هل وُلِدَ المسيح في الشّتاء؟
1/6/2025 12:00:00 AM
عيد الميلاد، إطلالة السّماء وأحد أهم الأعياد والمناسبات الدِّينيَّة المسيحيَّة التي يُحتفى بها شرقًا وغربًا، وفي العالم كافة، وعندما يكتب أو ينطق أحدهم لفظة عيد الميلاد، فإنَّ القارئ أو المستمع يفهم أنَّ المقصود بهذه العبارة، تذكار ميلاد يسوع المسيح، الذي بدأ من خلاله رحلة تجسده الإلهيّ، ليحقق المواعيد الكتابيِّة لخلاص وتحرير بنيّ البشر. وهذا يُفسِّر مشاهد الاحتفالات الممتلئة فرحًا وبهجةً التي تَعمّ أرجاء المسكونة كلها، منذ أنَّ بشَّر الملاك الرعاة قائلًا: «لاَ تَخَافُوا. فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ: أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ." (لوقا 2: 10-11)
يُقدِّم البشيران متى ولوقا، قصة ميلاد السيد المسيح، في مطلعِ بشارتيهما (متى 1: 18-2: 23؛ لوقا 2: 1-40)، لكنَّهما لم يُحدِّدا موعدًا دقيقًا لميلاد المسيح، ولم يُشر العهد الجديد كُلَّه إلى موعدِ ميلاد المسيح، حتى يظلُّ جوهر عيد الميلاد الاحتفاء بميلاد وتجسد الرَّبَّ يَسُوع المسيح. كما ظلَّ المسيحيون الأوائل عدة قرون لا يهتمون بالاحتفال بـ عيد الميلاد، قبل أن يُحدد مجمع نيقية 325م، يوم 25 ديسمبر/ 29 كيهك، للاحتفال بعيد ميلاد المسيح. وقد اُختير هذا اليوم نظرًا لأهميَّته الرّمزيَّة واللّاهوتيِّة، حيث يُصادِف الانقلاب الشتويّ الذي يبدأ فيه انحسار أطول ليل، لتزداد بعده ساعات النّهار، وهو ما ينعكس في ميلاد المسيح الذي قال عن نفسه: «أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ. مَنْ يَتْبَعْنِي فلاَ يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ، بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ.» (يوحنا 8: 12؛ راجع أيضًا يوحنا 9: 5؛ لوقا 1: 78-79). لذلك يبقى تاريخ عيد الميلاد يومًا ثابتًا، وإن تغيَّر موقعه خلال أيام الأسبوع، عكس عيد القيامة الذي يأتي دائمًا يوم الأحد الأول بعد عيد الفصح اليهودي، وإن تغيَّر موعده من سنةٍ إلى سنةٍ.
استمر الاحتفال بـ عيد الميلاد عشيِّة يوم 25 ديسمبر من كل عامٍ، وفقًا للتقويم اليوليانيّ، وحتى منتصف القرن السّادس عشر، وتحديدًا عام 1582م، حين اكتشف البابا غريغوريوس الثّالث عشر بابا روما، عدم دقة التقويم اليوليانيّ، والذي عليه لم يتطابق الانقلاب الشتوي ويوم الاحتفال بعيد ميلاد المسيح، ووفقًا لحسابات دقيقة عدَّل خطأ التقويم اليوليانيّ ليؤسس بدلًا منه التقويم الغريغوري أو الميلادي، وهو التقويم المعمول به في الكنائس المسيحيّة كلها، عدا الكنيسة الشرقيِّة/ الأرثوذكسيّة التي ما زالت تعتمد التقويم اليولياني، وهذا يُفسِّر سبب اختلاف تاريخ عيد الميلاد بين الغرب الذي يحتفل به في 25 ديسمبر، والشرق الذي يحتفل به في 7 يناير، وهذا الأمر لا يُزعجُنا البتَّة، لأنَّه ليس خلافًا كتابيًّا أو عقديًّا، بل خلافًا في حسابات التقويم الذي تتبعه كل كنيسة.
لكنَّ السؤال المُهمّ الذي يطرح نفسه، ما هو التوقيت/الفصل، الأقرب الذي وُلِدَ فيه المسيح؟ هل وُلِدَ في الشتاء أم في الخريف؟ وهل يُمكن أن يكون الصيف توقيتًا محتملًا لـ عيد الميلاد؟
مع التأكيد على عدم ذِكْر الكتاب المقدس موعدًا محددًا لتاريخ ميلاد المسيح، إلَّا أنَّ دراسة بعض الفصول الكتابيِّة والأحداث التاريخيِّة والجغرافيّة والبيئيِّة، يمكن أن تُساعِد في تحديد التوقيت الأفضل لـ تاريخ ميلاد المسيح، ولنذكر بعضًا من هذه الفصول الكتابيِّة، وما تقترحه الدراسات:
1. الاكتتاب: يُسجِّل البشير لوقا أنَّ قُبيل ولادة المسيح، صدر أمرًا امبراطوريًا باكتتاب/إحصاء كل المسكونة، فيقول: "وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ صَدَرَ أَمْرٌ مِنْ أُوغُسْطُسَ قَيْصَرَ بِأَنْ يُكْتَتَبَ كُلُّ الْمَسْكُونَةِ. وَهَذَا الاِكْتِتَابُ الأَوَّلُ جَرَى إِذْ كَانَ كِيرِينِيُوسُ وَالِيَ سُورِيَّةَ. فَذَهَبَ الْجَمِيعُ لِيُكْتَتَبُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَدِينَتِهِ. فَصَعِدَ يُوسُفُ أَيْضًا مِنَ الْجَلِيلِ مِنْ مَدِينَةِ النَّاصِرَةِ إِلَى الْيَهُودِيَّةِ إِلَى مَدِينَةِ دَاوُدَ الَّتِي تُدْعَى بَيْتَ لَحْمٍ لِكَوْنِهِ مِنْ بَيْتِ دَاوُدَ وَعَشِيرَتِهِ لِيُكْتَتَبَ مَعَ مَرْيَمَ امْرَأَتِهِ الْمَخْطُوبَةِ وَهِيَ حُبْلَى. وَبَيْنَمَا هُمَا هُنَاكَ تَمَّتْ أَيَّامُهَا لِتَلِدَ. فَوَلَدَتِ ابْنَهَا الْبِكْرَ وَقَمَّطَتْهُ وَأَضْجَعَتْهُ فِي الْمِذْوَدِ إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَوْضِعٌ فِي الْمَنْزِلِ." (لوقا 2: 1-7) وتذكر بعض الدراسات أنَّ التعدادات الرومانيِّة لم تكن تحدث في الشتاء، لانخفاض درجات الحرارة بشدة، وما يتبعها من سوء ظروف الطرق التي كانت ستجعل من المشاركة في التعدادات أمرًا صعبًا في ظلِ اكتتاب كل واحدٍ في مدينته، الأمر الذي يتطلب سفرًا وسط تضاريس اليهوديّة الصعبة، والشتاء القارص، وإذا أخذنا في الاعتبار طلبة المسيح وتوصيته لليهود أن يُصلِّوا حتى لا يكون هروبهم في وقت الشتاء. (متى 24: 20؛ مرقس 13: 18).
2. الرعاة: يذكر البشير لوقا، أنَّ ملاكًا جاء يُبشِّر رعاة يحرسون حراسات الليل على أغنامهم، فيقول: "وَكَانَ فِي تِلْكَ الْكُورَةِ رُعَاةٌ مُتَبَدِّينَ يَحْرُسُونَ حِرَاسَاتِ اللَّيْلِ عَلَى رَعِيَّتِهِمْ وَإِذَا مَلاَكُ الرَّبِّ وَقَفَ بِهِمْ وَمَجْدُ الرَّبِّ أَضَاءَ حَوْلَهُمْ فَخَافُوا خَوْفًا عَظِيمًا. فَقَالَ لَهُمُ الْمَلاَكُ: «لاَ تَخَافُوا. فَهَا أَنَا أُبَشِّرُكُمْ بِفَرَحٍ عَظِيمٍ يَكُونُ لِجَمِيعِ الشَّعْبِ: أَنَّهُ وُلِدَ لَكُمُ الْيَوْمَ فِي مَدِينَةِ دَاوُدَ مُخَلِّصٌ هُوَ الْمَسِيحُ الرَّبُّ. وَهَذِهِ لَكُمُ الْعَلاَمَةُ: تَجِدُونَ طِفْلًا مُقَمَّطًا مُضْجَعًا فِي مِذْوَدٍ.» (لوقا 2: 8-12) ووفقًا لبعض المصادر لم يكن الرعاة يتواجدون عادة في الحقول خلال شهر ديسمبر، حيث الظروف الجويِّة شديدة البرودة.
3. المذود: يُخبرنا لوقا أنَّ القديسة العذراء مريم بعدما ولدت ابنها البكر "قَمَّطَتْهُ وَأَضْجَعَتْهُ فِي الْمِذْوَدِ إِذْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا مَوْضِعٌ فِي الْمَنْزِلِ." (لوقا 2: 7) تُخبرنا هذه الآية أنَّه بعد أن وَلَدت مريم ابنها، وضعته في المذود، الذي كان يستخدم عادةً كمعلفٍ، يقع في إسطبل أو مربط للحيوانات. لقد فعلت هذا لأنَّه لم يعد هناك مكان في المنزل. ويعود عدم توفر مكان إلى تدفق الناس إلى بيت لحم للتسجيل في التعداد، وإذا حدث ذلك في ديسمبر، حيث برودة الجو لا يمكن إبقاء طفلٌ حديث الولادة في مذودٍ.
4. حَلَّ بَيْنَنَا: تربط بعض الدراسات بين موعد ميلاد المسيح بما كتبه البشير يُوُحنَّا، في صدر بشارته، قائلًا: "الْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا." (يوحنا 1: 14) وما سجَّله البشير متى حين كتب «هُوَذَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا وَيَدْعُونَ اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ» (الَّذِي تَفْسِيرُهُ: اَللَّهُ مَعَنَا)." (متى 1: 23) بعيد المظال الذي يَحُلّ في شهر سبتمبر/تشري، وفيه يتذكر اليهود حلول الله وسكنَّاه/خيَّمَ وسطهم، وهو المعنى الكامن في استخدام البشير يُوُحَنَّا لكلمة "حَلَّ/خَيَّمَ"، وفيما سجَّله البشير متى بالقول: ".. وَيَدْعُونَ اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ» (الَّذِي تَفْسِيرُهُ: اَللَّهُ مَعَنَا)".
5. عيد الأبواق: تتجه بعض الدراسات إلى أنَّ التاريخ المُرجح لولادة يسوع، هو عيد الأبواق، الذي يأتي يوم رأس السنة المدنيِّة/روش هاشناه، وهو اليوم الأول من شهر تشري/سبتمبر، لما لذلك اليوم من رمزيّة عند اليهود، ليس لأنَّهم كانوا يعتقدون أنَّه اليوم الذي خُلِق فيه العالم، بل اليوم الذي أُعيد فيه تجديد العالم، كما كانوا يؤمنون أنَّه هو اليوم نفسه الذي كشف نوح فيه الغطاء عن الفلك، بداية الخليقة الجديدة بعد الطوفان، وهو يوم تتويج الملوك (1ملوك 1: 34؛ 2ملوك 9: 13؛ 11: 11)، كما أنَّ البوق الأخير بحسب الرسول بولس هو يوم المجيء الثاني للمسيح وتتويجه ملكًا (1كورنثوس 15: 52؛ 1تسالونيكي 4: 16)، حيث انتصار الله كملك على كل قوى الشر، وتأكيد استمرار سيادته وتتويجه ملكًا على كل الخليقة.
6. موعد ولادة يوحنا المعمدان: تقوم هذه الدراسة على الربط بين ولادة يوحنا المعمدان السابقة لولادة يسوع بستة أشهر (راجع: لوقا 1: 26)، وبدراسة موعد بشارة الملاك لزكريا الكاهن والد المعمدان، حيث كان يأخذ دوره للخدمة في الهيكل بحسب دورة الخدمة الكهنوتيِّة، وبما أنَّه من فرقة أبيِّا، وبدراسة المعلومات والحسابات كافة، المتعلقة بالدورة الكهنوتيِّة، فإن الموعد المُفترض لولادة المعمدان هو نيسان/مارس، وبما أنَّ يسوع وُلِدَ بعده بنحو ستة أشهر، سيكون الموعد المقترح لولادة يسوع هو شهر تشري/سبتمبر.
7. صلب المسيح: يرى الدارسون أنَّ أبسط طريقة لمعرفة تاريخ ولادة يسوع، هي العودة إلى الوراء مدة خدمته، ابتداءً من تاريخ صلبه وموته، وحيث صُلِبَ المسيح ومات في عيد الفصح الذي يأتي في شهر نيسان، وبالعودة إلى الوراء ستة أشهر، يتأكد لنا أن يسوع وُلِدَ في شهر تشري/سبتمبر.
يُمكننا أن نستخلص من هذه الدراسات، أنَّ التاريخ الأكثر معقوليِّة لزمن ولادة يسوع، لم يكن الشتاء (ديسمبر أو يناير)، إنَّما التاريخ الأقرب للأحداث والنصوص الكتابيِّة هو شهور الخريف، وتحديدًا شهر تشري/سبتمبر. وإن كان لا يستطيع أحدًا تحديد في أي شهرٍ، أو يومٍ وُلِدَ يسوع، يأخذنا إلى الاحتفال بالمعنى الحقيقي للميلاد، وهو ما تُعبِّر عنه الكلمة الإنجليزيِّة Christmas، وهي في الواقع مزيج من كلمتين، الأولى Christ وتعني المسيح، أمَّا الثانيّة mas فتعني خدمة الإفخارستيا، ليُصبح معنى الكلمة المسيح وخدمة الإفخارستيا بما لها من دلالات. وعلى حد ما قال ريك وارين "إنَّما يُوحِد الكنيسة على المستوى المحلي، والعالمي." لقد غيَّر ميلاد المسيح التاريخ، كما غيَّر حياة كثيرين، لذا ستظل الرسالة الأساسيِّة لـ عيد ميلاد المسيح، تحقيق الله لوعوده بإرسال مُخلِّص العالم، لقد جاء يسوع إلى عالمنا، وعاش بيننا، إلهًا كاملًا وإنسانًا كاملًا، وبذل حياته لأجلنا ليُخلصُنا، وليمنح كُلَّ مَن يؤمن به الحياة الأبديّة، وهذا سببٌ كافٍ لنحتفل ونفرح بميلاد المسيح، ليس مرة واحدة في العام، بل كلَّ يومٍ.