عيسو البكر صاحب المكانة الضائعة
3/3/2025 12:00:00 AM
شخصية عيسو حسب ما وردت في (تك 25: 19-34؛ عب 12: 16-17) تثير تساؤلات كثيرة ويمكننا أن تناول هذه الشخصية تحت عنوان "البكر صاحب المكانة أو الميراث الضائع" فهو لم يحافظ على مكانته، فزنى واستباح كل شيء حسب ما ورد في الرسالة إلى العبرانيين: "لِئَلاَّ يَكُونَ أَحَدٌ زَانِيًا أَوْ مُسْتَبِيحًا كَعِيسُو، الَّذِي لأَجْلِ أَكْلَةٍ وَاحِدَةٍ بَاعَ بَكُورِيَّتَهُ" (عب 12: 16).
نلاحظ أنه في عبرانيين 11 كان هناك سجل إيمان رائع، وفي عبرانيين 12 هذه القائمة هي سحابة من الشهود، وعند ذكر عيسو بعد كل هذا ذكره كزان ومستبيح، وهو يحرض على حياة القداسة فحذر من الفساد الأخلاقي والاستهتار بالأمور الهامة في الحياة.
عيسو بن اسحق ورفقة، ظل إسحق بلا أبناء لمدة 20 عامًا، فهو تزوج في سن الأربعين (تك 25: 20) وأنجب عيسو ويعقوب في سن الستين (تك 25: 26). عشرون عامًا الأسرة تنتظر الأطفال، ولكنها كانت غير مهيأة لاستقبال الأطفال، فقد عانت هذه الأسرة بما يسمى الحب الناقص، وهو الحب لغرض؛ فأحب إسحق عيسو لأنَّ في فمه صيد، وأحبت رفقة يعقوب لأنه يسكن الخيام. "فَأَحَبَّ إِسْحَاقُ عِيسُوَ لأَنَّ فِي فَمِهِ صَيْدًا، وَأَمَّا رِفْقَةُ فَكَانَتْ تُحِبُّ يَعْقُوبَ." (تك 25: 28). وهذا يدل على أزمة تربويّة داخل الأسرة. وهي مشكلة كل بيت يقع في نفس الموقف إذ ربطت بين الطفل والفعل، ونحن نحب أولادنا بغض النظر عن تصرفاتهم، فلا يرتبط الحب بالشيء، محبة الأولاد لأنهم أولاد وليس لأنَّهم مميزين في شيء.
كبر الغلامان واختلفا في التوجهات، ولمعت أمام الابنان فكرة البكوريّة ومن هو صاحب الحق فيها ويعبر عن ذلك في تكوين 27 حيث دبرت رفقة خداع إسحق عن طريق يعقوب لينال البركة. لكن السؤال: ماهي البكوريّة؟ البكوريّة هي مسؤولية اجتماعيّة وسياسيّة واقتصاديّة ودينيّة، فمن الناحية الاجتماعية تنظيم ودعم العلاقات مع الجيران، والاقتصادية فيعول الأسرة، والسياسية يدافع عنها، والدينية يقود الأسرة تجاه الله.
البكورية لم تكن شيئًا ماديًا يباع أو يشترى ولكنها مكانة معنوية تضع الإنسان تحت المسؤولية. كل هذه القيم المعنوية في البكوريّة كانت بلا معنى عند عيسو فتنازل عنها مقابل أكلة من يعقوب. وما زال عيسو هو أب لكل من يتنازل عن مكانته مقابل أشياء تافهة لا قيمة لها. يمكن وضع مجموعة من المبادئ الهامة من خلال شخصية عيسو لكي نتعلم منها، وهي:
1- باع الغالي بالرخيص،
2- قصير النظر،
3- اهتماماته وأولوياته غير واضحة،
4- استحالة تغيير ما فات،
5- نعمة الله تعمل مع الصغير والضعيف.
أولاً: باع الغالي بالرخيص
باع عيسو البكورية بأكلة، وأراد أن يشتري البركة بصيد، الذي يتنازل بسهولة عن الغالي بالرخيص هو شخص غير متزن يعاني من خلل في التفكير، ولا يحسب الأمور جيدًا. عيسو مثل شخصيات كثيرة في الكتاب باعت الغالي بالرخيص، فحواء وأدم أكلا من الشجرة في مقابل انقطاع العلاقة مع الله "فَرَأَتِ الْمَرْأَةُ أَنَّ الشَّجَرَةَ جَيِّدَةٌ لِلأَكْلِ، وَأَنَّهَا بَهِجَةٌ لِلْعُيُونِ، وَأَنَّ الشَّجَرَةَ شَهِيَّةٌ لِلنَّظَرِ. فَأَخَذَتْ مِنْ ثَمَرِهَا وَأَكَلَتْ، وَأَعْطَتْ رَجُلَهَا أَيْضًا مَعَهَا فَأَكَلَ." (تك 3: 6). من أجل أكلة خسرت حواء وأدم العشرة مع الله.
وفي يشوع 7 يخبرنا الوحي عن عخان بن كرمي "وَخَانَ بَنُو إِسْرَائِيلَ خِيَانَةً فِي الْحَرَامِ، فَأَخَذَ عَخَانُ بْنُ كَرْمِي بْنِ زَبْدِي بْنِ زَارَحَ مِنْ سِبْطِ يَهُوذَا مِنَ الْحَرَامِ، فَحَمِيَ غَضَبُ الرَّبِّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ." (يش 7: 1)، والأشياء التي سرقها هي فَأَجَابَ عَخَانُ يَشُوعَ وَقَالَ: حَقًّا إِنِّي قَدْ أَخْطَأْتُ إِلَى الرَّبِّ إِلهِ إِسْرَائِيلَ وَصَنَعْتُ كَذَا وَكَذَا. رَأَيْتُ فِي الْغَنِيمَةِ رِدَاءً شِنْعَارِيًّا نَفِيسًا، وَمِئَتَيْ شَاقِلِ فِضَّةٍ، وَلِسَانَ ذَهَبٍ وَزْنُهُ خَمْسُونَ شَاقِلًا، فَاشْتَهَيْتُهَا وَأَخَذْتُهَا. وَهَا هِيَ مَطْمُورَةٌ فِي الأَرْضِ فِي وَسَطِ خَيْمَتِي، وَالْفِضَّةُ تَحْتَهَا. (يش 7: 20-21). كان عخان سببًا في انكسار الشعب، وخسر الكثير هو وبيته.
يهوذا باع المسيح بثلاثين من الفضة، وحنانيا وسفيرة من أجل اكتناز بعض الأموال خسرا حياتهما، كل هذه النماذج تقف صفًا واحدًا مع عيسو ويقف معهم أيضًا كل من يبيع الغالي بالرخيص. فكم من مرة فرطنا في القيم الإيمانية مقابل أكلة شيء يستهلك، الذي باع بسهولة يشتري بصعوبة، قال الشاعر العربي: لي كبد عليل من يبيعني ومن يشتري ذا علة بصحيح.
ثانيًا: قصر النظر
كان عيسو ينظر تحت قدميه فَقَالَ عِيسُو: هَا أَنَا مَاضٍ إِلَى الْمَوْتِ، فَلِمَاذَا لِي بَكُورِيَّةٌ؟ (تك 25: 32). فباع بكوريته ليعقوب واحتقر عيسو البكورية، "فَأَعْطَى يَعْقُوبُ عِيسُوَ خُبْزًا وَطَبِيخَ عَدَسٍ، فَأَكَلَ وَشَرِبَ وَقَامَ وَمَضَى. فَاحْتَقَرَ عِيسُو الْبَكُورِيَّةَ." (تك 25: 42).
لم يكن عيسو بعد نظر إذ مقابل أكلة ولذة حسية وقتية تنازل عن حق له. وبالمثل كم نتنازل عن حقوقنا ومكانتنا مقابل لذة وقتية حسية. قصر النظر قاده وهو شاب في مقتبل العمل أن يشعر باليأس، فاليأس حفرة كبيرة تدفن فيها كل الآمال والطموح.
ما أصعب الشعور حين يمتلك الشخص: "هَا أَنَا مَاضٍ إِلَى الْمَوْتِ"، في مقابل اليأس هناك رجاء وأمل في الحياة في شخص المسيح: "الَّذِينَ أَرَادَ اللهُ أَنْ يُعَرِّفَهُمْ مَا هُوَ غِنَى مَجْدِ هذَا السِّرِّ فِي الأُمَمِ، الَّذِي هُوَ الْمَسِيحُ فِيكُمْ رَجَاءُ الْمَجْدِ." (كو 1: 27).
ثالثًا: اهتماماته وأولوياته غير واضحة
تنازل عيسو عن البكورية نتيجة الاختيار بين البكورية وبين المؤثرات نتيجة الشهوة والملموس والمتعة الوقتية من خلال شخصية عيسو نجد أنه اتخذ زوجتان من بني حث: "وَلَمَّا كَانَ عِيسُو ابْنَ أَرْبَعِينَ سَنَةً اتَّخَذَ زَوْجَةً: يَهُودِيتَ ابْنَةَ بِيرِي الْحِثِّيِّ، وَبَسْمَةَ ابْنَةَ إِيلُونَ الْحِثِّيِّ. فَكَانَتَا مَرَارَةَ نَفْسٍ لإِسْحَاقَ وَرِفْقَةَ." (تك 26: 34-35).
في تكوين 25 يصور عيسو وهو يتنازل بسهولة عن البكورية وفي تكوين 27 نجد عيسو: "فَعِنْدَمَا سَمِعَ عِيسُو كَلاَمَ أَبِيهِ صَرَخَ صَرْخَةً عَظِيمَةً وَمُرَّةً جِدًّا، وَقَالَ لأَبِيهِ: بَارِكْنِي أَنَا أَيْضًا يَا أَبِي." (تكوين 27: 43).
الاختيارات غير الواضحة تقود إلى اللاشئ، بين تنازل في تكوين 25 وتمسك في تكوين 27 نكون أمام شخصية متذبذبة تحكمها اللذة الوقتية فقط. فلنتعلم أن تكون اختياراتنا واضحة ومحددة.
رابعًا: استحالة تغيير ما فات
لم يتعلم عيسو من خبراته، بل أصبح نموذجًا سلبيًا في زناه واستهتاره أو استباحته، ولأجل أكلة عدس واحدة باع باكوريته. الأية حسب ترجمة فانديك مع أنه طلبها بدموع ليست عائدة على التوبة ولكن عائدة على البركة وذلك حسب ما ورد في تكوين 27. جاءت في ترجمة الحياة: "انْتَبِهُوا أَلاَّ يَسْقُطَ أَحَدُكُمْ مِنْ نعمة اللهِ، حَتَّى لاَ يَتَأَصَّلَ بَيْنَكُمْ جَذْرُ مَرَارَةٍ، فَيُسَبِّبَ بَلْبَلَةً، وَيُنَجِّسَ كَثِيرِينَ مِنْكُمْ. وَحَذَارِ أن يَكُونَ بَيْنَكُمْ زَانٍ أَوْ مُسْتَهْتِرٌ مِثْلُ عِيسُو الَّذِي بَاعَ حُقُوقَهُ بِوَصْفِهِ الابْنَ الْبِكْرَ، لِقَاءَ أَكْلَةٍ وَاحِدَةٍ. فَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ جَيِّداً أَنَّهُ لَمَّا أَرَادَ اسْتِعَادَةَ الْبَرَكَةِ مِنْ أَبِيهِ، بَعْدَمَا كَانَ قَدِ اسْتَخَفَّ بِهَا، رُفِضَ لأَنَّهُ لَمْ يَجِدْ مَجَالاً لِلتَّوْبَةِ، مَعَ أَنَّهُ طَلَبَ الْبَرَكَةَ وَهُوَ يَذْرِفُ الدُّمُوعَ." عب 12: 15-17).
لم يستطع عيسو تغيير الماضي من ناحية البركة أو البكورية ولم يجد تغيير الموقف مكانًا، أراد عيسو أن يغير الماضي ولكنه كان يمكن أن يغير الحاضر والمستقبل، وإمكانية التغيير متاحة من خلال عمل الروح القدس ونعمة الله في القلب. قد لا يمكن تغيير ما فات ولكننا مسؤولين عما هو حاضر وما هو في المستقبل، وتكون الدعوة لنا فلنتغير إلى تلك الصورة عينها.
خامسًا: نعمة الله تعمل مع الصغير والضعيف
في الوقت الذي مجدت فيها الحضارات البكر وأعطته مكانة قوية في العائلة والمجتمع. نجد أن الله لا يسير حسب توقعات البشر ولكنه على مدار الكتاب المقدس نجد أن الله يعمل مع الصغير ومن خلاله ومن خلال الامكانيات الضعيفة والصغيرة أيضًا.
فيعمل الله من خلال شيث، ثم من خلال اسحق، ويعقوب، ثم من خلال داود، ثم من خلال سليمان، وفي العهد الجديد يعمل من خلال الجهال والضعفاء: "بَلِ اخْتَارَ اللهُ جُهَّالَ الْعَالَمِ لِيُخْزِيَ الْحُكَمَاءَ. وَاخْتَارَ اللهُ ضُعَفَاءَ الْعَالَمِ لِيُخْزِيَ الأَقْوِيَاءَ. وَاخْتَارَ اللهُ أَدْنِيَاءَ الْعَالَمِ وَالْمُزْدَرَى وَغَيْرَ الْمَوْجُودِ لِيُبْطِلَ الْمَوْجُودَ" (1 كو 1: 27-38). وذلك كله ليكون المجد لله وحدة والقوة من عنده هو وحده "وَلكِنْ لَنَا هذَا الْكَنْزُ فِي أَوَانٍ خَزَفِيَّةٍ، لِيَكُونَ فَضْلُ الْقُوَّةِ للهِ لاَ مِنَّا." (2 كو 4: 7). الله يعمل من خلال الصغير ومن خلال الضعيف ومن خلال الامكانيات الضعيفة. ويمكن أن يفسر لنا هذا ما ورد في سفر ملاخي حْيُ كَلِمَةِ الرَّبِّ لإِسْرَائِيلَ عَنْ يَدِ مَلاَخِي: أَحْبَبْتُكُمْ، قَالَ الرَّبُّ. وَقُلْتُمْ: بِمَ أَحْبَبْتَنَا؟ أَلَيْسَ عِيسُو أَخًا لِيَعْقُوبَ، يَقُولُ الرَّبُّ، وَأَحْبَبْتُ يَعْقُوبَ وَأَبْغَضْتُ عِيسُوَ، وَجَعَلْتُ جِبَالَهُ خَرَابًا وَمِيرَاثَهُ لِذِئَابِ الْبَرِّيَّةِ؟ (ملاخي 1: 1-3)
لندرب أنفسنا من خلال عمل الله بالروح القدس وكلمته المقدسة، والتي تشاور دائمًا على الأمور الغالية التي لها قيمة في الحياة، ولا نبيع الغالي بالرخيص. وأن يكون لدينا بعد النظر من خلال البصيرة الروحية فنحيا بالإيمان لا بالعيان. وأن ننحاز دائمًا للاختيارات الصحيحة في الحياة ونصلح ما يمكن إصلاحه، وهناك إمكانية للتغير من خلال شخص المسيح فقط، فنتغير عن شكلنا بتجديد أذهاننا. ونثق أن الله يعمل من خلال الصغير والإمكانيات الضعيفة عملاً عظيمًا.