ماذا ينتظر من صبيّ؟
8/26/2024 12:00:00 AM
"وَكَانَ الصَّبِيُّ يَنْمُو وَيَتَقَوَّى بِالرُّوحِ، مُمْتَلِئًا حِكْمَةً، وَكَانَتْ نِعْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ. وَكَانَ أَبَوَاهُ يَذْهَبَانِ كُلَّ سَنَةٍ إِلَى أُورُشَلِيمَ فِي عِيدِ الْفِصْحِ. وَلَمَّا كَانَتْ لَهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً صَعِدُوا إِلَى أُورُشَلِيمَ كَعَادَةِ الْعِيدِ.وَبَعْدَمَا أَكْمَلُوا الأَيَّامَ بَقِيَ عِنْدَ رُجُوعِهِمَا الصَّبِيُّ يَسُوعُ فِي أُورُشَلِيمَ، وَيُوسُفُ وَأُمُّهُ لَمْ يَعْلَمَا.
وَإِذْ ظَنَّاهُ بَيْنَ الرُّفْقَةِ، ذَهَبَا مَسِيرَةَ يَوْمٍ، وَكَانَا يَطْلُبَانِهِ بَيْنَ الأَقْرِبَاءِ وَالْمَعَارِفِ. وَلَمَّا لَمْ يَجِدَاهُ رَجَعَا إِلَى أُورُشَلِيمَ يَطْلُبَانِهِ. وَبَعْدَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ وَجَدَاهُ فِي الْهَيْكَلِ، جَالِسًا فِي وَسْطِ الْمُعَلِّمِينَ، يَسْمَعُهُمْ وَيَسْأَلُهُمْ. وَكُلُّ الَّذِينَ سَمِعُوهُ بُهِتُوا مِنْ فَهْمِهِ وَأَجْوِبَتِهِ. فَلَمَّا أَبْصَرَاهُ انْدَهَشَا. وَقَالَتْ لَهُ أُمُّهُ: يَا بُنَيَّ، لِمَاذَا فَعَلْتَ بِنَا هكَذَا؟ هُوَذَا أَبُوكَ وَأَنَا كُنَّا نَطْلُبُكَ مُعَذَّبَيْنِ فَقَالَ لَهُمَا: لِمَاذَا كُنْتُمَا تَطْلُبَانِنِي؟ أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لأَبِي؟». فَلَمْ يَفْهَمَا الْكَلاَمَ الَّذِي قَالَهُ لَهُمَا. ثُمَّ نَزَلَ مَعَهُمَا وَجَاءَ إِلَى النَّاصِرَةِ وَكَانَ خَاضِعًا لَهُمَا. وَكَانَتْ أُمُّهُ تَحْفَظُ جَمِيعَ هذِهِ الأُمُورِ فِي قَلْبِهَا. وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ يَتَقَدَّمُ فِي الْحِكْمَةِ وَالْقَامَةِ وَالنِّعْمَةِ، عِنْدَ اللهِ وَالنَّاسِ". (لوقا 2: 41-52)
هذا الجزء الكتابيّ الوارد في لوقا 2: 41-51 هو النافذة الوحيدة على حياة المسيح وهو ينتقل من الطفولة للرجولة. قبل هذا الجزء، صمت، وبعد هذا الجزء صمت حتى ظهور المسيح في خدمته الجهاريّة وهو قد بلغ الثلاثين من عمره. ولعل هذا المشهد يكشف لنا أبعادًا عميقة حول شخص المسيح، ومن هو؟ وكيف نستعيد ونتعلّم منه، هنا والآن؟ هذا الجزء يكشف المسيح عن نفسه في ثلاثة أمور هامة، وهي:
1- وضوح الرسالة، أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لأَبِي؟،
2- نوع الحياة التي كان يحياها مع والديه، ثُمَّ نَزَلَ مَعَهُمَا وَجَاءَ إِلَى النَّاصِرَةِ وَكَانَ خَاضِعًا لَهُمَا،
3- النمو المتوازن في كافة المجالات الحياتية، الحكمة، القامة، النعمة.
هذا الحدث تم والمسيح عنده 12 سنة، ويعتبر هذا المشهد هو نموذج لتربية أمام الأسرة والكنيسة والمجتمع، وبالتالي نحن نقف عند هذا المشهد وهذا الحدث وأما الصبي يسوع لنستخرج مجموعة من المبادئ التربويّة والروحيّة المفيدة لنا في رحلة الحياة، وهي:
1- المسيح ظهر كصبي معتمد على ذاته،
2- المسيح ظهر كصبي مستقل في اتجاهاته،
3- المسيح ظهر كصبي لديه غيرة ليكتشف إرادة الله في حياته،
4- المسيح ظهر كصبي خاضع للسلطة الأبويّة،
5- المسيح ظهر كصبي ينمو في ضوء الغرض الإلهيّ
أولاً: الاعتماد على الذات
في سن الثانية عشرة من العمر يذهب الأب مع أبنه إلى أورشليم (الهيكل). و هناك و أمام رئيس الكهنة يعلن عدم مسئوليته عن أعمال أبنه من الآن فصاعدًا. وأن أبنه مسئول عن أعماله وتصرفات وقرارات. و من بعد هذا يُسمى "ابن الوصية" أو "ابن الناموس. وبعدها فقط يحق له الجلوس وسط المعلمين يسألهم و يجاوبهم. ولذلك عندما تم سؤال والد المولود أعمى قال: هو كامل السن إسألوه.
ظهر المسيح في هذا المشهد كصبي صغير أهل للثقة والاعتماد على الذات. ثلاثة أيام وهي صبي لدية 12 عامًا يدبر فيها المسيح أمور حياته الخاصة من أكل وشرب وإعاشة لنفسه، بعيدًا عن والديه، دون توجيه من أحد. لم يقلق مريم ويوسف في البداية من عدم وجود المسيح في وسطهم لأنهما تيقنا أن المسيح له علاقة طيبة مع الأهل والمعارف.
يبدو أن يوسف ومريم قد سمحا للصبي أن يدبر بعض الأمور الخاصة بنفسه وهذا أسلوب تربويّ للأسرة لكي تدّرب أبنائها على القيام ببعض الأمور الشخصية الخاصة بهم وفق قدراتهم وإمكانياتهم، لكي يعتمدوا على أنفسهم.
وفي هذه الرحلة التي ندرب فيها الابناء والأولاد لابد أن نكون واثقين فيهم وفي أفعالهم. هذا الأسلوب تعلم فيه المسيح وهو صغير ولذا استطاع وهو كبير أن يأخذ كافة القرارات الصعبة في الحياة (لوقا 9: 51) "وَحِينَ تَمَّتِ الأَيَّامُ لارْتِفَاعِهِ ثَبَّتَ وَجْهَهُ لِيَنْطَلِقَ إِلَى أُورُشَلِيمَ"
الاعتماد على الذات والثقة في النفس جعل المسج أكثر جرأة ودخل في حوارات مع الكبار في الهيكل، وهو كبير دخل في حوارت مع الكتبة والفريسيين والصدوقيين، ومع كافة الفئات. الاعتماد على الذات طريق نحو نضج الشخصية لتتحمل قرراتها واختياراتها دون إلقاء الفشل على شماعة الأخرين.
ثانيًا: الاستقلالية في التفكير
وهو طفل صغير تعلَّم أن يقوم بأموره الخاصة بنفسه، رتب أمور حياته، تعلم من الأسرة اليهوديّة تاريخ معاملات الله مع إسرائيل، عرف تاريخ الخلاص مع شعب إسرائيل، عرف أن الله أبيه بصورة خاصة، وعندما جلس في الهيكل جلس وسط المعلمين يسمع ويسأل. أعطى فكرة أنه لا أحد يأخذ له قراراته ولا أحد يسأل بالنيابة عنه، ولا أحد يصنع له أمور مستقبله. لكن كان لديه رؤية مستقلة في التفكير والاتجاه جعله فيما بعد لا يكون مقلدًا لأحد، أو نسخة كربونية من الغير. فهو عاش ليكون ذاته،وهذا ما ظهر بعد ذلك في أسلوب تفكيره، وطريقة وأسلوب تعليمه، ونظرته للقضايا الخاصة والعامة،وردوده على الأسئلة التي ترد إليه، ورؤيته للحياة.
الأبناء والبنات ليس المطلوب منهم أن يكونوا نسخًا كربونيّة من والديهم ولكن يحاول الأباء أن يكونوا هم، باستقللاهم في التفكير والاتجاهات، فهذه حياتهم، قال جبران في كتاب النبي، وفي قصيدة المحبة، الآتي:
أولادكم ليسوا لكم
أولادكم أبناء الحياة المشتاقة إلى نفسها،
بكم يأتون إلى العالم،
ولكن ليس منكم.
ومع أنهم يعيشون معكم،
فهم ليسوا ملكًا لكم.
أنتم تستطيعون أن تمنحوهم محبتكم،
ولكنكم لا تقدرون أن تغرسوا فيهم بذور أفكاركم،
لأن لهم أفكارًا خاصةً بهم.
وفي طاقتكم أن تصنعوا المساكن لأجسادكم.
ولكن نفوسهم لا تقطن في مساكنكم.
فهي تقطن في مسكن الغد،
الذي لا تستطيعون أن تزوروه حتى ولا في أحلامكم.
وإن لكم أن تجاهدوا لكي تصيروا مثلهم.
ولكنكم عبثاً تحاولون أن تجعلوهم مثلكم.
لأن الحياة لا ترجع إلى الوراء،
ولا تلذ لها الإقامة في منزل الأمس.
ثالثًا:الرغبة لمعرفة إرادة الله
سن الثانية عشرة هو سن الرغبة والاكتشاف لكل شيء، المسيح أظهر رغبة حقيقية للمعرفة، معرفة كلمة الله المقدسة، وبالتالي مشهد أنه يسمه ويسأل، هو مشهد متميز لكيف يكون التعليم المبني على الحوار والمعرفة وليس التلقين،والتعليم البنكي الذي يعتمد على الحفظ والاسترجاع دون تفاعل مع المعلومة.
اختار المسيح المكان الصحيح (الهيكل)، والاتجاه الصحيح (الاستماع والسؤال)، والمصدر الصحيح (المعلمين في الهيكل)، وهذا يقودنا إلى أنه إذا أردنا أن نحصل على معلومة ما إلى أين نتجه؟ وإلى من نلجأ لهم في المشورة؟ وإلى من نطلب منهم الإجابة على تساؤلاتنا؟
الرغبة في المعرفة خلقت جوًا من التناغم والحوار الصحي بين الكبار والصغار بين من لديه رغبة في التعلّم وبين من لديه رغبة في أن يعلّم، هذه الرغبة تجعل هناك نموًا في الحكمة والمعرفة، وتقود إلى حالة خاصة من النضج في الحياة والتفكير.
والسؤال لماذا المعرفة مهمة؟ الإجابة تكون: لأن كل ما عرف الإنسان المبادئ الصحيحة يستطيع أن يطبقها في حياته، فالتعليم الصحيح يعطي صحة في ذاته.
هذه الرغبة تقود إلى معرفة الذات ومعرفة الرسالة وحياة الخضوع والالتزام وقد استعمل المسيح الفعل ينبغي في قوله: " أَلَمْ تَعْلَمَا أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ أَكُونَ فِي مَا لأَبِي؟ والتي قالها بعد ذلك "يَا أَبَتَاهُ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي هذِهِ الْكَأْسَ. وَلكِنْ لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ" (لوقا 22: 42) كلما ازددنا في المعرفة نزداد في كتشاف إرادة الله في حياتنا، وبرغبة صادقة نزداد خضوعًا لها.
رابعًا: الخضوع للسلطة الأبويّة
قد نعتقد من خلال المجالات الثلاثة مبادئ الأولى وهي: الاعتماد على الذات، الاستقلاليّة في التفكير، والرغبة في المعرفة لإرادة الله، تخلق في الإنسان كبرياءً وتمردًا على السلطة الأبويّة،ولكن الحادث مع المسيح هو العكس. فالوحي يسجل أنه نزل معهما وكان خاضعًا لهما.
وهنا تكتمل الصورة التربويّة الروحيّة في التشكيل ونضوج الشخصية بأن يكون الإنسان خاضعًا للسطلة الأبويّة، خضع المسيح للسلطة الأبويّة وخضع المسيح لأبيه السماوي. وعرف كيف يخضع للسلطة الزمنيّة في ذلك الوقت للنظام العام في قولته الشهيرة: "أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا للهِ للهِ" (مرقس 12: 17)
الخضوع ليس عيبًا ولكنه علامة من علامات النضج في التفكير والحياة، وهو قيمة من قيم الحياة المسيحية، الخضوع عن اختيار وطاعة وليس عن إجبار وقسوة.
خامسًا: النمو في مجالات الحياة المختلفة
التقرير النهائي الذي غلق به لوقا عن 12 عامًا وفتح مجالاً لـ 18 عامًا أخرى في حياة المسيح هو تقدم ونمو المسيح في مجالات الحياة المختلفة نحو الغرض الإلهي الذي أتى من أجله.
في الاثني عشرة عامًا كان ينمو حسب قول البشير لوقا عن الصبي: "وَكَانَ الصَّبِيُّ يَنْمُو وَيَتَقَوَّى بِالرُّوحِ، مُمْتَلِئًا حِكْمَةً، وَكَانَتْ نِعْمَةُ اللهِ عَلَيْهِ" (لوقا 2: 40). وفي نهاية التقرير عن المشهد يقول لوقا أيضًا: "وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ يَتَقَدَّمُ فِي الْحِكْمَةِ وَالْقَامَةِ وَالنِّعْمَةِ، عِنْدَ اللهِ وَالنَّاسِ" (لوقا 2: 52) نلاحظ هنا أن لوقا قبل هذه المشهد استعمل لفظ "الصبي" أما في نهاية المشهد استخدم اسم "يسوع".
هذا المشهد يشمل على ملامح هامة للنمو والتقدم لأجل اتمام الغرض الإلهي في حياته، فهو يتقدم في الحكمة في المعرفة العقليّة في بناء وتصور المفاهيم، في رؤية الحياة بشموليتها. في نفس الوقت نمو في القامة في الحياة الجسدية في بناء الجسم بناء صحيحًا، وبالتوازي في النعمة الخاصة بالله في علاقة روحية ظهرت بعد ذلك في الالتزام بالصلوات وقراءة الكلمة والوجود في الهيكل، والخاصة بالناس في علاقة اجتماعيّة استطاع أن يكون علاقات مع الكل الطبقات العليا والدنيا في المجتمع.
قدَّم لوقا عن المسيح روشتة خاصة لمناحي النمو في حياة الإنسان التي تهتم بالنواحي العقليّة، والروحيّة، الجسديّة، والاجتماعيّة، ولا غنى للواحدة عن الأخرى. فالعلاقة مع الله هي أساس للعلاقة مع الأخرين، والحياة العقليّة هي توأمة الحياة الروحية. دون وضع فواصل لما هو عقليّ أو ما هو روحيّ أم ما هو إلهيّ وما هو إنساني، فالحياة الروحية هي حياة الإنسان ككل.
هذا المشهد الواد عن المسيح في لوقا 2 والمسيح في الهيكل يوضح الصورة التي ظهر عليها المسيح بعد 18 عامًا في خدمته الجهارية في قوة ومعرفة ووضوح الرؤيا والرسالة والاستعداد التام للتضحية لتحقيق مشيئة وأرادة الله في الحياة، هذاالمشهد كشف عن من هو يسوع المسيح، وكيف كان ينمو، وهو مشهد كاف لمعرفة شخصية المسيح في هذه المرحلة، التي من خلاله تعلمنا:
الاعتماد على الذات
الاستقلاليّة في التفكير
الرغبة في معرفة إرادة الله
الخضوع للسلطة الأبويّة
النمو في شتى مجالات الحياة
وتكون الدعوة المستمرة لنا "وَلكِنِ انْمُوا فِي النِّعْمَةِ وَفِي مَعْرِفَةِ رَبِّنَا وَمُخَلِّصِنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ. لَهُ الْمَجْدُ الآنَ وَإِلَى يَوْمِ الدَّهْرِ. آمِينَ" (2بط 3 : 10).