آراء و أقلام إنجيلية

وقت الحياة .. وحياة الوقت

  • بقلم: ق. رفعت طنيوس بدروس

" الوقت " هـو الشيء الوحـيد المتساوي بين البشر جميعًا. هذه حقيقة جوهرية تعلن قيمته وأهميته القصوى لكل فرد، كما تؤكد مسؤولية الفرد عن استخدامه على الوجه الأمثل في كل مناحي حياته، لكي يعود بفائدة كبرى على الفرد والمجتمع بل والبشرية. فالوقت ثروة عظيمة للفرد ولكن الحقيقة التي قد لا يدركها الكثيرين هي أن الوقت: { لا يمكن تخزينه- لا يمكن إيقافه- لا يمكن تمديـده- لا يمكن إعادته }
لذلك إحساسنا أننا نمتلك رسالة مهمة في حياتنا يجعلنا نشعر بقيمة الوقت. فتهديف الوقت وتخطيطه مهم جدًا، كم من الوقت نقضيه في هذا النشاط أو هذا العمل؟ فقيمة الإنسان باحترامه لوقته.
لأن سر عظمة الإنسان ليست في إمكانياته أو مواهـبه فقط، ولكن أيضًا في تقديره واستفادته من وقته (حياته). فطريقة قضائك لوقـتك تعلـن عـن مَن أنت. لذلك قال قديمًا أحد الأدباء (قـل لي فيما تقضى يومك الآن، سأقول لك مَن ستكون بعد 10سنوات).

القارئ الكريم... نأتي الأن لنعرف معنى عنوان الفصل.
(وقت الحياة – حياة الوقت)
وقت الحياة. هو فقط "أيام أو سنين تُعد".
هناك من يعيش وهو غير مدرك حقيقة قيمة وأهمية الوقت. فتمضى سني حياته أيً إن كانت طويلة أو قصيرة بلا فائدة؛ لا زمنية ولا روحية. فهو يحيا دون فهم ولا اهتمام بأمور حياته، فهي تسير مع تيار مياه بحر العالم المضطرب تتقاذفها أمواجه العاتية؛ وهكذا يعيش في تيه وتشرد شعاره " فَهُوَذَا بَهْجَةٌ وَفَرَحٌ، ذَبْحُ بَقَرٍ وَنَحْرُ غَنَمٍ، أَكْلُ لَحْمٍ وَشُرْبُ خَمْرٍ! لِنَأْكُلْ ‍وَنَشْرَبْ، لأَنَّنَا غَدًا نَمُوتُ"(إش22: 13)، وهو يظن أنه امتلك وأنه حي، ولكنه يخرج من الحياة دون شيء. فقد خسر حياته الزمنية والأبدية لأنه يعيش بعيد عن معرفة الله " وَلكِنَّ الإِنْسَانَ الطَّبِيعِيَّ لاَ ‍يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ اللهِ لأَنَّهُ عِنْدَهُ جَهَالَةٌ، وَلاَ يَقْدِرُ أَنْ يَعْرِفَهُ لأَنَّهُ إِنَّمَا يُحْكَمُ فِيهِ رُوحِيًّا"(1كو2: 14)، وهذه الطامة الكبرى التي تعصف بجموع كثيرة في عالمنا.
فمن لا يعرف استغلال وقته في حياة منظمة وجادة مع الله والناس فإنه يفقد كل شيء " الحياة والأفضل "، هنا في حـياته على الأرض، ويخسر الأفضل أي الحياة الأبدية، وذلك بعدم الاهتمام بترتيب أولويات حياته، والتدرب على انتهاز الفرصة في عمل صالح. فإن التدريب على ترتيب أولويات الحـياة سـر نجاح الإنسان.
أراد أحد الأساتذة أن يعلم تلاميذه أهمية ترتيب الأولويات في حياتهم. فأتى بدلو فارغ ووضعه على المنضدة أمام الطلبة، ومعه بعض الصخور كبيرة الحجم، وبعض الحصوات الصغيرة، ومقدار من الرمل ووعاء به ماء.
ثم وضع بترتيب الصخور في الدلو، وسأل الطلبة هل الدلو امتلأ ؟، وكان الجواب نعم. فأخذ الحصوات ووضعها بالدلو فدخلت بين الصخور، نظر إليهم! وعاد وكرر السؤال هل امتلأ الدلو؟، كانت الإجابة ربما. ثم أخذ الرمل ووضعه في الدلو فتسرب بين الصخور والحصوات، وهكذا كرر السؤال هل امتلأ الدلو؟، فكانت إجابة الأغلبية نعم، فاخذ وعاء الماء وسكبه في الدلو. وهنا قام أحد الطلاب قبل أن يكرر الأستاذ السؤال وقال: الآن قد امتلأ الدلو بكل تأكيد يا أستاذي.
نظر الأستاذ إلى طلابه مبتسمًا وقال: هل فهمتم الدرس جيدًا؟ فهكذا يجب يا أولادي أن نرتب أولويات حياتنا، بوضع الأمور الكبيرة أولاً ثم الأصغر وهكذا... الخ، أي الأهم ثم المهم، وبعد ذلك تأتي مطاليب الحياة العادية، وبذلك نستطيع الحصول على النتائج المطلوبة لحياة ناجحة، ومباركة بتحقيق الغرض من وجودنا في هذه الحياة.
وهذا يتطابق مع تعليم الرسول بولس لأهل كورنثوس بعد أن رأي كيف يعيشون فوضى الحياة إذ يقول لهم: " وَلْيَكُنْ كُلُّ شَيْءٍ بِلِيَاقَةٍ وَبِحَسَبِ تَرْتِيبٍ"(1كو14: 40).

حياة الوقت. هو ما نقوم به أي "العمل في أيام الحياة ".
هناك أيضًا من يعتبر ليومه، ويعرف أن يومه فرصة لحياة أفضل، في حياة روحية وزمنيه، فهو يرى دائمًا أن الوقت مهما طال فهو قصير، وذلك بالنسبة للعمل المطلوب منه؛ كإنسـان أعطاه الله وكالة الحياة، ويعرف جيدًا المطلوب منه لكي يمجد الله. فـتراه دائمًا ينتهز كل فرصـة أي كل "ثانيًة" بحياته في عـمل روحي أو زمني مع نفسه أو أسرته، ومع المجتمع للإعلان مجد الله.
لذلك نرى في كل مجال من مجالات الحياة؛ هناك أشخاص برزوا وصاروا علامة، وهذا من خلال استخدام أوقاتهم في الحياة، فكان لهم التأثير الكبير في مسار الحياة البشرية، سواء بكرازتهم وتبشيرهم بالرب يسوع؛ أو من خلال حياتهم المقدسة في قدوة عملية، وتعليم الأخرين عن الحياة الأبدية؛ أو بعملهم الذي قادهم إلى اكتشافاتهم واختراعاتهم، ومهاراتهم اليدوية، وعلمهم ودراسـتهم، التي أنتجـت للبشرية الكثير جدًا من آلات وأجهزة أدت لتقدم حضارة العالم.
يقدم لنا بولس الرسول بحياته مثال رائع لمن يريد الاستفادة بوقته في كل الظروف والأحوال. فعندما نتتبع حياته وخدمته نجد أن حوالي ثلث مـدة خدمته كان في السـجن، والطـبيعي أن من يُسجن يكون مكتئب ومحبط، ووقته ضائع لا محاله!، ولكننا نجده يكتب رسائل للمؤمنين في أماكن كثيره؛ سميت (رسائل الأسر أو السجن)، وبالرغم أنهم كانوا يعاملونه في السجن معامله المجرم الخطير، وفي أوقات يحبسونه حبـس انفرادي، ويتنـاوب على حراسته أربع جنود كل ٦ ساعات، ولا يتكرر على حراسته جندي مرتين؛ إلا بعد فترة طويلة. لكي لا ينشئ معه صداقة، أو يحسن التعامل معه فينقل منه أو إليه أخبار.
لكنه بقوة إيمانه وحكمته في هذه الظروف الصعبة؛ يقدم لنا قدوة عملية في كيفية افتداء الوقت واستغلال كل الظروف. فنراه يمجد إلهه بالصلاة والتسبيح؛ فيجتمع حوله المساجين ليسمعوه؛ فيسألهم هل تعرفون لماذا أنا مسجون؟، ويجيب لآني أكرز بالمخلص يسوع المسيح. هل تعرفونه؟!
ومن هنا يبدأ الكرازة بالصلاة والتسبيح، وبهما تتزعزع أساسات السجن وتفتح الأبواب، والكل جالس في هدوء وسلام وطمأنينة، وهكذا نرى عمل الله في خلاص النفوس من المساجين مثل أنسيمس (فليمون ع10)، وأيضًا إيمان سجان فيلبي، وكيف تغير الحال. إذ ينال الخلاص هو وأهل بيته!، وفي حب يقدم الإكرام لبولس وسيلا معتذرًا لهما عما بدر منه، وعن تصرفه القاسي معهما "(أع 16: 16-40).
وبنظرة لأحداث الخدمة الروحية في عالمنا المعاصر، وبعد انتشار استخدم التكنولوجيا بكل صورها؛ نرى قدوة روحية رائعة في شخص الواعظ والكارز الشهير (ويليام فرانكلين بيلي غراهام) المولود بأمريكا في 7 نوفمبر 1918م، وقد انتقل عن دنيانا في21 فبراير2018م. بعد حياة حافلة بخدمة متميزة ومؤثرة في حياة الكثيرين، والذي تنطبق عليه بحق كلمات الرب " اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَالأَعْمَالُ الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا يَعْمَلُهَا هُوَ أَيْضًا، وَيَعْمَلُ أَعْظَمَ مِنْهَا،... "(يو14: 12).
ذلك من خلال كل ما قدمه في خدماته المتنوعة، وحملاته الكرازية مع فريق الخدمة المرافق له، مستخدمًا كل وسائل التكنولوجيا (تليفون، راديو، تليفزيون، فيديو، ستالايت، وبكل تأكيد مطبوعات وكمبيوتر... الخ).
مما كان له الأثر الكبير في خدماته. ففي حملته التي أقامها في موسكو بروسيا عام 1992م، والذي بلغ عدد الحضور فيها155,000 شخص، وورد في تقرير عنها أن ربع هؤلاء أي "38750 شخص" استجابوا لدعوته لقبول الرب يسوع مخلص شخصي لحـياتهم، كما أنه خـدم في 185 دولة. سـواء بالتواجد أو بالفيديو أو الستالايت.
هذا مثال من كثير جدًا... نقدمه لكل من يريد استثمار كل ثانية في حياته لمجد الله. دون ملل أو كلل. فقط عليه أن يعرف كيف يستغل جيدا وقت حياته الذي:
+ لا يمكن تخزينه. لأنه غير ملموس فهو ليس مادة.
+ لا يمكن إيقافه. لأنه متحرك بلا ثبات أو توقف.
+ لا يمكن تمديده. لأنه لا يمكن الإضافة له.
+ لا يمكن إعادته. لأنه دائمًا بصيغة الماضي بالنسبة لنا.
لأَنَّهُ يَقُولُ:" فِي وَقْتٍ ‍مَقْبُول سَمِعْتُكَ، وَفِي يَوْمِ خَلاَصٍ أَعَنْتُكَ. هُوَذَا الآنَ وَقْتٌ ‍مَقْبُولٌ. هُوَذَا الآنَ يَوْمُ خَلاَصٍ. (2كو6: 2).