لماذا تجسد الله؟
3/3/2025 12:00:00 AM
«فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ وَالْكَلِمَةُ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَكَانَ الْكَلِمَةُ اللَّهَ. هَذَا كَانَ فِي الْبَدْءِ عِنْدَ اللَّهِ. كُلُّ شَيْءٍ بِهِ كَانَ وَبِغَيْرِهِ لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِمَّا كَانَ. وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقّاً.» (يوحنا 1: 1-3، 14).
ونحن نحتفل بعيد الميلاد، أو التجسد الإلهي، يتساءل الكثيرون منا، والأكثرية من حولنا، هل يمكن أن الله يتجسد ويُصبح بشرًا مثلنا؟ وإن كان باستطاعته فلماذا له أن يتجسد، ويأخذ جسد إنسانٍ، يجوع ويعطش، ينام ويصحو، يمرض ويموت؟
أصلي أن يُعطنا الرب في هذه التأملات بعض الإجابات على هذه التساؤلات.
أولًا: هل يمكن لله أن يتخذ جسدًا بشريًا، ويُصبح إنسانًا مثلنا؟
قبل أن نُجيب على هذا السؤال، علينا أن نسأل أنفسنا، «هَلْ يَسْتَحِيلُ عَلَى الرَّبِّ شَيْءٌ؟» (تكوين 18: 14)، وقد أكدَّ أيوب هذه الحقيقة في نهاية اختباره الروحي قائلًا: «قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكَ تَسْتَطِيعُ كُلَّ شَيْءٍ وَلاَ يَعْسُرُ عَلَيْكَ أَمْرًا» (أيوب 42: 2).
سؤال أخر، هل يمكن للإنسان أن يُصبح إلهًا؟ الإجابة لا تحتاج لأي دليل، فالإنسان لا يستطيع إلا أن يكون إنسانًا، أو أقل ..!
الفرق هنا بين الله والإنسان، أنَّ الله كُلّي القدرة، كُلّي الحكمة، كُلي العِلم، إن الله قادر على كل شيء فهل يعسر عليه أن يتجسد؟، وفي قدرته رأى أنه يجوز له أن يتجسد، فأخذ جسدًا وصار واحدًا منا، يقول الكتاب «وَالْكَلِمَةُ صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ مَجْداً كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ مَمْلُوءاً نِعْمَةً وَحَقّاً» (يوحنا 1: 14)، ويكتب الرسول بولس: «إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللهِ، لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً لِلَّهِ. لَكِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ، آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ، صَائِراً فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الْهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ، وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى الْمَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ» (فيلبي 2: 6-8).
لقد رأى الله في حكمته ومشورته الأزليّة أن يتجسد لفداء الإنسان، فجاء إنسانًا، وحلَّ بيننا، ورأينا مجده مجدًا، لم نقل أنَّ الله تجسد ليعرف كيف يفكر الإنسان، أو كيف يشعر في الفرح أو الألم، أو حتى ليتألم ويجتاز التجارب، لأنَّ كل هذا هو يعلمه تمامًا، «لأَنَّهُ يَعْرِفُ جِبْلَتَنَا. يَذْكُرُ أَنَّنَا تُرَابٌ نَحْنُ (مزمور 103: 14).
إنَّ الحقيقة الأكيدة هي أنَّ الله يمكنه وفي قدرته أن يتجسد، فتجسد، ولقد اختار الوقت المناسب كما يقول الكتاب «لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُوداً مِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُوداً تَحْتَ النَّامُوسِ، لِيَفْتَدِيَ الَّذِينَ تَحْتَ النَّامُوسِ، لِنَنَالَ التَّبَنِّيَ» (غلاطية 4: 4).
نصدق ولا نستغرب قصص بعض الملوك والقادة العظماء عندما يتحركون بين أبناء شعبهم للعمل على راحة الشعب، ونتغنى بتنكرهم ونزلوهم إلى شعوبهم ليسمعوا لهم، فلماذا ننكر ذلك على الله؟
إن كان الله قد أعلن في كلمته المقدسة أنه تجسّدَ فما علينا إلاّ أن نصدقه.
ولا نعني بالتجسد أنَّ الله تحول إلى إنسان أو أن يسوع لم يعد إلهًا بينما كان إنسانًا. التجسد يعني أنه مع بقاء الله، إلهًا، أخذ يسوع طبيعة جديدة - طبيعة إنسانية. لقد كان التجسد هو توحيد الإلهي والإنسان في كائن واحد، شخص واحد. كان يسوع المسيح إلهًا كاملاً وإنسانًا كاملًا.
أمَّا عن السؤال لماذا تجسد الله؟ هذه بعض الإجابات
أولًا: تجسد المسيح ليُظهر الله للبشر
كان شوق الإنسان أن يرى الله، وكانت هذه هي طلبة موسى، «أَرِنِي مَجْدَكَ». وكان جواب الرب عليه: «لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَرَى وَجْهِي لأَنَّ الْإِنْسَانَ لاَ يَرَانِي وَيَعِيشُ» (خروج 33: 18، 20). وحتى فيلبس، سأل المسيح «يَا سَيِّدُ أَرِنَا الآبَ وَكَفَانَا».
ومع أن إجابة الوحي قاطعة في هذا الأمر: «اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ» (يوحنا 1: 18)؛ إلا أنَّ تجسد المسيح كان إعطاء مزيدًا من الوحي عن الله للبشرية. يقول كاتب العبرانيين: «اَللهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ الآبَاءَ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيماً، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ» (عبرانيين 2: 1-2)، ويسجل البشير يوحنا أنَّ «اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلاِبْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ.» (يوحنا 1: 18).
تعلم هذه الآية أن يسوع أوضح الله للإنسانية. لم نعد بحاجة إلى أن نتساءل ما هو شكل الله؛ يسوع يظهر لنا.
لقد كانت إجابة يسوع على فيلبس «أَنَا مَعَكُمْ زَمَاناً هَذِهِ مُدَّتُهُ وَلَمْ تَعْرِفْنِي يَا فِيلُبُّسُ! اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ فَكَيْفَ تَقُولُ أَنْتَ أَرِنَا الآبَ؟» (يوحنا 14: 9).
لقد أكَّد المسيح بأقواله وأعماله أنَّه هو الله الظاهر في الجسد، «فَمِنْ أَجْلِ هَذَا كَانَ الْيَهُودُ يَطْلُبُونَ أَكْثَرَ أَنْ يَقْتُلُوهُ لأَنَّهُ لَمْ يَنْقُضِ السَّبْتَ فَقَطْ بَلْ قَالَ أَيْضاً إِنَّ اللَّهَ أَبُوهُ مُعَادِلاً نَفْسَهُ بِاللَّهِ» (يوحنا 5: 18).
ثانيًا: تجسد المسيح ليصحح صورة الله عند الإنسان
قبل التجسد كان الفكر المتداول عن الله والصورة التي في ذهن البشر فقط تتحدث عن الله المنتقم من أعدائه، الله الدموي الذي يقتل الأطفال والحيوان والطيور، عن إله جبار سبب كوارث الطبيعة، إله الحرب، لقد كان البشر عند مجرد ذكر الله يرتعدون خوفًا ورهبه، من هنا أراد الله أن يوضح صورته الحقيقية وليست الصورة التي تصورها الإنسان عنه، أو الصورة التي يصدرها بعض البشر عنه بادعاء أنهم أقرب من الأخرين لله، ولذلك هم وحدهم مَن لهم الحق أن يتحدثوا عنه. وبالطبع لكي يُصحح الله تلك الصورة، كان لابد أن يأتي بطريقه مختلفة عن طريقه وجود الإنسان المولود من رجل وامرأة، إن صورة الله المحب لم تكن واضحة قبل ولادة الطفل يسوع من عذراء، إنها صورة لا يتصورها أو يتخيلها أحد عن الله، وهكذا أكَّد التجسد أنَّ «اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا (رومية 5: 8).
ثالثًا: تجسد الله لكي يُعلن قيمة الإنسان وأهميته في الخليقة.
أن يأتي الله كإنسانٍ فهو بهذا يُعلن عظمة الإنسان، فالإنسان هو الهدف من الوحي، والوحي، هو كلام الله الموجه للإنسان، الله يتحاور مع الإنسان من خلال الوحي المقدس، وهذا يعني أن الإنسان له وضع خاص ومركزي في هذا الكون، وليس ذلك فقط بل إن الإنسان هو الهدف من عملية الخلاص والفداء، لذلك نرى أنَّ الكتاب المقدس كُتِب بلغة الإنسان ولأجل الإنسان، لقد أراد الله أن يتواصل مع الإنسان بلغته.
وقد حدَّد السيد المسيح مركزية الوصية قال: «السَّبْتُ إِنَّمَا جُعِلَ لأَجْلِ الإِنْسَانِ لاَ الإِنْسَانُ لأَجْلِ السَّبْتِ» (مرقس 2: 27). أي أن الوصية جُعلت لأجل الإنسان وليس العكس، لذلك الإنسان الذي يعذب ذاته ونفسه وجسده لأجل الله، وعندما يحتقر جسده وينعته بنعوت سيئة مثل ترديده القول أنا لا شيء وأنا نظير الحيوان وأنا بلا قيمة ويعتقد أن هذا تعبيرًا عن التواضع فهذا التوجه ليس مسيحيًا. وتجسد الله كإنسانٍ ينفى كل هذه الأدبيات السلبية عن الإنسان.
رابعًا: تجسد الله في إنسان لِيُصالح الإنسان بالله
يشهد التاريخ على أنَّ الإنسان عرِفَ خطيته ومذنوبيته، ولقد حاول الإنسان أن يسترضي الله من خلال تقديم الهبات والعطايا والأموال، أو من خلال إقامة الشعائر والطقوس الدينية المختلفة، فصلى وصام، كما جرَّب الإنسان التوبة، لكنه اكتشف أن بداخله ميلاً شديداً نحو فعل الخطية ثانية وثالثة، وأخيرًا صرخ طالبًا المُصالحة مع الله، اسمع ما قاله أيوب: «لَيْسَ بَيْنَنَا مُصَالِحٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى كِلَيْنَا!» (أيوب 9: 33)، لكن عندما تجسد الله، يقول الكتاب المقدس: «الْكُلَّ مِنَ اللهِ، الَّذِي صَالَحَنَا لِنَفْسِهِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ، وَأَعْطَانَا خِدْمَةَ الْمُصَالَحَةِ، أَيْ إِنَّ اللهَ كَانَ فِي الْمَسِيحِ مُصَالِحاً الْعَالَمَ لِنَفْسِهِ، غَيْرَ حَاسِبٍ لَهُمْ خَطَايَاهُمْ، وَوَاضِعاً فِينَا كَلِمَةَ الْمُصَالَحَةِ» (2كورنثوس 5: 18-19)، ويقول في أفسس «الآنَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، أَنْتُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلاً بَعِيدِينَ صِرْتُمْ قَرِيبِينَ بِدَمِ الْمَسِيحِ. لأَنَّهُ هُوَ سَلاَمُنَا، الَّذِي جَعَلَ الِاثْنَيْنِ وَاحِداً، وَنَقَضَ حَائِطَ السِّيَاجِ الْمُتَوَسِّطَ أَيِ الْعَدَاوَةَ. مُبْطِلاً بِجَسَدِهِ نَامُوسَ الْوَصَايَا فِي فَرَائِضَ، لِكَيْ يَخْلُقَ الِاثْنَيْنِ فِي نَفْسِهِ إِنْسَاناً وَاحِداً جَدِيداً، صَانِعاً سَلاَماً، وَيُصَالِحَ الِاثْنَيْنِ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ مَعَ اللهِ بِالصَّلِيبِ، قَاتِلاً الْعَدَاوَةَ بِهِ» (أفسس 3: 13-16).
خامسًا: تجسد الله ليُطلق الإنسان حرًا، مبدعًا خلاقًا.
لقد صار الله إنسانًا، ليصير الإنسان إلهًا، فالقدرات الابداعية عند الإنسان عندما يبني ويرسم ويعزف موسيقى ويؤلف ويصدح بصوته ويحقق ذاته، بل إن مجرد المقارنة بين الإنسان مثلًا منذ خمسمائة عام أو حتى مائتي أو مائة عام فقط بإنسان اليوم سوف يدهش من القدرات الإنسانية الحالية، فقد خلق بني الإنسان حضارة متطورة عظيمة من طائرات وسيارات ووصول للقمر والكواكب وشفاء أمراض عضال... الخ.
لقد تجسد الله لأنَّه أحبنا، وأراد ليُصالحنا لنفسه، وليمنحنا فداء أبديًا، ولكي نحيا في سلام وطمأنينة من جهة حياتنا ومستقبل أيامنا، ولنبدع ونتمتع بالحياة التي قال عنها المسيح «أَتَيْتُ لِتَكُونَ لَهُمْ حَيَاةٌ وَلِيَكُونَ لَهُمْ أَفْضَلُ» (يوحنا 10: 10).
خـتـامًـا:
ما هو موقفك من التجسد الإلهي؟ ما هو موقفك من الكلمة المتجسد؟ هل تصالحت معه؟ واختبرت الحياة الجديدة؟
هل قبلته ومنحته قلبك مكانًا ليتجسد، ويحل فيه، ويملأه ويباركه؟
هل تعلمت كيف تتجسد لمن هم حولك؟ فتشفق وتتحن عليهم؟
ونحن ككنيسة نحتاج لرسالة التجسد لنكون نورًا لمجتمعنا، نؤكد على محبة الله الفائقة للجميع.