعُ." (1 كو 15: 22). وضمان الحياة الأبدية.
الجميع واحد في المسيح، هكذا عبر الرسول بولس، بالقول: "لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ. لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لأَنَّكُمْ جَمِيعًا وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ." (غل 3: 28). إذًا، لا فرق بين رجل وامرأة، قد تفرّق الثقافات والحضارات بين الرجل والمرأة، وتضع الحواجز والفواصل، وما أكثرها! ولكن المسيح يوحِّد الجميع، فنرى سمعان الشيخ وحنة النبيّة يتكلمان في الهيكل. كل له رسالة، كلاهما تحدث عن المسيح، وقد أشارا إليه بالمدلول الخلاصيّ.
ثانيًا: متعبدة، وقضية الانتماء
هي موجودة في الهيكل ليلاً ونهارًا، تتعبد لله، هذا دليل على الدوام والاستمرارية. وهي صورة ونموذج لمن يتعبد لله في الكنيسة بمواظبة واهتمام، فنحن نعبد الله في الكنيسة، ولنا انتماء وولاء لله وللمكان الذي نتعبد له فيه. حنة النبيّة متعبدة ليلا ونهارًا وهي موجودة بالهيكل، قلبها وكيانها في الهيكل، هي لا تتعامل مع الهيكل مجرد مكان للراحة أو الترفيه، أو نادي اجتماعي، ولكن مكان للعبادة؛ فقد تعلَّمت أنَّه ببيت الله تليق القداسة: "بِبَيْتِكَ تَلِيقُ الْقَدَاسَةُ يَا رَبُّ إِلَى طُولِ الأَيَّامِ" (مزمور 93: 5).
ولعل موقف حنة يضع أمامنا هذا السؤال: كيف نتعامل مع بيت الله الكنيسة؟ هل ندرك أن الكنيسة هي بيت الله (1تي3: 15)؟ هل نشعر بأنَّ هذا المكان مميز؟ أم التعود عليه أفقد قيمته فبات لا تأثير له؟
الانتماء لله والولاء الحقيقي له يقود بالطبع إلى الولاء والانتماء الحقيقي لبيت الله. "فَرِحْتُ بِالْقَائِلِينَ لِي: إِلَى بَيْتِ الرَّبِّ نَذْهَبُ" (مزمور 122: 1). لأَنَّ يَوْمًا وَاحِدًا فِي دِيَارِكَ خَيْرٌ مِنْ أَلْفٍ. اخْتَرْتُ الْوُقُوفَ عَلَى الْعَتَبَةِ فِي بَيْتِ إِلهِي عَلَى السَّكَنِ فِي خِيَامِ الأَشْرَارِ (مزمور 84: 10).
من أروع المفاهيم عن الكنيسة أنها كنيسة الله وليس كنيسة شخص مهما سمت مكانته، وهذا يجعلنا دائما أن نكون للمسيح وللكنيسة: "وَلكِنْ إِنْ كُنْتُ أُبْطِئُ، فَلِكَيْ تَعْلَمَ كَيْفَ يَجِبُ أَنْ تَتَصَرَّفَ فِي بَيْتِ اللهِ، الَّذِي هُوَ كَنِيسَةُ اللهِ الْحَيِّ، عَمُودُ الْحَقِّ وَقَاعِدَتُهُ." (1 تي 3: 15).
ثالثًا: مسبحة، أولويّة التسبيح
كانت موجودة في الهيكل تسبح الرب، هي أرملة، يبدو أن لا معيل لها، وليس لها أقارب، لها احتياجات، وفي ظروف خاصة من ناحية السن، ولكنها لم تركّز على الظروف الخاصة والصعبة في حياتها ولكنها ركَّزت على الرب في رحمته وغفرانه، ف صلاحه وكماله، في جوده وإحسانه. في كل الظروف والأحوال الرب صالح وإلى الأبد رحمته، وهذه هي الأغنية التي كان يرددها الشعب دائمًا في العبادة: "هَلِّلُويَا. اِحْمَدُوا الرَّبَّ لأَنَّهُ صَالِحٌ، لأَنَّ إِلَى الأَبَدِ رَحْمَتَهُ" (مزمور 106: 1).
ذكر حنة في إنجيل لوقا يعود بنا في قراءة انعكاسيّة إلى شخصية سميت بهذا الاسم، وفي موقف مختلف كان لها تسبيحة مشهورة، لتعلن عن مرحلة جديدة مع شعب الله، وبالمثل حنة النبيّة في العهد الجديد تعلن عن مرحلة جديدة في المسيح، ونجد هذه التسبيحة في صموئيل الأول الإصحاح الثاني:
"فَصَلَّتْ حَنَّةُ وَقَالَتْ: فَرِحَ قَلْبِي بِالرَّبِّ. ارْتَفَعَ قَرْنِي بِالرَّبِّ. اتَّسَعَ فَمِي عَلَى أَعْدَائِي، لأَنِّي قَدِ ابْتَهَجْتُ بِخَلاَصِكَ. لَيْسَ قُدُّوسٌ مِثْلَ الرَّبِّ، لأَنَّهُ لَيْسَ غَيْرَكَ، وَلَيْسَ صَخْرَةٌ مِثْلَ إِلهِنَا. لاَ تُكَثِّرُوا الْكَلاَمَ الْعَالِيَ الْمُسْتَعْلِيَ، وَلْتَبْرَحْ وَقَاحَةٌ مِنْ أَفْوَاهِكُمْ. لأَنَّ الرَّبَّ إِلهٌ عَلِيمٌ، وَبِهِ تُوزَنُ الأَعْمَالُ. قِسِيُّ الْجَبَابِرَةِ انْحَطَمَتْ، وَالضُّعَفَاءُ تَمَنْطَقُوا بِالْبَأْسِ. الشَّبَاعَى آجَرُوا أَنْفُسَهُمْ بِالْخُبْزِ، وَالْجِيَاعُ كَفُّوا. حَتَّى أَنَّ الْعَاقِرَ وَلَدَتْ سَبْعَةً، وَكَثِيرَةَ الْبَنِينَ ذَبُلَتْ. الرَّبُّ يُمِيتُ وَيُحْيِي. يُهْبِطُ إِلَى الْهَاوِيَةِ وَيُصْعِدُ. الرَّبُّ يُفْقِرُ وَيُغْنِي. يَضَعُ وَيَرْفَعُ. يُقِيمُ الْمِسْكِينَ مِنَ التُّرَابِ. يَرْفَعُ الْفَقِيرَ مِنَ الْمَزْبَلَةِ لِلْجُلُوسِ مَعَ الشُّرَفَاءِ وَيُمَلِّكُهُمْ كُرْسِيَّ الْمَجْدِ. لأَنَّ لِلرَّبِّ أَعْمِدَةَ الأَرْضِ، وَقَدْ وَضَعَ عَلَيْهَا الْمَسْكُونَة. أَرْجُلَ أَتْقِيَائِهِ يَحْرُسُ، وَالأَشْرَارُ فِي الظَّلاَمِ يَصْمُتُونَ. لأَنَّهُ لَيْسَ بِالْقُوَّةِ يَغْلِبُ إِنْسَانٌ مُخَاصِمُو الرَّبِّ يَنْكَسِرُونَ. مِنَ السَّمَاءِ يُرْعِدُ عَلَيْهِمْ. الرَّبُّ يَدِينُ أَقَاصِيَ الأَرْضِ، وَيُعْطِي عِزًّا لِمَلِكِهِ، وَيَرْفَعُ قَرْنَ مَسِيحِهِ." (1 صم 2: 1-10)
يطلب عادة من الشباب التسبيح، ولكن التسبيح هنا هو من سيدة عجوز، تخطت كل الظروف والأمور الصعبة في حياتها، ووقفت تسبح الله في حياتها، وقد برهنت أن التسبيح أسلوب حياة، وليس فقرة في عبادة.
بعد حنة جاءت مرحلة صموئيل بنهضة روحية حقيقة وهي نموذج أن بعد حنة النبيَّة في العهد الجديدة نهضة روحية ف بالمسيح. وكلاهما سبحا الله على عمله العظيم وتدخله في التاريخ بصورة ملموسة.
رابعًا: شاهدة، يسوع محور الحياة
"وَتَكَلَّمَتْ عَنْهُ مَعَ جَمِيعِ الْمُنْتَظِرِينَ فِدَاءً فِي أُورُشَلِيمَ" (لوقا 2: 38)، تكلَّمت عن المسيح، مع المنتظرين فداءً في أورشليم، هذه نتيجة طبيعية لأسلوب حياتها وللطريقة التي عاشت بها، تسبح، تصلي، تصوم، ثم تتكلم عنه أي عن المسيح مع كل المنتظرين فداءً.
مبدأ ومحور الشهادة هو المسيح. نلاحظ أن كل ما يأتي عن المسيح في الميلاد يرتبط بالخلاص والفداء. الوجود في الهيكل يقود للكلام عن المسيح، بالمثل وجود الشخص في الكنيسة يقوده إلى الكلام عن شخص المسيح.
حياة الشهادة هي نتيجة للعلاقة مع الله، والوجود في الهيكل نعمة كبيرة، والتسبيح له بركة عظيمة، والإعلان عنه مسؤولية جمة. ليساعدنا الرب أن نشهد عن المسيح بصورة رائعة في أيامنا الحالية.
رأينا في حنَّة بأنها نبيّة، والنبوة قاسم مشترك بين الرجل والمرأة ومن هنا نركز على قضية المساواة بين الرجل والمرأة. ثم متعبدة، للتأكيد على الولاء والانتماء لله، بالإضافة إلى أنها مسبحة: أولوية التسبيح في حياتها كأسلوب حياة، وأخيرًا شاهدة للتأكيد على أنَّ يسوع المسيح هو محور الحياة