آراء و أقلام إنجيلية

حوار يغير الحال

  • بقلم: ق. عيد صلاح


في (يوحنا 4: 1-30)
لقاء المسيح مع السامريّة حول عملية الحوار وما يمكن أن يقدمه لنا من معرفة واكتشاف الأخر، وفي الحوار حرية القبول والرفض، كما في الحوار أيضًا نجد أن التغيير يقود إلى التعبير.
دعونا نقف عند هذه القصة من منظور أخر وهو كيف تعامل المسيح مع المرأة السامريّة، في قصة زاخرة ومليئة بالمعاني الجميلة والتي من خلالها نندهش، فالدهشة هي أم الفلسفة كما يقولون، وفلسفة هذه القصة هي في طريقة تعامل المسيح مع المرأة السامريّة، وهو الخيار الذي انحاز إليه في حياته فنراه في صف الشريد والطريد والضال والمنبوذ، يدّون البشير مرقس هذه الكلمات: "وَأَمَّا الْكَتَبَةُ وَالْفَرِّيسِيُّونَ فَلَمَّا رَأَوْهُ يَأْكُلُ مَعَ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ، قَالُوا لِتَلاَمِيذِهِ: «مَا بَالُهُ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ مَعَ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ؟»" (مرقس 2: 16) وهو مع الفئات المهمشة في المجتمع الذين لم يكن لهم مكانًا في أيام المسيح وحتى الآن. يدون البشير لوقا هذه الكلمات أيضًا: "وَكَانَ جَمِيعُ الْعَشَّارِينَ وَالْخُطَاةِ يَدْنُونَ مِنْهُ لِيَسْمَعُوهُ. فَتَذَمَّرَ الْفَرِّيسِيُّونَ وَالْكَتَبَةُ قَائِلِينَ: «هذَا يَقْبَلُ خُطَاةً وَيَأْكُلُ مَعَهُمْ! (لوقا 15: 1، 2).
يسعى المجتمع نحو الأصحاء ويعطيهم اعتبارهم وأيضًا يسعى نحو الأقوياء وأصحاب النفوذ ويعطيهم المكانة الأولى لكن خيار المسيح والكنيسة يسعيان نحو المهمشين والمنبوذين ليكون لهم مكانًا.
حكاية المسيح مع السامريّة تعلن صراحة عن بداية الإنجيل الكامل الجامع الشامل الذي يتخطى الحدود العرقيّة والعنصريّة ليشمل المنبوذين والمهمشين، وتبين لنا هذه الحكاية أيضًا محبة المسيح للخطاة والحوار معهم فهو مازال يسعى وراء الضال والمنبوذ ويعلّمنا أيضًا أن نقبل أمثال هؤلاء. وتعلن هذه الحكاية أيضًا صورة طيبة لإعلان إنسانيّة المسيح وقلبه المحب وقبوله للجميع، فهو يقبل أن يتعامل مع السامريّة وفي نفس الوقت يتعامل مع زكا وشاول يقبلهم جميعًا ويقبلنا نحن أيضًا لنقبل الآخرين كما هم. وفي أسلوب تعامل المسيح مع السامريّة نلمس الآتي:
1- كسر حاجز الصمت
2- تقبلها كما هي
3- يصحح المفاهيم الخاطئة
4- يحفظ أسرارها
الفكرة الأولى: كسر حاجز الصمت
تكلم حتى أراك، مبدأ هام في معرفة الآخر. قضايا كثيرة تكبر وتتضخم ونحن في حالة صمت، ماذا لو لم يكلم المسيح السامريّة؟ كأنت قد بقيت فيما هي فيه. وتوجد مبرارت كثيرة تبرّر عدم كلامه وهو أنَّه رجل وهي امرأة، ثانيًا هو يهوديّ وهي امرأة سامريّة، فالحواجز موجودة بين الناس والفواصل ما أكثرها بين البشر. على المستوى الشخصيّ ما لم يكلّمها المسيح لبقيت المرأة على حالها.
المسيح كسر حاجز الصمت ليفتح حوارًا، هذا الحوار غير حال السامريّة. طلب المسيح من السامريّة أن يشرب ماءً فَقَالَ لَهَا يَسُوعُ: «أَعْطِينِي لأَشْرَبَ» (يوحنا 4: 7)، طلب عادي، ومتاح، وفي إمكان المرأة أن تلبي هذا الطلب البسيط، ونجد أن هذا الطلب فتح حوارًا كبيرًا وطويلًا.
في هذا التعامل نتعلّم أن نكسر حاجز الصمت في المسكوت عنه فيما نعتقد عيب أو حرام أو خطأ. يمكن أن نصنع حوارًا مع أولادنا ومجتمعنا وأصدقائنا. الأسلوب التربويّ وطبيعة المجتمع كرَّست حالة الصمت خوفًا من أمور كثيرة. المسيح يساعدنا بنموذجه الفريد أن نكسر حاجز الصمت أملاً في الوصول إلى المنبوذين والذين يطردهم المجتمع لعل يكون لهم شفاء.
الفكرة الثانية: تقبلها كما هي
مثلت المرأة السامريّة أمام الطبيب الأعظم كما هي، وعرفت مِن المسيح مَن هي؟ تكلمت معه بقساوة عنصريّة: "فَقَالَتْ لَهُ الْمَرْأَةُ السامريّة: كَيْفَ تَطْلُبُ مِنِّي لِتَشْرَبَ، وَأَنْتَ يَهُودِيٌّ وَأَنَا امْرَأَةٌ سَامِرِيَّةٌ؟ لأَنَّ الْيَهُودَ لاَ يُعَامِلُونَ السَّامِرِيِّينَ" (يوحنا 4: 9) المسيح لم يعاملها بسياسة الفعل ورد الفعل، قبوله لها جعله يحتملها ويستمر في الحوار.
لم يقلّل من كلامها أو حوارها، لم يلصق بها التهم، لم يحمل لها إدانة، لم يجرح مشاعرها، أمتدح فيها الصواب في لحظة صدق مع نفسها. لم يفترض فيها المثاليّة المطلقة، لكنه قبل ضعفها وإنسانيتها، وهو يقبل المرأة كما هي، وهو يقبلها كما نحن لنقبل الآخرين كما هم. في الوقت الذي نقبل بعضنا البعض كما نحن بدون تجميل أو تمثيل.
الفكرة الثالثة: تصحيح المفاهيم الخاطئة
أكبر مشكلة أمام الإنسان ليست الفهم ولكنها الفهم الخاطئ، كانت هناك مشكلة كثيرة عند المرأة السامريّة. ومن خلال الحوار حلّت فيما يتعلّق بالرجل والمرأة، اليهوديّ والسامريّ، مصدر الخلاص، العبادة الحقيقيّة. بشأن العلاقة بين الرجل والمرأة نجد الرسول بولس يقول: "لَيْسَ يَهُودِيٌّ وَلاَ يُونَانِيٌّ. لَيْسَ عَبْدٌ وَلاَ حُرٌّ. لَيْسَ ذَكَرٌ وَأُنْثَى، لأَنَّكُمْ جَمِيعًا وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ." (غل 3: 28).
ومن ناحية التفرقة العرقية دخلت السامرة بعد ذلك في خطة وإرسالية المسيح حين قال بعد القيامة وقبل صعوده للسماء: "لكِنَّكُمْ سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْكُمْ، وَتَكُونُونَ لِي شُهُودًا فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الأَرْضِ»." (أع 1: 8).
صحح الحوار مفهوم العبادة الحقيقيّة وهي العبادة بالروح، أي التي لا تحد بمكان أو اتجاه أو أشياء ملموسة "الله روح" "وَلكِنْ تَأْتِي سَاعَةٌ، وَهِيَ الآنَ، حِينَ السَّاجِدُونَ الْحَقِيقِيُّونَ يَسْجُدُونَ لِلآبِ بِالرُّوحِ وَالْحَقِّ، لأَنَّ الآبَ طَالِبٌ مِثْلَ هؤُلاَءِ السَّاجِدِينَ لَهُ. اَللهُ رُوحٌ. وَالَّذِينَ يَسْجُدُونَ لَهُ فَبِالرُّوحِ وَالْحَقِّ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدُوا». (يوحنا 4: 23-24).
حرَّر يسوع المرأة من الجدل الفكريّ والعقائديّ إلى التركيز على البعد الإيمانيّ المتمثل في السلوك والتصرفات. في الوقت الذي تشتد فيه السجالات الدينيّة والمذهبيّة عمن الصح ومن الخطأ يكون الاحتياج إلى التركيز على البعد الأخلاقيّ في السلوك والتصرفات، فمن يتحدثون عن الإيمان يجب أن يعيشوا الإيمان في أبسط صوره.
الفكرة الرابعة: حفظ أسرارها
حفظ الأسرار أمر هام وضروري، والناس تلجأ دائمًا إلى مَن تثق فيهم، ويجب أن يكون هؤلاء محل ثقة الناس. ومن لملاحظ أن المسيح حفظ سر هذه المرأة عندما شاركته بالقصّص المخفية لديها، وفي نفس الوقت المسيح لم يشارك أحد بما تكلّمت المرأة معه. ولعلّ مشهد لقاء المسيح مع التلاميذ بعد الحوار توضح ذلك: "وَعِنْدَ ذلِكَ جَاءَ تَلاَمِيذُهُ، وَكَانُوا يَتَعَجَّبُونَ أَنَّهُ يَتَكَلَّمُ مَعَ امْرَأَةٍ. وَلكِنْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ: مَاذَا تَطْلُبُ؟ أَوْ لِمَاذَا تَتَكَلَّمُ مَعَهَا؟ (يوحنا 4: 27).
الذي يفشي سرًا يشبه شخصًا يمسك بمجموعة من الريش ويصعد بها على برج عالي ويلقي بالريش، ومن الصعوبة جمع ما بدره في الهواء من أعلى البرج. فإذا اؤتمنا على أسرار الناس فلنكن على قدر الحدث في الأمانة نحوهم، وحفظ صيانة سمعتهم. أن نكون محل ثقة حين يميل المجتمع من حولنا إلى فضح الأسرار وكشف المستور نتعلم من المسيح كيف يحتوي المنبوذ ويحفظ السر، فلم يفشي هذا السر للتلاميذ.
كسر المسيح حاجز الصمت وتكلّم معها تقبلها كما هي، صحح مفاهيمها، حفظ سرها، عندما تعامل المسيح معها بهذه الطريقة تغيرت بل خرجت من الانكفاء حول ذاتها للآخرين فكسرت هي حاجز صمتها، قائلة: هَلُمُّوا انْظُرُوا إِنْسَانًا قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْتُ. أَلَعَلَّ هذَا هُوَ الْمَسِيحُ؟ (يوحنا 4: 29). وقد أتت بالآخرين إلى المسيح فَآمَنَ بِهِ مِنْ تِلْكَ الْمَدِينَةِ كَثِيرُونَ مِنَ السَّامِرِيِّينَ بِسَبَبِ كَلاَمِ الْمَرْأَةِ الَّتِي كَانَتْ تَشْهَدُ أَنَّهُ: قَالَ لِي كُلَّ مَا فَعَلْتُ. (يوحنا 4: 39).
إذا أخذنا بأسلوب المسيح أفرادًا ومؤسَّسات نستطيع أن نقبل كثيرين ونكون أداة في تغيير حياتهم للأفضل، هكذا تكون إرساليتنا ومسؤوليتنا.