طريق الأحزان!
11/18/2024 12:00:00 AM
ديماس. رأى ديماس حياة جديدة تدب في الأشرار الخطاة الموتى بالذنوب، بكرازة بولس برسالة الخلاص. فجاء إلى المسيح، بل وخدم مع بولس، وكانت كل مظاهر حياته عجيبة ومشجعة، ولا يمكن بحال ما أن تكون الفترة الأولى من حياته مع بولس بعيدة عن الشجاعة والإخلاص والوفاء، حتى أننا نراه وهو يرافق بولس في سجنه الأول بروما. عندما كتب رسالتي كولوسي وفليمون!
ونجد في حياة ديماس شيء جميل جدًا، يفتقده مؤمنين كثيرين في أيامنا. أنه أخذ على عاتقه مسؤولية الخدمة في أول إيمانه واهتدائه إلى الربّ. ليس كما المؤمنون المكتفون بأنفسهم، الذين لا يحركون ساكنًا وكأن لا عمل ولا خدمة لهم. فإنهم يسببون حزنًا للكنيسة وتأخيرًا لعملها وتقدمها وعثرةً لكل من يدخلها. وبكل صراحة أقول: إنّ خطر هؤلاء على الكنيسة هو أشدّ هولاً وفتكًا من خطر أعداء الكنيسة الذين هم من خارج. تذكر يا أخي المؤمن بل والخادم. أن الرب قد وضع وزناتٍ بين يديك. لا لكي تطمرها في التراب بل لتتاجر بها وتربح فوقها. ووعدك قائلاً:" اَلْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: مَنْ يُؤْمِنُ بِي فَالأَعْمَالُ الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا يَعْمَلُهَا هُوَ أَيْضًا، وَيَعْمَلُ أَعْظَمَ مِنْهَا، لأَنِّي مَاضٍ إِلَى أَبِي"(يو14: 12).
لكن للأسف كان ديماس عندما يخلو بنفسه يفكر في الفائدة من هذه الخدمة؟ أو بمعنى أدق ماذا يعود عليه من منفعة شخصية. فهو لا يمتلك من حطام الدنيا شيء، ويريد تأمين مستقبله. نظر إلى حياته وحياة الآخرين من حوله في المدينة، فرأى شباب في ما يقارب عمره لديهم كذا... وكذا!، وتأمل الظروف التي يمر بها أو يواجها مع رفيقه بولس. واحتار تفكيره كثيرًا، إلا أنه قرر واختار طريقه في الحياة، وذهب دون رجعة. ويبدو أن سبب فشل ديماس لم يكن ناتجًا عن جبن أو خوف، بل طمعًا في مجد شخصي" إذ أحب العالم الحاضر".
بولس الرسول بكلمات رثاء وعيون تملأها دموع الحزن. يعلن لنا حقيقة يجب أن نتنبه لها جيدًا، أنه ليس كل من يسيرون في طريق أتباع الرب يسوع يسلكون بكمال قلب، أو يستمرون مجاهدين في محبة كاملة للرب، وهم يتحملون كل شيء لمجد الرب في حياتهم. فهناك من يخوروا في الطريق. " لأَنَّ كَثِيرِينَ يَسِيرُونَ مِمَّنْ كُنْتُ أَذْكُرُهُمْ لَكُمْ مِرَارًا، وَالآنَ أَذْكُرُهُمْ أَيْضًا بَاكِيًا، وَهُمْ أَعْدَاءُ صَلِيبِ الْمَسِيحِ،"(فل3: 18).
ويذكر على سبيل المثال ويقول:" لأَنَّ دِيمَاسَ قَدْ تَرَكَنِي إِذْ أَحَبَّ الْعَالَمَ الْحَاضِرَ وَذَهَبَ إِلَى تَسَالُونِيكِي، وَكِرِيسْكِيسَ إِلَى غَلاَطِيَّةَ، وَتِيطُسَ إِلَى دَلْمَاطِيَّةَ"(2تي4: 10). وهنا الرسول بولس يذكر أن ثلاث أشخاص تركوه. إلا أنه يعطي سبب لترك أحدهم له وهو ديماس. وحقًا فأننا نقرأ عن استمرار تيطس في الخدمة فيذكر اسمه في ثلاث رسائل. أما كريسكيس فقد ذهب إلى غلاطية، ولا نعرف عنه شيء بعد ذلك. لكن الرسول بولس لم يصف تركه له كما ديماس.
ومما يدعوا للحزن والأسف أن محبة ديماس للعالم، كما تعني الكلمة في الأصل لم تكن مجرد المحبة العاطفية. التي قد تكون نزوة من النزوات في وقت ضعف، بل محبة قوية تصدر عن وعي وتفكير عميق، أو بمعنى أخر إن قراره لم يكن وليد تصرف انفعالي نتيجة الظـروف المحـيطة، بـل وليد فكـرة طـال اختمارها في الذهـن، ثم تحولت إلى قـرار للتنفـيذ في إصرار وتصميم راسخ!، فما هي هذه المحبة التي تسلطت على ذهنه إلى هذا الحد؟! ربما نستطيع أن نفهمها جيدًا إذا تأملنا المدلول الصحيح لكلمة (العالم الحاضر) التي يعنيها الرسول بولس.
فكلمة (الحاضر) لها معنيين أساسيين هما: [المنظور في مواجهة غـير المنظور، والوقتي في مواجهة الأبدي]. فالعالم الحاضر هـو عالم الحياة الحاضرة المنظورة، التي يصرف الناس فيها قواهم، ويعيشون للجسد بكل ما في الكلمة من معنى، دون أن تنفتح عيونهم على العالم الروحي غير المنظور. الذي رأه الرسول بولس فقال:" بَلْ كَمَا هُوَ مَكْتُوبٌ: مَا لَمْ تَرَ عَيْنٌ، وَلَمْ تَسْمَعْ أُذُنٌ، وَلَمْ يَخْطُرْ عَلَى بَالِ إِنْسَانٍ: مَا أَعَدَّهُ اللهُ لِلَّذِينَ يُحِبُّونَهُ"(1كو2: 9). وبهذا المعنى يكون ديماس رأى في تسالونيكي ما كان يفكر فيه كما ذكرنا.
المال. حيث التجارة والمكسب الوفير. وكان التفكير لماذا حياة التقشف وهناك حياة تغمرها أموال العالم. ويكفي أن نتأمل هـذه الكلمات لنعـرف لماذا أنحـرف ديماس وأنغمس في العالم الحاضر. إذ أحب المال" لأَنَّ مَحَبَّةَ الْمَالِ أَصْلٌ لِكُلِّ الشُّرُورِ، الَّذِي إِذِ ابْتَغَاهُ قَوْمٌ ضَلُّوا عَنِ الإِيمَانِ، وَطَعَنُوا أَنْفُسَهُمْ بِأَوْجَاعٍ كَثِيرَةٍ"(1تي ١٠:٦). وقد سبق وذكرنا كيف أفسد المال حياة أولاد النبي صموئيل، وهم خدام هيكل الرب. وهكذا ضاعت خدمتهم. بل جلبوا على والدهم وأنفسهم شرورًا لا حصر لها. فأصعب شيء يُصيب مُحب المال أنه يفقد كرامته وإنسانيته، ويكون وضيع ذليل، أو متجبر وقاسي في تصرفاته مع الأخرين.
ولا ننسى تقرير الرب المدهش لنا عن محبة المال إذ يقول: " لاَ يَقْدِرُ خَادِمٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ، لأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ الْوَاحِدَ وَيُحِبَّ الآخَرَ، أَوْ يُلاَزِمَ الْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ الآخَرَ. لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا اللهَ وَالْمَالَ"(لو 16: 13).
نعم أنها مقارنة عجيبة وغير منطقية بالنسبة لنا. أن يُقارن (الله مع المال). لكن هذه المقارنة ليست في القيمة والمكانة، بل في المحبة البشرية لهما. وهذا ما قاله الرب نفسه. أنه لا يمكن لمن يُحب المال أن يُحب الله. لأن المال سيد قاسي جدًا. لذلك يشجعنا الرسول بولس بأن نتكل على محبة الله، ونطرد محبة المال من داخلنا تمامًا ويقول:" لِتَكُنْ سِيرَتُكُمْ خَالِيَةً مِنْ مَحَبَّةِ الْمَالِ. كُونُوا مُكْتَفِينَ بِمَا عِنْدَكُمْ، لأَنَّهُ قَالَ: لاَ أُهْمِلُكَ وَلاَ أَتْرُكُكَ"(عب13: 5).
الشهرة. أي المجـد الذاتي. بأنه يصـير من الأغـنياء، وهكـذا يكون رجل مجتمع من صفوة القوم، وله نفوذ ومكانة بين العظاء في المدينة. تُقدم له التحية ويجلس في المقدمة في الولائم. فهكذا حال كل من يُحب نفسه دون محبة الله. قال الرب:" احْذَرُوا مِنَ الْكَتَبَةِ الَّذِينَ يَرْغَبُونَ الْمَشْيَ بِالطَّيَالِسَةِ، وَيُحِبُّونَ التَّحِيَّاتِ فِي الأَسْوَاقِ، وَالْمَجَالِسَ الأُولَى فِي الْمَجَامِعِ، وَالْمُتَّكَآتِ الأُولَى فِي الْوَلاَئِمِ"(لو20: 46). ويفطن لهذا التحذير الرسول بولس ويقدم لنا نصيحة غاية في الأهمية لحياة المؤمنين معًا فيقول:" وَادِّينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا بِالْمَحَبَّةِ الأَخَوِيَّةِ، مُقَدِّمِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فِي الْكَرَامَةِ"(رو12: 10).
الشهوة. الضلع الثالث في العالم الحاضر" لأَنَّ كُلَّ مَا فِي الْعَالَمِ: شَهْوَةَ الْجَسَدِ، وَشَهْوَةَ الْعُيُونِ، وَتَعَظُّمَ الْمَعِيشَةِ"، فالشهوة الدنسة تقتل كل مشاعر نبيلة في الإنسان، لذلك يحرضنا الرسول بولس بأن نكون في الرب يسوع، ويقول: " بَلِ الْبَسُوا الرَّبَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ، وَلاَ تَصْنَعُوا تَدْبِيرًا لِلْجَسَدِ لأَجْلِ الشَّهَوَاتِ"(رو13: 14). وهكذا من خلال قوة الروح القدس العامل فينا:" فَأَمِيتُوا أَعْضَاءَكُمُ الَّتِي عَلَى الأَرْضِ: الزِّنَا، النَّجَاسَةَ، الْهَوَى، الشَّهْوَةَ الرَّدِيَّةَ، الطَّمَعَ الَّذِي هُوَ عِبَادَةُ الأَوْثَانِ،"(كو3: 5). حتى لا تتملكنا الشهوة ويكون المصير المخيف ألا وهو الموت الأبدي." ثُمَّ الشَّهْوَةُ إِذَا حَبِلَتْ تَلِدُ خَطِيَّةً، وَالْخَطِيَّةُ إِذَا كَمَلَتْ تُنْتِجُ مَوْتًا"(يع1: 15).
هذه حياة من أحب العالم الحاضر (المادي المنظور) وهو لا يرى (العالم الروحي) الغير منظور بالعين الجسدية، ولكننا نراه بالإيمان "لأَنَّنَا بِالإِيمَانِ نَسْلُكُ لاَ بِالْعِيَانِ". فما أعظم الكلمات التي قيلت في موسى " بِالإِيمَانِ مُوسَى لَمَّا كَبِرَ أَبَى أَنْ يُدْعَى ابْنَ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ، مُفَضِّلاً بِالأَحْرَى أَنْ يُذَلَّ مَعَ شَعْبِ اللهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ تَمَتُّعٌ وَقْتِيٌّ بِالْخَطِيَّةِ، حَاسِبًا عَارَ الْمَسِيحِ غِنًى أَعْظَمَ مِنْ خَزَائِنِ مِصْرَ، لأَنَّهُ كَانَ يَنْظُرُ إِلَى الْمُجَازَاةِ. بِالإِيمَانِ تَرَكَ مِصْرَ غَيْرَ خَائِفٍ مِنْ غَضَبِ الْمَلِكِ، لأَنَّهُ تَشَدَّدَ، كَأَنَّهُ يَرَى مَنْ لاَ يُرَى"(عب11: 24-27). هكذا كل من يؤمن ويحب الرب ويثق في قدرته ويرى فيه كل المجد والبهاء.
يا للنهاية المؤسفة لديماس! نهاية كانت بعكس البداية ويا ليت الأمر كان معكوسًا " نِهَايَةُ أَمْرٍ خَيْرٌ مِنْ بَدَايَتِهِ. طُولُ الرُّوحِ خَيْرٌ مِنْ تَكَبُّرِ الرُّوحِ"(جا7: 8). لقد ارتطمت سفينة حياته بصخرة محبة العالم. وتحطّمت أيّما تحطّم.
فطريق الأحزان في حياته. لأنه بدء ولم يستمر. بدء حياة في نشوة روحية دون عمق حقيقي. فرح مع الفارحين وخدم ورافق الخدام. لكن دون تربة صالحة في داخله. معتمد على المشاعر الجسدية. لذلك خنقه شوك العالم، وهكذا كمّل بالجسد بعدما ابتدأ بالروح." أَهكَذَا أَنْتُمْ أَغْبِيَاءُ! أَبَعْدَمَا ابْتَدَأْتُمْ بِالرُّوحِ تُكَمَّلُونَ الآنَ بِالْجَسَدِ؟ "(غل3:3).
وفي غباء غير مسبوق جعل من نفسه عدوًا لله. إذ أنه انغمس في ملذات العالم ولا سيما أنه كان في تسالونيكي المليئة بالشرور والفساد الأخلاقي؛ ولم يتحذر لحياته، ولم يقتدي بالمؤمنين رفقاء الخدمة الذين حياتهم شهادة للإيمان الحقيقي الواثق بالرب." لِذلِكَ نَحْنُ أَيْضًا إِذْ لَنَا سَحَابَةٌ مِنَ الشُّهُودِ مِقْدَارُ هذِهِ مُحِيطَةٌ بِنَا، لِنَطْرَحْ كُلَّ ثِقْل، وَالْخَطِيَّةَ الْمُحِيطَةَ بِنَا بِسُهُولَةٍ، وَلْنُحَاضِرْ بِالصَّبْرِ فِي الْجِهَادِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَنَا،"(عب12: 1). بل أرتمي في أحضان العالم بكل ما تعني الكلمة.".... أَمَا تَعْلَمُونَ أَنَّ مَحَبَّةَ الْعَالَمِ عَدَاوَةٌ ِللهِ؟ فَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَكُونَ مُحِبًّا لِلْعَالَمِ، فَقَدْ صَارَ عَدُوًّا ِللهِ"( يع4:4).
لذلك يحذرنا الكتاب بالقول:" اُنْظُرُوا أَيُّهَا الإِخْوَةُ أَنْ لاَ يَكُونَ فِي أَحَدِكُمْ قَلْبٌ شِرِّيرٌ بِعَدَمِ إِيمَانٍ فِي الارْتِدَادِ عَنِ اللهِ الْحَيِّ"(عب3: 12). لأن حياة الإيمان لابد أن تستمر حتى لا نغضب الله فلا يُسر بنا." أَمَّا الْبَارُّ فَبِالإِيمَانِ يَحْيَا، وَإِنِ ارْتَدَّ لاَ تُسَرَُّ بِهِ نَفْسِي. وَأَمَّا نَحْنُ فَلَسْنَا مِنَ الارْتِدَادِ لِلْهَلاَكِ، بَلْ مِنَ الإِيمَانِ لاقْتِنَاءِ النَّفْسِ"(عب10: 38-39). فديماس بمحبته للعالم الحاضر الفاني. قد خسر كل شيء في حياته الأرضية والأبدية. ولم يفطن لهذه الحقيقة " وَالَّذِينَ يَسْتَعْمِلُونَ هذَا الْعَالَمَ كَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَعْمِلُونَهُ. لأَنَّ هَيْئَةَ هذَا الْعَالَمِ تَزُولُ"(1كو7: 31).
صديقي... أين أنت من حياة ديماس؟ أصلي أن لا تشاكله في شيء من جوانب حياته. بل تعيش في إيمان حقيقي ومحبة صادقة من كل القلب للرب. ويكون شعارك في الحياة {لأَنَّنَا لَمْ نَدْخُلِ الْعَالَمَ بِشَيْءٍ، وَوَاضِحٌ أَنَّنَا لاَ نَقْدِرُ أَنْ نَخْرُجَ مِنْهُ بِشَيْءٍ"(1تي6: 7) فلا تنظر لسراب العالم الذي لا يُمتلك.