آراء و أقلام إنجيلية

الصوم في المسيحيّة

  • بقلم: د.ق. نصرالله زكريا

مما لا شكّ فيه، أنَّ الصَّوم يُعتبر أحدُ أهمّ أركان العبادة الأساسيّة، ولا تخلو منه العبادات في غالبيّة الأديان، وهو أمرٌ محمودٌ ومقبولٌ من البشرِ، بل ويسعون إليه، تقرُبًا لله، وطلبًا لنوال غفران خطاياهم. ومنهم مَنْ يصوُم لأسبابٍ تتعلق بالارتقاء بالحياة الروحيّة، أو تهذيب الجسد، أو الزهد والتقشف، أو لأسبابٍ تتعلق بالتعبيرٍ عن موقفٍ سياسي، أو مشاركة الفقراء في احتياجاتهم. وأحيانًا يكون الصَّوم فرديًا، أو جماعيًا، في أوقاتٍ مُحددة ودوريّة، أو في مناسبات حسب الحاجة. وفي كثير من الأحيان، وبعد فترات طويلة من الصَّوم، يتساءل بعضٌ، لماذا صُمنَا، ولماذا لم يقبل الله صيامنا؟
وفي العهد الجديد أكَّد السيد المسيح على أهميّة الصَّوم، ذلك التأكيد الذي ظهر في حياته، وتعاليمه، وفي حواراته مع قادة الدين آنذاك، وعلى مثاله عاش وعلَّم التلاميذ والرسل، وفي حين يُتَّهم الإنجيليين بأنَّهم لا يصُومون، نجد أنَّ المُصلحين الأوائل، مارتن لوثر، وجون كالڨن، وغيرهم، قد أكَّدوا على أهميّة الصَّوم قرين الصلاة ووسائط النعمة المختلفة، مِفتاحًا لحياة التقدُّم في حياة الإيمان، وسُلَّمًا نحو الارتقاء الرُّوحيّ.
تعريف الصَّوم
من المتفق عليه أن الصَّوم هو نوعٌ من الامتناع عن كل أنواع الطعام والشراب لفترة زمنيّة. ويُعرَّف الصَّوم من الناحيّة الدِّينيّة بشكلٍ عام، بأنّه الامتناع الإرادي عن تناول الطعام والشراب وعند الاقتضاء عن العلاقات الجنسيّة، وليس فقط الامتناع عن كل نوع من أنواع الطعام، بل الاعتكاف عن الأشغال والأقوال والأفكار العالميّة وعن كل لذات الجسد، إنه حالة يتجه فيها الإنسان نحو الله مقلّلًا من الروابط التي تربطه بالأرض وضابطًا عناصر طبيعته نحو السّماء. كل ذلك خلال فترة معينة قد تمتد من الغروب إلى الغروب، أو قد تمتد لأكثر من ذلك.
وفي الكتابات العبريّة المتأخرة نرى في الصَّوم نوعًا من الحزن وإذلال النفس، لذلك نجد أنه من العوائد الأخرى المصاحبة للصوم في اليهوديّة شق الثّياب ولبس المسوح وذر التُّراب والرّماد على الرّؤوس وعدم تمشيط الشعر أو غسل الجسم، ويُعرِّف التّلمود الصَّوم بأنَّه "الامتناع عن الطعام والشراب لفترة محدودة اختياريًا تحددها أهداف دينيّة أو خلقيّة". ويقال في الإنجليزيّة عن الإفطار Breakfast وهي تعني كسر الصَّوم باعتبار أنَّ الصَّوم هو الأصل.
ومما لا شكّ فيه، أنَّ الصَّوم يُعتبر ركنًا أساسيًا في العبادة، وقد مارسته الكنيسة المسيحيّة منذ انطلاقها في العهد الجديد، ولأنَّ الكنيسة نشأت في أحضان الدِّيانة اليهوديّة، فقد تبنَّت الكنيسة مفهوم الصَّوم كما كانت اليهوديّة تُعلِّم به، بالطّبع بعدما أدخلت عدة تغييرات جوهريّة.
الصوم، وجهات نظر مختلفة
على الرغم من أهميّة الصَّوم في المسيحيّة، لم يكن للمسيحيين طريقة واحدة في الصوم، ففي حين رتبت الكنائس التقليديّة أوقاتٍ محددة للصوم، تركت الكنائس الإنجيليّة الأمر برمته لضمير الشخص المؤمن ومدى التزامه بالتقرب إلى الله. وعندما شرَّعت الكنيسة الصوم، كان سعيًا منها لتذكرة المؤمنين بأهمية الصوم وضرورة ممارسته، ولكن، وللأسف الشديد، صار تركيز بعض الناس منصبًا على شكل الصوم، لا جوهره. وهكذا يبدو من الواضح أنَّ مسألة الصَّوم المسيحيّ لم تكن أبدًا محسومة من الناحيّة الشرعيّة.
وفي حين لا تُوجد أوقات محددة نصوم فيها أو لا نصوم، أو مواقيت محددة للصوم، فقد رأينا الوصيّة تحدد وقت الصَّوم من المساء إلى المساء (لاويين 23: 16)، لكنَّنا رأينا أيضًا، الأنبياء والمسيح نفسه يتحررون من الوصيّة فيَصُموُنَ أكثر مما قررت الوصيّة.
هدف الصوم
يبقى الهدف من الصَّوم مُنصبًا لا على عدد ساعات أو أيام الصَّوم، ولا على عدد تكرار هذا الصَّوم أسبوعيًا أو شهريًا أو حتى سنويًا، بل على الارتقاء الروحي نحو الله، وخدمة الإنسان، وفي ذلك يقول المسيح: «وَمَتَى صُمْتُمْ فَلاَ تَكُونُوا عَابِسِينَ كَالْمُرَائِينَ» وهنا نجد المسيح لا يركز حديثه على وقت محدد للصَّوم ولكن على كيفيّة الصَّوم، إنه يرفض التدين والعبادة بهدف المظهريّة أمام الناس، فالصَّوم تذلل شخصي أمام الله. أما إذا قرر الإنسان أن يصوم، فهذا يعني أنّه قرر الانقطاع عن الطعام طيلة فترة الصيام، وهذا ما حدث في كل حالات الصيام التي ذكرها الكتاب المقدس (راجع: يونان 3: 5-7، أستير 4: 15-16،)، أما ما حدث في حالة دانيآل حين امتنع عن تناول الأطعمة الشهيّة، قبلما يرى رؤياه، فقد وصف دانيآل هذه الحالة بأنها كانت نوحًا وليس صيامًا، فقد كتب: «فِي تِلْكَ الأَيَّامِ أَنَا دَانِيآلَ كُنْتُ نَائِحًا ثَلاَثَةَ أَسَابِيعِ أَيَّامٍ. لَمْ آكُلْ طَعَامًا شَهِيًّا وَلَمْ يَدْخُلْ فِي فَمِي لَحْمٌ وَلاَ خَمْرٌ وَلَمْ أَدَّهِنْ حَتَّى تَمَّتْ ثَلاَثَةُ أَسَابِيعِ أَيَّامٍ» (دانيال 10: 2-3)، لم يقل دانيآل كنت صائمًا، بل كنت نائحًا، ولم آكل طعامًا شهيًا، وتفسير امتناعه عن الطعام هو الخوف من التدنّس وأكل طعام منافٍ للشرائع اليهوديّة في بلاد لا تُقدِّس تلك الشرائع، وأحيانًا تُسمى المناحةُ صومًا لأنَّها امتناع عن الطعام ولكنَّها ما تزال بعيدة عن هدف الصَّوم الحقيقي.
الوجهان الحقيقيان للصوم
يبقى أنَّ للصومِ الذي يؤكد عليه الكتاب المقدس وجهين:
1) وجهٌ مادي، وهو الامتناع عن المأكل والمشرب؛
2) ووجهٌ روحي، وهو تقديس القلب بالصَّوم إلى الوجود في عشرة وعلاقة روحيّة مع الله.
والصَّوم المقبول لدى الله يستلزم من الإنسان أن يمتنع عن الخطيئة، في سعي دؤوب وراء الله. فالصَّوم هو التحلي بقلبٍ رحيم شفوق، وروح متواضعة تَعرف أنَّها محدودة جدًا أمام عظمة الله وملكوته.