يسوع مثال لنا في الصلاة
12/16/2024 12:00:00 AM
في (يوحنا 17: 1-17)
سُمِّيَت هذه الصلاة في الأدبيّات المسيحيّة بالصلاة الشفاعيّة والصلاة الكهنوتيّة، وهي الصلاة الأطول المذكورة للمسيح من بين 21 صلاة صلاها المسيح في الأناجيل، والسؤال هو: لماذا صلى المسيح؟ ولماذا ذكرت تفاصيل هذه الصلاة بحسب إنجيل يوحنا؟ يقول كلفن: يظهر يسوع نفسه كقدوة، أنهم لا يجب أن ينشغلوا فقط ببذر الكلمة بل بالصلاة أيضًا، وهم يخدمون عليهم أن يطلبوا معونة الله لكي تأتي بثمر. بجانب ما قاله كلفن نقترب من هذه الصلاة لكي نتعلَّم منها كنموذج يحتذى به في حياتنا الروحيّة.
وهذه الصلاة منذ البداية تربط التعليم بالصلاة، وهذا يجعلنا نربط بين نهاية إنجيل يوحنا الإصحاح السادس عشر: "قَدْ كَلَّمْتُكُمْ بِهذَا لِيَكُونَ لَكُمْ فِيَّ سَلاَمٌ. فِي الْعَالَمِ سَيَكُونُ لَكُمْ ضِيقٌ، وَلكِنْ ثِقُوا: أَنَا قَدْ غَلَبْتُ الْعَالَمَ" (يو 16: 33). "تَكَلَّمَ يَسُوعُ بِهذَا وَرَفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ وَقَالَ: أَيُّهَا الآبُ، قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ. مَجِّدِ ابْنَكَ لِيُمَجِّدَكَ ابْنُكَ أَيْضًا" (يو 17: 1).
ويربط يوحنا بين هذه الصلاة وبداية الإصحاح الثامن عشر بالمعاناة (بداية رحلة الصليب): "وقَالَ يَسُوعُ هذَا وَخَرَجَ مَعَ تَلاَمِيذِهِ إِلَى عَبْرِ وَادِي قَدْرُونَ، حَيْثُ كَانَ بُسْتَانٌ دَخَلَهُ هُوَ وَتَلاَمِيذُهُ. وَكَانَ يَهُوذَا مُسَلِّمُهُ يَعْرِفُ الْمَوْضِعَ، لأَنَّ يَسُوعَ اجْتَمَعَ هُنَاكَ كَثِيرًا مَعَ تَلاَمِيذِهِ. فَأَخَذَ يَهُوذَا الْجُنْدَ وَخُدَّامًا مِنْ عِنْدِ رُؤَسَاءِ الْكَهَنَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ، وَجَاءَ إِلَى هُنَاكَ بِمَشَاعِلَ وَمَصَابِيحَ وَسِلاَحٍ. فَخَرَجَ يَسُوعُ وَهُوَ عَالِمٌ بِكُلِّ مَا يَأْتِي عَلَيْهِ، وَقَالَ لَهُمْ: مَنْ تَطْلُبُونَ؟ أَجَابُوهُ: يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ. قَالَ لَهُمْ: أَنَا هُوَ. وَكَانَ يَهُوذَا مُسَلِّمُهُ أَيْضًا وَاقِفًا مَعَهُمْ. فَلَمَّا قَالَ لَهُمْ: إِنِّي أَنَا هُوَ، رَجَعُوا إِلَى الْوَرَاءِ وَسَقَطُوا عَلَى الأَرْضِ. فَسَأَلَهُمْ أَيْضًا: مَنْ تَطْلُبُونَ؟ فَقَالُوا: يَسُوعَ النَّاصِرِيَّ." (يوحنا 18: 1-7).
وبذكاء شديد يضع يوحنا هذه الصلاة بين الخطاب الوداعي للمسيح الذي سُمِّيَ بأحاديث الرحيل ورحلة الآلام مقارنة بين ما ورد في الأناجيل الإزائيّة عن صلاة المسيح في بستان جثسيمانيّ التي وردت في (مرقس 14: 32-42). هذا بالإضافة إلى أن هذه تربط هذه الصلاة بين الشهادة والخدمة والقدرة على التأثير، والأهم من ذلك هو أن المسيح يصلي من أجلنا فهذا أعظم تشجيع. تنقسم الصلاة إلى ثلاثة أقسام:
1- صلى المسيح من أجل نفسه (يو 17: 1-5)
2- صلى المسيح من أجل تلاميذه (يو 17: 6-19)
3- صلى المسيح من أجل الكنيسة (يو 17: 20-26)
أولاً: صلى المسيح من أجل نفسه (يو 17: 1-5)
في هذا الإصحاح تظهر شخصية المسيح على أساس أنه نموذج يحتذى به في الصلاة وأسوة حسنة لكل المؤمنين في كل أنحاء العالم على مر العصور، المسيح يصلي ليعلمنا الصلاة، من السؤال الذي واجه علمنا كيف نصلي: "وَإِذْ كَانَ يُصَلِّي فِي مَوْضِعٍ، لَمَّا فَرَغَ، قَالَ وَاحِدٌ مِنْ تَلاَمِيذِهِ: يَا رَبُّ، عَلِّمْنَا أَنْ نُصَلِّيَ كَمَا عَلَّمَ يُوحَنَّا أَيْضًا تَلاَمِيذَهُ." (لو 11: 1). واضعُا للصلاة التي سميت بالربية والتي فيها تفتح البابا أمام مفهوم متميز عن الله أنه أب: "فَقَالَ لَهُمْ: مَتَى صَلَّيْتُمْ فَقُولُوا: أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ" (لو 11: 2)، ثم ثلاثة طلبات لله: لِيَتَقَدَّسِ اسْمُكَ، لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ، لِتَكُنْ مَشِيئَتُكَ كَمَا فِي السَّمَاءِ كَذلِكَ عَلَى الأَرْضِ." (لو 11: 2). يليها ثلاثة طلبات تخص احتياجات الإنسان الأساسية: "خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا كُلَّ يَوْمٍ، "وَاغْفِرْ لَنَا خَطَايَانَا لأَنَّنَا نَحْنُ أَيْضًا نَغْفِرُ لِكُلِّ مَنْ يُذْنِبُ إِلَيْنَا، وَلاَ تُدْخِلْنَا فِي تَجْرِبَةٍ لكِنْ نَجِّنَا مِنَ الشِّرِّيرِ." (لو 11: 3-4).
من طلب تعليم الصلاة إلى معايشة الصلاة نفسها هو ما دونه لوقا عن المسيح أنه عمل وعلم، حيث يقول: "اَلْكَلاَمُ الأَوَّلُ أَنْشَأْتُهُ يَا ثَاوُفِيلُسُ، عَنْ جَمِيعِ مَا ابْتَدَأَ يَسُوعُ يَفْعَلُهُ وَيُعَلِّمُ بِهِ.(أع 1: 1).
ظهر في الصلاة البعد الإنساني أو الجانب الإنساني للمسيح جليًا حيث كونه إنسان يصلي وفي نفس الوقت يدرك حجم الأزمة والمشكلة الكبرى المقبل عليها وهي بقاءه وحده في طريقه للصليب، حيث يقول: "هُوَذَا تَأْتِي سَاعَةٌ، وَقَدْ أَتَتِ الآنَ، تَتَفَرَّقُونَ فِيهَا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى خَاصَّتِهِ، وَتَتْرُكُونَنِي وَحْدِي. وَأَنَا لَسْتُ وَحْدِي لأَنَّ الآبَ مَعِي." (يو 16: 32).
صلى المسيح ليعلمنا أن الصلاة ركن أساسي في العبادة الفرديّة والجماعيّة وهي عبارة عن صلة محبة بالله فهي ليت فرض أو إلزام ولكنها تبنى على علاقة حب بين المعبود والعابد. الصلاة هي عمل الكنيسة التي لا تمل منه، هي ليست لغو كلام قال المسيح "وَحِينَمَا تُصَلُّونَ لاَ تُكَرِّرُوا الْكَلاَمَ بَاطِلًا كَالأُمَمِ، فَإِنَّهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُ بِكَثْرَةِ كَلاَمِهِمْ يُسْتَجَابُ لَهُمْ." (مت 6: 7). وواجه المظهرية والشكلانية في الصلاة: "وَمَتَى صَلَّيْتَ فَلاَ تَكُنْ كَالْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُحِبُّونَ أَنْ يُصَلُّوا قَائِمِينَ فِي الْمَجَامِعِ وَفِي زَوَايَا الشَّوَارِعِ، لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ!" (مت 6: 5).
والصلاة ليست تغييبًا عن الواقع بل إحساس كامل به، وهي تفكير ومسؤول، وهي تسير تفكيرًا وحياة معًا كما عبر عنها البعض بالقول: صلاة الحياة وحياة الصلاة. السؤال هل كان المسيح محتاجًا إلى أن يصلي؟ تكون الإجابة بنعم، لماذا؟ الإجابة لأن موقع الصلاة حسب يوحنا كما أشرنا من قبل بين خطاب وداعي (يو 16) وأولى مراحل تسليم المسيح (يو 18)، وبالتالي تأتي الصلاة في المنتصف، في وسط الظروف القاسية الصعبة المحزنة، وفي هذه الظروف القاسية يصلي المسيح لأجل نفسه. وهو يرفع نفسه أمام الله "إِلَيْكَ يَا رَبُّ أَرْفَعُ نَفْسِي." (مز 25: 1).
كما فعل في الصلاة الربانية يصلي هنا إلى "الآب" ليعطي صورة عن هذا الإله المحب أنه ليس ساكنًا في السماوات ليس العلي المتكبر لكنه الآب المحب، وفي صلاة المسيح يعطي تقريرًا لله عما فعله وما سيفعله وفق الترتيب الإلهي، يقول: قد أتت الساعة مجد ابنك: "قَدْ أَتَتِ السَّاعَةُ. مَجِّدِ ابْنَكَ لِيُمَجِّدَكَ ابْنُكَ أَيْضًا" (يو 17: 2). "وَالآنَ مَجِّدْنِي أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ عِنْدَ ذَاتِكَ بِالْمَجْدِ الَّذِي كَانَ لِي عِنْدَكَ قَبْلَ كَوْنِ الْعَالَمِ" (يو 17: 5).
يتحدث المسيح عن الحياة الأبدية: "إِذْ أَعْطَيْتَهُ سُلْطَانًا عَلَى كُلِّ جَسَدٍ لِيُعْطِيَ حَيَاةً أَبَدِيَّةً لِكُلِّ مَنْ أَعْطَيْتَهُ. وَهذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ." (يو 17: 2-3). مجدتك على الأرض: "أَنَا مَجَّدْتُكَ عَلَى الأَرْضِ." (يو 17: 4)، العمل الذي أعطيتني قد أكملته: "الْعَمَلَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي لأَعْمَلَ قَدْ أَكْمَلْتُهُ" (يو 17: 4). أنا أظهرت أسمك للناس: "أَنَا أَظْهَرْتُ اسْمَكَ لِلنَّاسِ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي مِنَ الْعَالَمِ." (يو 17: 6).
لب الحياة التي أتى من أجلها المسيح وحققها هي الحياة الأبدية ومصلح الحياة في الكتابات اليوحناوية-أي التي كتبها يوحنا-له أهميته وقد ورد كثيرًا أشير فقط هنا إلى ثلاثة مواضع: "لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ." (يو 3: 16). "وَآيَاتٍ أُخَرَ كَثِيرَةً صَنَعَ يَسُوعُ قُدَّامَ تَلاَمِيذِهِ لَمْ تُكْتَبْ فِي هذَا الْكِتَابِ. وَأَمَّا هذِهِ فَقَدْ كُتِبَتْ لِتُؤْمِنُوا أَنَّ يَسُوعَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ، وَلِكَيْ تَكُونَ لَكُمْ إِذَا آمَنْتُمْ حَيَاةٌ بِاسْمِهِ." (يو 20: 30-31)، ثم هذه الحياة من نبع الحياة "قَالَ لَهَا يَسُوعُ: أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ. مَنْ آمَنَ بِي وَلَوْ مَاتَ فَسَيَحْيَا." (يو 11: 25). وبالتالي المسيح أنار لنا الحياة والخلود: "وَإِنَّمَا أُظْهِرَتِ الآنَ بِظُهُورِ مُخَلِّصِنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي أَبْطَلَ الْمَوْتَ وَأَنَارَ الْحَيَاةَ وَالْخُلُودَ بِوَاسِطَةِ الإِنْجِيلِ." (2 تي 1: 10).
يُلِّخص المسيح صلاته في موضوع إرساليته ورسالته في العالم، والدور والمهمة التي أتى من أجلها، وقيمة المعنى والحياة التي يجب أن تعاش، وموقف الصليب والموت والقيامة من الحياة الأبدية، المسيح هو الأساس للحياة الأبدية.
في صلاته الفردية ركز على دوره وإرساليته في الحياة، ركَّز على العطاء وليس الأخذ، في الصلاة يختبر ألم الصليب وظلمة القبر لكن في نفس الوقت ينتظر بهجة وفرحة القيامة، ليقودنا في موكب نصرته في المسيح كل حين. "وَلكِنْ شُكْرًا للهِ الَّذِي يَقُودُنَا فِي مَوْكِبِ نُصْرَتِهِ فِي الْمَسِيحِ كُلَّ حِينٍ، وَيُظْهِرُ بِنَا رَائِحَةَ مَعْرِفَتِهِ فِي كُلِّ مَكَانٍ." (2 كو 2: 14).
ثانيًا: صلى المسيح من أجل تلاميذه (يو 17: 6-9)
من ضمن أهداف المسيح العظمى هو صناعة التلاميذ، الأمر الذي أهتم به، ودعا إليه، وعلَّم تلاميذه بالخبرة والمعايشة، وفي الوقت نفسه هو يعرف ضعفهم، تشتتهم، ذهابهم عنه وقت الصليب، ولكن بالرغم من كل هذه الصورة المأسوية وسط ألمه يصلي من أجل تلاميذه، التلاميذ موضوع انشغال المسيح حتى في وقت الظروف الصعبة، هو أتى من أجلهم ولهم، دعاهم وأهلهم، وطيلة الوقت لم يغيبوا عن باله أبدًا. وبالرغم من موقفهم وضعفهم وعجزهم لكن يضعهم في صورة طيبة: أعلن ملكيتهم لله وله: "كَانُوا لَكَ وَأَعْطَيْتَهُمْ لِي" (يو 17: 6). ويضع أربعة أفعال مهمة لهم:
1- حفظوا: وَقَدْ حَفِظُوا كَلاَمَكَ (يو 17: 6).
2- علموا: "وَالآنَ عَلِمُوا أَنَّ كُلَّ مَا أَعْطَيْتَنِي هُوَ مِنْ عِنْدِكَ. (يو 17: 7). وأيضًا: "وَهُمْ قَبِلُوا وَعَلِمُوا يَقِينًا أَنِّي خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِكَ." (يو 17: 8).
3- قبلوا: "وَهُمْ قَبِلُوا وَعَلِمُوا يَقِينًا أَنِّي خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِكَ." (يو 17: 8).
/54- آمنوا: وَآمَنُوا أَنَّكَ أَنْتَ أَرْسَلْتَنِي." (يو 17: 8).
ويسأل لهم أربعة أمور مهمة:
1- الحفظ والحماية: "احْفَظْهُمْ فِي اسْمِكَ الَّذِينَ أَعْطَيْتَنِي." (يو 17: 11). وأيضًا: "لَسْتُ أَسْأَلُ أَنْ تَأْخُذَهُمْ مِنَ الْعَالَمِ بَلْ أَنْ تَحْفَظَهُمْ مِنَ الشِّرِّيرِ. (يو 17: 15).
2- الوحدة والاتحاد: "لِيَكُونُوا وَاحِدًا كَمَا نَحْنُ" (يو 17: 11)
3- الفرح الكامل: "وَأَتَكَلَّمُ بِهذَا فِي الْعَالَمِ لِيَكُونَ لَهُمْ فَرَحِي كَامِلًا فِيهِمْ." (يو 17: 13).
4- التكريس والتقديس: "قَدِّسْهُمْ فِي حَقِّكَ. كَلاَمُكَ هُوَ حَقٌ. (يو 17: 17)، وأيضًا: "وَلأَجْلِهِمْ أُقَدِّسُ أَنَا ذَاتِي، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضًا مُقَدَّسِينَ فِي الْحَقِّ." (يو 17: 19).
الوحدة والحماية والفرح والقداسة أمور تختبرها الكنيسة في الحياة من خلال عمل المسيح من أجلهم، فقط أركز على موضوع الوحدة حسب قول المسيح ليكونوا واحدا، أول إشارة لكلمة واحد في الكتاب المقدس كانت عن علاقة الرجل بالمرأة في الزواج: "لِذلِكَ يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ وَيَكُونَانِ جَسَدًا وَاحِدًا." (تك 2: 24). ونفس كلمة واحد أتت مع صلاة الشماع اليهودية في سفر التثنية "اِسْمَعْ يَا إِسْرَائِيلُ: الرَّبُّ إِلهُنَا رَبٌّ وَاحِدٌ." (تث 6: 4). علاقة الرجل بالمرأة اثنان يخبران الجسد الواحد بالرغم من اختلافهما وتميزهما، هي علاقة الثالوث القدوس في الله الواحد المثلث الأقانيم، هي نفس العلاقة التي تختبرها الكنيسة في الوحدة كما المسيح والآب واحد، وحدة في تنوع وتنوع في وحدة، والوحدة هنا ليس وحدة مؤسساتية ولكنها وحدة المحبة والشركة والخدمة والقبول.
يؤكِّد المسيح في صلاته على أن التلاميذ لهم دور ومسؤولية: "كَمَا أَرْسَلْتَنِي إِلَى الْعَالَمِ أَرْسَلْتُهُمْ أَنَا إِلَى الْعَالَمِ. " (يو 17: 18)، ولذلك أكد على الحماية لهم بعد القيامة بقوله: "وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ. وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ. آمِينَ." (مت 28: 20). واختبروا الفرح: "وَلَمَّا قَالَ هذَا أَرَاهُمْ يَدَيْهِ وَجَنْبَهُ، فَفَرِحَ التَّلاَمِيذُ إِذْ رَأَوْا الرَّبَّ." (يو 20: 20). والفرح من ثمر الروح: "وَأَمَّا ثَمَرُ الرُّوحِ فَهُوَ: مَحَبَّةٌ، فَرَحٌ، سَلاَمٌ." (غل 5: 22). كما اختبر التلاميذ أيضًا الوحدة: "وَلَمَّا حَضَرَ يَوْمُ الْخَمْسِينَ كَانَ الْجَمِيعُ مَعًا بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ." (أع 2: 1).
نحفظ كلامه، ونؤمن به، ونقبله ونعلم من هو وما هي مكانته، ثم حسب صلاته نتمتع بالحماية والرعاية والوحدة معًا والاتحاد به، الفرح الكامل التقديس والتكريس، يعلمنا المسيح في صلاته أن ندرك دورنا ومسؤوليتنا في ضوء رسالته وإرساليته.
ثالثًا: صلى المسيح من أجل الكنيسة (يو 17: 20-26)
يصلي المسيح لأجل كنيسته: "وَلَسْتُ أَسْأَلُ مِنْ أَجْلِ هؤُلاَءِ فَقَطْ، بَلْ أَيْضًا مِنْ أَجْلِ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِي بِكَلاَمِهِمْ" (يو 17: 20). لماذا يصلي المسيح لأجل كنيسته أي المؤمنين به في كل أنحاء العالم؟ لأن الكنيسة هي جسد المسيح، هي امتداد للمسيح، وهي من أهم التعبيرات التي استخدمه الرسول بولس عن الكنيسة أنها جسد المسيح. ومن خلالها تستمر الخدمة وتتسع الرؤيا وينتشر الإنجيل: "لكِنَّكُمْ سَتَنَالُونَ قُوَّةً مَتَى حَلَّ الرُّوحُ الْقُدُسُ عَلَيْكُمْ، وَتَكُونُونَ لِي شُهُودًا فِي أُورُشَلِيمَ وَفِي كُلِّ الْيَهُودِيَّةِ وَالسَّامِرَةِ وَإِلَى أَقْصَى الأَرْضِ." (أع 1: 8).
ثلاثة أمور يصلي المسيح لأجل كنيسته، وهي:
الطلبة الأولى: الوحدة
ليست الوحدة هنا في الشكل أو العبادة ولكن وحدة الإيمان والشركة والمحبة: "ليَكُونَ الْجَمِيعُ وَاحِدًا، كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضًا وَاحِدًا فِينَا، لِيُؤْمِنَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي. وَأَنَا قَدْ أَعْطَيْتُهُمُ الْمَجْدَ الَّذِي أَعْطَيْتَنِي، لِيَكُونُوا وَاحِدًا كَمَا أَنَّنَا نَحْنُ وَاحِدٌ. أَنَا فِيهِمْ وَأَنْتَ فِيَّ لِيَكُونُوا مُكَمَّلِينَ إِلَى وَاحِدٍ." (يو 17: 21-23).
يعلم المسيح أن التمزق يضعف الكنيسة والانقسام يدمرها "فَعَلِمَ يَسُوعُ أَفْكَارَهُمْ، وَقَالَ لَهُمْ: «كُلُّ مَمْلَكَةٍ مُنْقَسِمَةٍ عَلَى ذَاتِهَا تُخْرَبُ، وَكُلُّ مَدِينَةٍ أَوْ بَيْتٍ مُنْقَسِمٍ عَلَى ذَاتِهِ لاَ يَثْبُتُ." (مت 12: 25). وخير نموذج على الانقسام هي كنيسة كورنثوس حين انقسمت إلى شيع لأَنِّي أُخْبِرْتُ عَنْكُمْ يَا إِخْوَتِي مِنْ أَهْلِ خُلُوِي أَنَّ بَيْنَكُمْ خُصُومَاتٍ. فَأَنَا أَعْنِي هذَا: أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ يَقُولُ: أَنَا لِبُولُسَ، وأَنَا لأَبُلُّوس، وَأَنَا لِصَفَا، وَأَنَا لِلْمَسِيحِ. هَلِ انْقَسَمَ الْمَسِيحُ؟ أَلَعَلَّ بُولُسَ صُلِبَ لأَجْلِكُمْ، أَمْ بِاسْمِ بُولُسَ اعْتَمَدْتُمْ؟ (1 كو 1: 11-13).
ويطلب الرسول من أجلهم كما طلب المسيح: وَلكِنَّنِي أَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ، بِاسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، أَنْ تَقُولُوا جَمِيعُكُمْ قَوْلًا وَاحِدًا، وَلاَ يَكُونَ بَيْنَكُمُ انْشِقَاقَاتٌ، بَلْ كُونُوا كَامِلِينَ فِي فِكْرٍ وَاحِدٍ وَرَأْيٍ وَاحِدٍ." (1 كو 1: 10). "هكَذَا نَحْنُ الْكَثِيرِينَ: جَسَدٌ وَاحِدٌ فِي الْمَسِيحِ، وَأَعْضَاءٌ بَعْضًا لِبَعْضٍ، كُلُّ وَاحِدٍ لِلآخَرِ." (رو 12: 5).
الوحدة وحدة ملوسة كارزة "لِيَكُونَ الْجَمِيعُ وَاحِدًا، كَمَا أَنَّكَ أَنْتَ أَيُّهَا الآبُ فِيَّ وَأَنَا فِيكَ، لِيَكُونُوا هُمْ أَيْضًا وَاحِدًا فِينَا، لِيُؤْمِنَ الْعَالَمُ أَنَّكَ أَرْسَلْتَنِي." (يو 17: 21) لا يمكن أن نكرز وجسد الكنيسة منقسم وممزق.
الطلبة الثانية: هي المحبة
تتحقق الوحدة بالمحبة، طالما وجد الحب وجدت الوحدة، يركز المسيح في صلاته للكنيسة على المحبة: "وَأَحْبَبْتَهُمْ كَمَا أَحْبَبْتَنِي". (يو 17: 23). "لأَنَّكَ أَحْبَبْتَنِي قَبْلَ إِنْشَاءِ الْعَالَمِ". (يو 17: 24). "وَعَرَّفْتُهُمُ اسْمَكَ وَسَأُعَرِّفُهُمْ، لِيَكُونَ فِيهِمُ الْحُبُّ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي بِهِ، وَأَكُونَ أَنَا فِيهِمْ." (يو 17: 25). "بِهذَا يَعْرِفُ الْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تَلاَمِيذِي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضًا لِبَعْضٍ." (يو 13: 35).
لخص المسيح الناموس كله في كلمة المحبة عندما سئل: "يَا مُعَلِّمُ، أَيَّةُ وَصِيَّةٍ هِيَ الْعُظْمَى فِي النَّامُوسِ؟" (مت 22: 36). أجاب: "فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «تُحِبُّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ، وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ، وَمِنْ كُلِّ فِكْرِكَ. هذِهِ هِيَ الْوَصِيَّةُ الأُولَى وَالْعُظْمَى. "وَالثَّانِيَةُ مِثْلُهَا: تُحِبُّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ." (مت 22: 37-39).
الطلبة الثالثة: المعرفة
بدأت صلاة المسيح وانتهت بالتركيز على المعرفة، لماذا؟ لأن الكتاب المقدس يعلم بأن في غياب معرفة الله تحدث الكوارث الكبرى مثل، الهلاك: "قَدْ هَلَكَ شَعْبِي مِنْ عَدَمِ الْمَعْرِفَةِ. لأَنَّكَ أَنْتَ رَفَضْتَ الْمَعْرِفَةَ أَرْفُضُكَ أَنَا حَتَّى لاَ تَكْهَنَ لِي. وَلأَنَّكَ نَسِيتَ شَرِيعَةَ إِلهِكَ أَنْسَى أَنَا أَيْضًا بَنِيكَ." (هو 4: 6). والسبي: "لِذلِكَ سُبِيَ شَعْبِي لِعَدَمِ الْمَعْرِفَةِ، وَتَصِيرُ شُرَفَاؤُهُ رِجَالَ جُوعٍ، وَعَامَّتُهُ يَابِسِينَ مِنَ الْعَطَشِ." (إش 5: 13).
لذلك صلى المسيح: "وَهذِهِ هِيَ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ: أَنْ يَعْرِفُوكَ أَنْتَ الإِلهَ الْحَقِيقِيَّ وَحْدَكَ وَيَسُوعَ الْمَسِيحَ الَّذِي أَرْسَلْتَهُ." (يو 17: 3). وصلى لأجل الكنيسة أَيُّهَا الآبُ الْبَارُّ، إِنَّ الْعَالَمَ لَمْ يَعْرِفْكَ، أَمَّا أَنَا فَعَرَفْتُكَ، وَهؤُلاَءِ عَرَفُوا أَنَّكَ أَنْتَ أَرْسَلْتَنِي. وَعَرَّفْتُهُمُ اسْمَكَ وَسَأُعَرِّفُهُمْ، لِيَكُونَ فِيهِمُ الْحُبُّ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي بِهِ، وَأَكُونَ أَنَا فِيهِمْ." (يو 17: 25-26).
خــاتــمــة:
هذه الصلاة في غناها وعمقها تعطي لنا نموذحًا طيبًا عن كيفية الصلاة، أنا نصلي من أجل نفوسنا والرسالة التي وضعها الرب علينا، وما أجمل أن نقف مع بولس قائلين: "قَدْ جَاهَدْتُ الْجِهَادَ الْحَسَنَ، أَكْمَلْتُ السَّعْيَ، حَفِظْتُ الإِيمَانَ، وَأَخِيرًا قَدْ وُضِعَ لِي إِكْلِيلُ الْبِرِّ، الَّذِي يَهَبُهُ لِي فِي ذلِكَ الْيَوْمِ، الرَّبُّ الدَّيَّانُ الْعَادِلُ، وَلَيْسَ لِي فَقَطْ، بَلْ لِجَمِيعِ الَّذِينَ يُحِبُّونَ ظُهُورَهُ أَيْضًا." (2 تي 4: 7-8).
ونصلي لأجل من نخدمهم وننشغل بهم، كما نصلي من أجل كنيسته: وحدة ومحبة ومعرفة.
نؤمن بكنيسة واحدة جامعة مقدسة رسولية.