حياة الاكتفاء: بركاتها وخطورة العيش من دونها
10/28/2024 12:00:00 AM
ما أجمل المعاني التي تحتويها قصة ذلك الملك الحزين، الذي كان دائمًا منقبض الصدر، مشتت الفكر، منغّص البال. لا يجد هناء ولا سعادة في ملكه الشاسع الواسع. استشار الأطباء فعجزوا عن وصف دواء له. حتى جاءه حكيم فنصحه أن يبحث عن رجل سعيد في المملكة فيلبس قميصه وبذلك تتحقق له السعادة. فظل مسؤولي المملكة يبحثون عن رجل سعيد حتى وجدوه آخر الأمر جالسًا في كوخه، فلما طلبوا منه قميصه ليلبسه الملك صاحب الجلالة. قال لهم: إني سعيد حقا، ولكنني لا أملك من الدنيا سوى قميصًا. وقد تعلمت الاكتفاء بما أنا فيه! لذا عزيزي يا من تؤلمك مطامعك وتحرق قلبك، تعلم درس الاكتفاء وتعال لتشرب من مخازن النعمة فتشبع نفسك وتهتف مع الرسول قائلا: "تعلمت أن أكون مكتفيًا بما أنا فيه." وبعد هذه المقدمة، وقبل الدخول في صُلب المقال أشير إلى أنه كان لنا مقال سابق حول هذه الفكرة بعنوان "حياة الاكتفـاء: طريقك إلى السعادة الشخصية" وهذا المقال مكمل له ونحاول أن نتناوله في النقاط التالية.
لماذا لا يعيش الناس حياة الاكتفاء؟
اشير باختصار إلى أسباب ثلاثة تالية فقط، الأول: الإحساس الدائم بالفراغ في داخل قلب الإنسان: فراغ واحتياج وجوع، لا يمكن أبدا أن تملأه كل كنوز الدنيا. وهذا ما عبَّر عنه حكيم الحكماء سليمان في سفر الجامعة «كُلُّ الأَنْهَارِ تَجْرِي إِلَى الْبَحْرِ، وَالْبَحْرُ لَيْسَ بِمَلآنَ... الْعَيْنُ لاَ تَشْبَعُ مِنَ النَّظَرِ، وَالأُذُنُ لاَ تَمْتَلِئُ مِنَ السَّمْعِ» (جامعة1: 7، 8). وهذا السبب يجعل الشخص راغبًا في الاكتناز والامتلاك بصفة دائمة دون أي شبع أو اكتفاء. أما الثاني يتمثل في النظرة الخاطئة للأشياء، فلا يمكن أبدًا للأشياء المادية أن تملأ الاحتياجات النفسية والروحية. ولا يمكن لأفضل الموبايلات أو أحدث السيارات أو أفخر العقارات أو أشهى الملذات أن تملأ القلب الفارغ. والإنسان الذي يلهث وراءها عليه أن يعلم أن «كُلُّ مَنْ يَشْرَبُ مِنْ هذَا الْمَاءِ يَعْطَشُ أَيْضًا» (يوحنا 4: 13). كما أن هناك السبب الثالث هو السباق السريع إلى كل ما هو حديث من دون وضع حد واضح لحياة الأشخاص، ومع ازدياد السباق في أسواق المال والأعمال والتكنولوجيا والصناعات، تجد الناس تلهث جريًا ورائها. فما اشتريته بالأمس يصبح اليوم لا قيمة له؛ ولذلك كل واحد يريد الحصول على ما هو جديد، دون الشعور بأي اكتفاء!
خطورة العيش من دون نعمة الاكتفاء
نعم توجد خطورة شديدة على الشخص الذي لا يعيش بحياة القناعة ونعمة الاكتفاء أشير إلى ثلاثة مظاهر منها فقط فيما يلي:
الأول: العيش في حياة الغم والاكتئاب، فالقلب غير المكتفي يتملَّكه شعور بالحسرة على ما لم يحصل عليه، بالرغم مما يمتلك بالفعل، وقد يتملّكه الاكتئاب. وهذا ما حدث مع أخآب الملك، عندما فشل أن يحصل على كرم صغير لنابوت اليزرعيلى ليضيفه إلى ممتلكاته الكثيرة. نعم هو يملك الكثير لكنه يطمع في القليل الذي يملكه الآخر الفقير جدًا القريب منه «دَخَلَ أَخْآبُ بَيْتَهُ مُكْتَئِبًا مَغْمُومًا... وَاضْطَجَعَ عَلَى سَرِيرِهِ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ وَلَمْ يَأْكُلْ خُبْزًا» (1ملوك21: 4).
والثاني: النفاق والأكاذيب، فالرغبة الشديدة في امتلاك المزيد، تقود الإنسان ليسلك أيَّة طريق خاطئة وملتوية وغير مشروعة، ليحصل على ما يريده، فيصير إنسانًا كاذبًا. «وَأَمَّا الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَكُونُوا أَغْنِيَاءَ.. يَسْقُطُونَ فِي تَجْرِبَةٍ وَفَخٍّ وَشَهَوَاتٍ كَثِيرَةٍ غَبِيَّةٍ وَمُضِرَّةٍ تُغَرِّقُ النَّاسَ فِي الْعَطَبِ وَالْهَلاَكِ» (١تيموثاوس ٦: ٩). وهذا ما فعله جيحزي الذي جرى وراء نعمان متكلمًا بأكاذيب لكي يحصل على الحلي والمال وغيرها وفى النهاية كان نصيبه البَرَص ولم يستمتع بشيء (2ملوك 5).
والثالث: عبودية الإنسان للأشياء، أي أنَّ الشخص غير المكتفي مهما أمتلك يشعر دائمًا أنه في وضع الاحتياج والنقص، أي يكون مستعبدًا للأشياء. كما كان فليكس الوالي يستدعي بولس، وهو أسير، ليأخذ منه دراهم! هل نتخيل الوالي الكبير يأخذ دراهم من الخادم الأسير (أعمال24: 26). وغيرها، وغيرها.
الطريق الصحيح للاستمتاع بنعمة الاكتفاء
أوضح لنا الكتاب المقدس بعض من خطوات هذا الطريق تتمثل في:
الثقة في عناية الله: فلكي يكون لدينا شعور بالاكتفاء لا بُدَّ من الاستناد الكلي على الرب. يقول كاتب العبرانيين في (عبرانيين ١٣: ٥، ٦) «لِتَكُنْ سِيرَتُكُمْ خَالِيَةً مِنْ مَحَبَّةِ الْمَالِ. كُونُوا مُكْتَفِينَ بِمَا عِنْدَكُمْ، لأَنَّهُ قَالَ: لاَ أُهْمِلُكَ وَلاَ أَتْرُكُكَ، حَتَّى إِنَّنَا نَقُولُ وَاثِقِينَ: الرَّبُّ مُعِينٌ لِي فَلاَ أَخَافُ. مَاذَا يَصْنَعُ بِي إِنْسَانٌ؟». الله يستطيع أن يملأ الاحتياج بحسب غناه في المجد.
ثم التدريب الذاتي: يحتاج المسيحي الحقيقي إلى تدريب نفسه في محضر الله على أمور كثيرة ومهمة، منها الاكتفاء حتى لا يصبح أسيرًا محتاجًا لشيء ما. لذلك يقول الرسول بولس "...تَعَلَّمْتُ أَنْ أَكُونَ مُكْتَفِيًا بِمَا أَنَا فِيهِ. أَعْرِفُ أَنْ أَتَّضِعَ وَأَعْرِفُ أَيْضًا أَنْ أَسْتَفْضِلَ. فِي كُلِّ شَيْءٍ وَفِي جَمِيعِ الأَشْيَاءِ قَدْ تَدَرَّبْتُ أَنْ أَشْبَعَ وَأَنْ أَجُوعَ، وَأَنْ أَسْتَفْضِلَ وَأَنْ أَنْقُصَ." (فيلبي 4: 11، 12)
وأيضًا التحفظ من الطمع: عندما سأل بعض الجنود يوحنا المعمدان عما يفعلونه لكي يدخلوا ملكوت الله، قال لهم: «لاَ تَظْلِمُوا أَحَدًا، وَلاَ تَشُوا بِأَحَدٍ، وَاكْتَفُوا بِعَلاَئِفِكُمْ (مرتباتكم)» (لوقا ٣: ١٤). والرب يسوع نفسه حَذَّر تلاميذه من الطمع، وقال لهم: «انْظُرُوا وَتَحَفَّظُوا مِنَ الطَّمَعِ، فَإِنَّهُ مَتَى كَانَ لأَحَدٍ كَثِيرٌ فَلَيْسَتْ حَيَاتُهُ مِنْ أَمْوَالِهِ» (لوقا ١٢: ١٥).
والخطوة الأخيرة الثقة في حكمة الله: قد لا نفهم قصد الله من كل ما يجعلنا نُواجهه، وأحيانًا نفعل ما فعله يوسف في عدم فهمه، عندما كان أبوه يعقوب يبارك أولاده، فقال لأبيه: «لَيْسَ هَكَذَا يَا أَبِي» (تكوين ٤٨: ١٨). وفي أوقات كثيرة نكون نحن أيضًا مثل يوسف نقول «كَلاَّ يَا رَبُّ!» (أعمال ١٠: ١٤)، وكأننا نمتلك نظرة ثاقبة للمستقبل أفضل من نظرة الرب ذاته، أو أننا نعرف ما هو لصالحنا أكثر مما يعرفه الله لنا. ولكن من المؤكد أن الآب لا يُخطئ أبدًا. لكن أحيانًا تبدو معاملاته غير مفهومة، وأحيانًا أخرى مُحَيِّرة، ولكنها على أي حال حكيمة ولصالحنا. فاذا لم تكن هناك ثقة في حكمة الله، فلن يكون هناك شعور بالاكتفاء أو الرضا في حياتنا.
عزيزي خير ما أختم به أقول: عليك بضبط ميزان الحياة فكن مجتهدًا مثابرًا طموحًا، وأيضا كن مكتفيًا بعطايا الله لك ولا تعيش قلقًا مهمومًا لأجل الغد والرب يبارك حياتك ويهبك كل سعادة أنت في حاجة إليها.