آراء و أقلام إنجيلية

حياة الاكتفـاء: طريقك إلى السعادة الشخصية

  • بقلم: د.ق. صموئيل زكي

قدمت إحدى المجلات مكافأة قدرها خمسة آلاف جنيه لمن يكتب لها أفضل تعريف عمن هو الإنسان السعيد؟ وصل لإدارة المجلة أكثر من ألفي جواب، وكان بعض هذه الإجابات غريبًا ومتناقضًا، والبعض منها ملائمًا إلى حد ما. فمثلا قال أحدهم: الإنسان السعيد هو الذي يمكنه الحصول على أكبر قدر من المال، وقال آخر: الإنسان السعيد هو صاحب المنصب العالي، وقال ثالث: الإنسان السعيد هو الذي يقضى أكبر قدر من وقته فى المتع واللّذات. وقال رابع: الإنسان السعيد من يتمتع بشهرة عالية فى المجتمع. وغيرها، وغيرها. لكنّ الجواب الوحيد الذي أقرته لجنة التحكيم بالمجلة ونال المكافأة كان: «الإنسان السعيد حقًا هو الراضي بواقعه، القانع بحاله، الشاكر ربه في السراء والضراء». وهذا ما قاله الرسول بولس بأسلوب آخر: "تَعَلَّمْتُ أَنْ أَكُونَ مُكْتَفِيًا بِمَا أَنَا فِيهِ" (فيلبي 4: 11). وما قاله كاتب الرسالة إلى العبرانيين "كُونُوا مُكْتَفِينَ بِمَا عِنْدَكُمْ" (عبرانيين 13: 5). وقد كانت هذه هى فلسفة السيد المسيح له المجد فى حديثه تجاه الطامعين والقلقين من أجل المستقبل "... َمَنْ مِنْكُمْ إِذَا اهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ ذِرَاعًا وَاحِدَةً؟" (متى 6: 27). أى يجب أن نرضى بما أعطانا الله من المواهب والخيرات.
وقد كان الملك جورج الخامس راغبًا في العيش بحياة القناعة ونعمة الاكتفاء. فكان يحتفظ في مكتبه بقصر بكنجهام بلوحة مكتوب عليها «أريد أن أتعلم كيف أكف عن البكاء من أجل الحصول على القمر، ومن أجل الحصول على اللبن المهراق.» وقسم الدكتور «ما ندر» عالِم النفس الشهير، الرغبات التي تملأ حياة الإنسان، والناتجة من غرائزه الأولية إلى ثلاث عشر رغبة:وهي تتمثل في الرغبة في الراحة الجسمية، الرغبة في الشعور بالطمأنينة، الرغبة في النجاة، الرغبة في استرضاء شخص قادر، الرغبة في حب الظهور ونيل إعجاب الآخرين، الرغبة في السيادة والتفوق، الرغبة فى اجتذاب الجنس الآخر، الرغبة في العناية بالضعفاء، الرغبة فى الحياة الاجتماعية، الرغبة في تقليد القادة والزعماء، الرغبة في الامتلاك، الرغبة في المعرفة، والرغبة في العودة إلى المألوف. تصور معي هنا الإنسان وهو يعيش حياة قلقة موزعة، تتقاسمها هذه الرغبات الأولية، وإذ يحاول أن يشبع رغباته وغرائزه كلها ليتمتع بالسعادة الكبرى لكنه في النهاية يفشل، ويحس بالشقاء يملأ جوانب نفسه، والتعاسة تخيم على حياته. لأنه لم يعرف أين يجد الشبع الحقيقى أمام تحقيق كل رغباته الإنسانية الكثيرة.
أما داود الملك فإنه إذ أحس هذه الرغبات تتقاسم حياته وتكاد أن يشوش سلامه بالإحساس بالشقاء، ولم يعرف كيف يسلك لإشباع غرائزه في الحياة، لجأ إلى الله وحده وعنده وجد الشبع الحقيقي فهتف يقول: «تعرفني سبيل الحياة. أمامك شبع سرور. في يمينك نعم إلى الأبد.» (مزمور ١٦: ١١) ففي نعمة الله تُشبع الرغبات الإنسانية، وتهدأ وتكتفى بذات الله العليا. ولقد صدق ذلك التقى الخبير عندما قال: "ظللت أشرب وأشرب وأنا لا أرتوى، ولكنى لما وجدت الله ارتويت دون أن أشرب!"
وكتب أحد الرجال المختبرين يقول: وضعت مرة وأنا شاب جدولًا بطيبات الحياة المعترف بها، فكتبت هذا البيان بالرغبات التي يحبها الإنسان: الصحة، الحب، الموهبة، القوة، المال، الشهرة. ثم تقدمت بها في زهو إلى شيخ محنّك حكيم، فقال صديقي الشيخ: جدول بديع، وهو موضوع بترتيب لا بأس به، ولكن يبدو لي أنك أغفلت العنصر المهم الذي يعد جدولك بغيره عبئًا لا يطاق، ثم ضرب بالقلم على الجدول كله وكتب كلمتين «الاكتفاء والرضا.»
وليس معنى الاكتفاء أن يرضى الإنسان بما لديه في الحياة في استسلام، ولا أقصد أنه لا يثابر ويعمل لتحقيق الطموح والتقدم، بل عليه أن يدرب نفسه على الاكتفاء وعدم التذمر على حالته، ويعمل في سرور وإيمان بحسب ما أعطاه الله من مواهب. إن نعمة الاكتفاء هي وسيلة الهدوء والاستقرار، فالمكتفى القنوع يحس بالسعادة رغم قلّة موارده. لكن الشخص المتذمر الذي يريد أن يملك الدنيا، ويحسد البشر على نعم الله المعطاة لهم، لن يتذوق للسلام طعمًا، بل تستمر حياته مأساة مليئة بالألآم والاحزان!
إن الرغبات النهمة التي لا تعرف حدًا للشبع، هي شقاء وبلاء للنفس الإنسانية، ألا ترى يا عزيزي القارئ طفلًا يبكي طلبًا للعبة، وفى اللحظة التي يحصل عليها يطرحها جانبًا باكيًا طالبًا لعبة أخرى. فإذا ما تكدست حوله كومة من الألعاب، وصارت بين يديه. ينظر إليها من دون اكتراث ويتركها غير آسف عليها لأنه يشعر أنها لم تشبعه. كم من كبار ناضجين، ويملكون الكثير، ويحتلون المناصب العظمى لكنهم غير سعداء. حيث تسيطر على حياتهم الرغبات الكثيرة مثل الأطفال. فهي تتقاسم حياتهم، وتقلق منامهم، وتدمر صحتهم، وتوتر أعصابهم، ويرغبون في تحقيقها لكنهم لم يستطيعوا.
لذا يا عزيزي عليك أن تعلم أيضًا أنه طالما أنك لا تستطيع امتلاك كل ما تصبو إليه فعليك أن تكون سيد رغباتك، فتكون أنت المتحكم في أشواقك، لا الأشواق تتحكم فيك، ويكون سلطانك على نفسك وضبط عواطفك بالصبر والأناة والرضا والقناعة، كل هذا غنى أعظم من كل ذهب العالم، وشرف ما دونه شرف العظماء والملوك!
والله لم يقصد قط أن الإنسان وهو تاج الخليقة، الإنسان المتميز عن سائر المخلوقات، أن يستسلم ويتعلم الخمول ويقنع بمثل هذه الأمور ولا يفكر في تطوير نفسه وقدراته، ولكنه بحكمته وصلاحه خلقه ليرتوى من ينابيع السعادة الحقيقية! فذلك الشخص الذي تعلم من مدرسة الحياة أن يكون مكتفيًا بما هو فيه. أنه يبتسم ابتسامة القناعة والرضا، بينما الإسكندر الأكبر بجانبه يبكي وهو جالس على عرش الدنيا يريد أن يفتح السماء. لقد تمتع بولس بروح الاكتفاء، فقابل الجوع، والحرمان، والإهانة، والبرد، والعري، كأنها نعم من عند الله أسبغها عليه لتدريبه فعاش كعصفور لا يتوقف عن التغريد. وفى الحقيقة إن بولس عرف طريقه للسعادة عندما جمع بين كلمتين في اتحاد مقدس «التقوى مع القناعة.»
وأنت ياعزيزى يمكنك بهما أن تحصل على راحة الفكر، واطمئنان القلب، وهدوء الروح، وسعادة الحياة. وفى الواقع هما صفتان ظاهرتان جميلتان تكمل أحداهما الأخرى. وهذه القناعة هنا ليست وليدة حياة ضعيفة خاملة، بل هي وليدة حياة قوية، نشيطة، وثّابة، غنية، تنظر إلى هدف أسمى، مع المستوى الرفيع للشركة المقدسة مع الله في المسيح! وأختم معك يا عزيزى بقول الرب لنا عن طريق كاتب الرسالة إلى العبرانيين "لِتَكُنْ سِيرَتُكُمْ خَالِيَةً مِنْ مَحَبَّةِ الْمَالِ. كُونُوا مُكْتَفِينَ بِمَا عِنْدَكُمْ، لأَنَّهُ قَالَ: «لاَ أُهْمِلُكَ وَلاَ أَتْرُكُكَ»." (عبرانيين 13: 5)