الصَّوم وتساؤلات هامة
11/18/2024 12:00:00 AM
في كل مناسبة لممارسة الأصوام التقليديّة يتجدد السؤال: هل يَصُوم الإنجيليون؟ كسائر المسيحيين؟ وكيف يصومون؟ وربما هذه الأسئلة تأخذنا إلى أسئلةٍ أخرى، منها: هل هناك أصوامٌ مقرّرة في المسيحيّة؟ هل حدِّد الكتاب المقدس أيامًا أو شهورًا للصوم؟ وما هي المدة التي يجب أن يقضيها المؤمن في الصَّوم؟ هل الصَّوم فريضة مسيحيّة؟ ما علاقة الصَّوم بالصلاة؟ هل يمكن أن يكون الصَّوم غير مرتبطٍ بالعبادة؟ هل هناك صومٌ مقبولٌ وصومٌ مرفوض؟ ولماذا يرفض الله صومًا بينما يقبل الآخر؟
1- هل يصوم الإنجيليّون؟
على الرغم من أنَّ الإصلاح الإنجيلي جاء حاسمًا وحازمًا ضد كل الممارسات الكنسيّة غير المؤسسة على "الكتاب المقدس وحده"، اتفق غالبيّة المُصلحين وعلى رأسهم المُصلح مارتن لوثر، والمُصلح جون كالڨن وغيرهم، على أهميّة وضرورة الصَّوم كوسيلة وليس غايّة، وكسُلَّمٍ يُساعد المؤمن على الارتقاء في حياته الروحيّة، وتهذيبها، كما أنَّ إقرار الإيمان الإنجيلي الذي كتب سنة 1566م، والذي له السلطة العليا في الكنائس الإنجيليّة المصلَحة عن ضرورة الصَّوم، فيقول: «إنَّ كنيسة المسيح تُوصينا بالصيام المسيحي، كضرورة في الوقت الحاضر بحيث نتضع أمام الله ونحرم جسدنا من وقوده، لكي يطيع الروح طاعة أكبر»، ويكمل قائلًا: «إنَّ الصَّوم عُونٌ لصلوات القديسين ولكل الفضائل» . وهكذا نجد أنَّ الإنجيلين يُقدِرون الصَّوم، بحسب ما جاء في الكتاب المقدس وحده، وعلى تلك المبادئ الكتابيّة التي تؤكد على: أهميّة وضرورة الصَّوم، وعلى أنَّ الصوم الكتابيّ هو الامتناع عن الطعام والشراب لفترة محددة دون تناول أو عدم تناول أطعمة بعينها، حريّة المؤمن في اختيار الوقت الذي يصوم فيه، دون تحديد أوقاتٍ أو أزمنةٍ للصَّوم، الاشتراك مع الكنيسة، بل والجماعة كُلِّها في حالة الصَّوم في الأزمات العامة، كالحروب وانتشار الأوبئة وغيرها، أو عند انطلاق خدمة ما، كما فعل الرسل، عدم المُجاهرة بالصَّوم أمام البشرِ، وأنْ يقترن الصَّوم بالصلاة، والتوبة، والعطاء وفعل الخير.
2- هل من أوقات محدَّدة للصَوم؟ وما الزَّمن المطلوب للصَوم؟
لا توجد أوقات محدَّدة نصوم فيها أو لا نصوم، ولكن المسيح يقول: "وَمَتَى صُمْتُمْ فَلاَ تَكُونُوا عَابِسِينَ كَالْمُرَائِينَ" وهنا نجد المسيح لا يركز حديثه على وقت محدَّدٍ للصوم، ولكن على كيفية الصَّوم، أنه يرفض التدين والعبادة بهدف المظهرية أمام الناس، فالصَّوم إنكسار شخصي أمام الله.
وعند الصَّوم نجد أن الكتاب يوضِّح في أكثر من مكان أن مدة الصَّوم عادة هي من مساء إلى مساء، وهذا ما نراه في يوم الكفارة العظيم (لاويين 23: 12)، في حالة يشوع 7: 6)، داود ورجاله صاموا إلى المساء (2صموئيل 1: 10)، وكما مر بنا نرى في إشعياء 58 الحديث عن يوم صومكم، لذلك فإن الصَّوم الكتابي بعيدًا عن الحالات الخاصة مدته يوم واحد.
3- هل يمكن أن يكون الصَّوم عن بعض أنواع الطعام فقط؟ كما في حالة دانيآل مثلًا؟
نقول إنّ الصَّوم هو امتناع عن الطعام، وهذا ما حدث في حالة أهل نينوى (يونان 3: 5-7)، ومع شعب أستير (أستير 4: 15-16)، لكن ما حدث مع دانيآل يمكن أن نسميه كما أطلق عليه الكتاب مناحة، وليس صومًا، كما أنه لا يقل كنت صائمًا بل كنت نائحًا، ولم آكل طعامًا شهيًا، وتفسير امتناعه عن الطعام هو الخوف من التدنّس وأكل طعام منافي للشرائع اليهوديّة في بلاد لا تُقدِّس تلك الشرائع، وأحيانًا تسمى المناحة صومًا لأنَّها إمتناع عن الطعام ولكنَّها لا تزل بعيدة عن هدف الصَّوم الحقيقي.
4- هل يمكن للكنيسة أن تفرض صومًا معينًا؟
من مميزات الصَّوم أنَّه تعبير عن علاقة خاصة بين الإنسان وإلهه، ولا يصلح لهذه النوعيّة من العلاقة أن تقوم على فروض بشريّة، لذا يقول المسيح "مَتى صُمتم"، حتى صوم الجماعة لا يجب أن يُفرض، ولكن يصح أن تتفق الجماعة معًا ولحالة خاصة على صوم كما حدث مع أستير (أستير 4: 15-17)
أما الصَّوم الدوري أو المفروض من الآخرين فإنَّ الكتاب يحذرنا قائلًا: «فَلاَ يَحْكُمْ عَلَيْكُمْ أَحَدٌ فِي أَكْلٍ أَوْ شُرْبٍ» (كولوسي 2: 16)، ويقول السيد المسيح «وَبَاطِلًا يَعْبُدُونَنِي وَهُمْ يُعَلِّمُونَ تَعَالِيمَ هِيَ وَصَايَا النَّاسِ» (متى 15: 9)، ويقول الرسول بولس «وَأَمَّا الآنَ إِذْ عَرَفْتُمُ اللهَ، بَلْ بِالْحَرِيِّ عُرِفْتُمْ مِنَ اللهِ، فَكَيْفَ تَرْجِعُونَ أَيْضًا إِلَى الأَرْكَانِ الضَّعِيفَةِ الْفَقِيرَةِ الَّتِي تُرِيدُونَ أَنْ تُسْتَعْبَدُوا لَهَا مِنْ جَدِيدٍ؟ أَتَحْفَظُونَ أَيَّامًا وَشُهُورًا وَأَوْقَاتًا وَسِنِينَ؟ أَخَافُ عَلَيْكُمْ أَنْ أَكُونَ قَدْ تَعِبْتُ فِيكُمْ عَبَثًا!» (غلاطيّة 4: 9-11) وهذه ترد على مَن يرددون ويرون أهميّة للأصّوام الدوريّة السنويّة وغيرها.
وقد كتب د. القس فايز فارس ، أنَّ الأصَّوام التقليديّة المفروضة بالإضافة إلى أنَّها بلا دواع شخصيّة أو عائليّة أو كنسيّة، فلم يأمُر بها الله ولا تتمتع بمميزات الصَّوم الكتابي كالسريّة أو الإنقطاع التام عن الأكل والشرب، أو النوح على حالة معينة وإلتماس المراحم. وإليكم أمثلة:
أ- الصَّوم المسمى «بالصَّوم الكبير» ويقال إنَّه للتمثل بالرّب في صومه. ومع أنَّ واجب المؤمنين التمثل بالمسيح إلَّا إنَّهم من جهة الصَّوم وإن استطاعوا أن يتمثلوا به في مبدئه إلّا أنَّهم يعجزون عن التمثل به في نوعه. فقد كان صومه إنقطاعًا تامًا عن الأكل والشرب طيلة الأربعين يومًا. وقد صام الرب هذه المدَّة مرَّة واحدة ولم يكررها في كل ميعاد. وبذلك لا يكون الصَّوم الكبير إقتداءً بالمسيح. وهو لم يطلب ذلك من المؤمنين. فقد كان صيامه أمرًا خاصا به لكي يوجد نفسه في تجربته في ظروف مضادة لظروف آدم الأوّل الذي جرب في الأكل وهو في جنّة ومسموح له بكل أنواع الأكل، أمَّا يسوع فجُرِّب وهو في صحراء وهو جوعان وذلك ليبرهن على عظمته كإنسان وعلى أهليته أن يقدم نفسه كفارة عن البشر.
ب- الصَّوم المسمى صوم الرسل- لا نجد في الكتاب المقدس ذكرًا أن رسل المسيح صاموا صوما متواصلًا لمدة شهر. الذي ورد ذكره في أعمال 13: 1-3 أن بعض الأنبياء كانوا في أنطاكيّة يخدمون الرب يصومون ولم يكن منهم أحد من الرسل الاثني عشر وكان صيامهم تذللًا لينصرهم الله على الصعاب التي تعترض الخدمة. ولا مانع أنَّ خدام الرب يقتدون بهم حسب ظروفهم لكن ليس بصوم مفروض.
ج- الصَّوم المسمى بصوم العذراء –لم يرد في الكتاب أنَّ القديسة العذراء صامت. وخطأ هذا الصَّوم أنَّ من يصومه يتعبد للعذراء ويتشفع بها لقضاء مصالح زمنية كإطالة عمر الأولاد ونجاح الامتحانات وشفاء الأمراض- وهذه كلها فوق أنَّها جسديّات لا تتصل بملكوت الله وبره فإنَّها موجهه إلى إنسان مهما كان مقامه رفيعًا مكرمًا، ولا يليق النذر لإنسان. والقديسون في الكتاب رفضوا أن يعبدوا، ومزقوا ثيابهم تبرئًا من نذر النذور لهم وذبح الذبائح أو تقديم العبادة لهم (أعمال 14: 8-18) لأنَّ العبادة في كل أشكالها من حقوق الله وحده (متى 4: 10) وقد قيل «مَلْعُونٌ الرَّجُلُ الَّذِي يَتَّكِلُ عَلَى الإِنْسَانِ... » (إرميا 17: 5-8).
د- الصَّوم المسمى صوم نينوى- وهنا يقول البعض إنَّه مثل يونان. ويونان لم يصم لأن الصَّوم يجب أن يكون اختياريًّا أمَّا يونان فكان صومه في جوف الحوت ولم ينوِ الصيام. أما إذا قيل إنِّه مثل شعب نينوى، فقد كان هذا مصحوبًا بتوبة بناء على كرازة يونان وإنذاره- ولا توجد إشارة على أنهَّم صاموا ثلاثة أيام- وهذا واجب الخطأة عند توبتهم وليس عادة سنويّة.
هـ- صوم الجمعة الكبيرة: إذا قيل كان المسيح متألمًا ويجب ألا نكون فرحين- نرد بأنَّ المسيح قال للواتي كن يبكين عليه «لاَ تَبْكِينَ عَلَيَّ بَلِ ابْكِينَ عَلَى أَنْفُسِكُنَّ وَعَلَى أَوْلاَدِكُنَّ» (لوقا 23: 28). كما أن المسيح لم يكن ذاهبًا للصليب مغلوبًا على أمره بل برضاه لأجل خلاصنا. وواجب المؤمنين أن يفرحوا لأجل الخلاص «فِصْحَنَا أَيْضاً الْمَسِيحَ قَدْ ذُبِحَ لأَجْلِنَا إِذاً لِنُعَيِّدْ» (1كورنثوس 5: 7-8). وذكرى موت المسيح تذكره بالعشاء الرباني بإبتهاج.
و- صيام قبل التناول من الفريضة (عشاء الرب) نقول أن الفريضة تمت بعد العشاء. وعندما خلط أهل كورنثوس بين الطعام العادي وعشاء الرَّب قاله لهم الرسول «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَجُوعُ فَلْيَأْكُلْ (أكله العادي) فِي الْبَيْتِ» (1كورنثوس 11: 34). أما التذلل من أجل الخطية فيمكن أن يكون في أي وقت.
الخلاصة،
من الواضح أنَّ مسألة الصَّوم المسيحيّ لم تكن أبدًا محسومة من الناحيّة الشرعيّة، أي أن المسيحيين لم تكن لهم طريقة واحدة في الصوم، ولكن تُرِكَ الأمر برمته لضمير الشخص المؤمن ومدى إلتزامه بالتقرب إلى الله. وعندما شرَّعت الكنيسة الصوم، كان سعيًا منها لتذكرة المؤمنين بأهمية الصوم وضرورة ممارسته، ولكن، وللأسف الشديد، صار تركيز بعض الناس منصبًا على شكل الصوم، لا جوهره.
وفي حين لا تُوجد أوقات محددة نصوم فيها أو لا نصوم، أو مواقيت محددة للصوم، فقد رأينا الوصيّة تحدد وقت الصَّوم من المساء إلى المساء (لاويين 23: 16)، لكنَّنا رأينا أيضًا، الأنبياء والمسيح نفسه يتحررون من الوصيّة فيَصُموُنَ أكثر مما قررت الوصيّة.
ويبقى الهدف من الصَّوم مُنصبًا لا على عدد ساعات أو أيام الصَّوم، ولا على عدد تكرار هذا الصَّوم أسبوعيًا أو شهريًا أو حتى سنويًا، بل على الإرتقاء الروحي نحو الله، وخدمة الإنسان، وفي ذلك يقول المسيح: «وَمَتَى صُمْتُمْ فَلاَ تَكُونُوا عَابِسِينَ كَالْمُرَائِينَ» وهنا نجد المسيح لا يركز حديثه على وقت محدد للصَّوم ولكن على كيفيّة الصَّوم، إنه يرفض التدين والعبادة بهدف المظهريّة أمام الناس، فالصَّوم تذلل شخصي أمام الله. أما إذا قرر الإنسان أن يصوم، فهذا يعني أنّه قرر الإنقطاع عن الطعام طيلة فترة الصيام، وهذا ما حدث في كل حالات الصيام التي ذكرها الكتاب المقدس (راجع: يونان 3: 5-7، أستير 4: 15-16،)، أما ما حدث في حالة دانيآل حين أمتنع عن تناول الأطعمة الشهيّة، قبلما يرى رؤياه، فقد وصف دانيآل هذه الحالة بأنها كانت نوحًا وليس صيامًا، فقد كتب: «فِي تِلْكَ الأَيَّامِ أَنَا دَانِيآلَ كُنْتُ نَائِحًا ثَلاَثَةَ أَسَابِيعِ أَيَّامٍ. لَمْ آكُلْ طَعَامًا شَهِيًّا وَلَمْ يَدْخُلْ فِي فَمِي لَحْمٌ وَلاَ خَمْرٌ وَلَمْ أَدَّهِنْ حَتَّى تَمَّتْ ثَلاَثَةُ أَسَابِيعِ أَيَّامٍ» (دانيال 10: 2-3)، لم يقل دانيآل كنت صائمًا، بل كنت نائحًا، ولم آكل طعامًا شهيًا، وتفسير إمتناعه عن الطعام هو الخوف من التدنّس وأكل طعام منافٍ للشرائع اليهوديّة في بلاد لا تُقدِّس تلك الشرائع، وأحيانًا تُسمى المناحةُ صومًا لأنَّها امتناع عن الطعام ولكنَّها ما تزال بعيدة عن هدف الصَّوم الحقيقي.
يبقى أنَّ للصومِ الذي يؤكد عليه الكتاب المقدس وجهين:
1) وجهٌ مادي، وهو الامتناع عن المأكل والمشرب؛
2) ووجهٌ روحي، وهو تقديس القلب بالصَّوم إلى الوجود في عشرة وعلاقة روحيّة مع الله.
والصَّوم المقبول لدى الله يستلزم من الإنسان أن يمتنع عن الخطيئة، في سعي دؤوب وراء الله. فالصَّوم هو التحلي بقلبٍ رحيم شفوق، وروح متواضعة تَعرف أنَّها محدودة جدًا أمام عظمة الله وملكوته.