آراء و أقلام إنجيلية

ميراث لا يباع

  • بقلم: ش. رضا صلاح

بعض ما نرثه لا يمكن تسعيره، لأنه ليس مجرد ممتلكة نحتفظ بها، بل جزء من كياننا. هناك ميراث يحمل روح من سبقونا، ويحفظ لنا جذور الانتماء ومعنى الارتباط بالله. ليس شيئًا نملكه، بل ما يشكّلنا. إنه امتداد لعهد، وذاكرة حيّة، وأمانة توصل رسالة الماضي إلى المستقبل. التخلي عنه ليس فقط فقدًا، بل كسر لسلسلة من الإيمان والثبات. مثل كرم نابوت، هناك أمور لا تُعرض للبيع، لأنها تحمل في طيّاتها شرفًا لا يُشترى، وكرامة لا تُعَوّض، ورسالة لا تموت، ومن خلال قصة نابوت، نكتشف أبعاد هذا الميراث الذي لا يُباع، ونتأمل أن الميراث أكثر من مجرد أرض وأنه ليس صفقة، وأن ميراثنا الروحي لا يقدر بثمن.
1- الميراث أكثر من مجرد أرض:
لم يكن الكرم في نظر نابوت مجرد رقعة زراعية يعيش منها، بل كان يمثل عمق الانتماء وجذور الهوية. هو قطعة من التاريخ، وعلامة على ارتباط العائلة بالله ووصاياه. كل شبر فيه كان يروي حكاية أمانة وتسليم بين الأجيال. لم يكن التمسك بالميراث نابعًا من عناد شخصي، بل من قناعة داخلية أن ما وُهِب من الآباء لا يُفرَّط فيه تحت أي ظرف. كان نابوت يدرك أن الملكية هنا ليست خاصة فحسب، بل مقدسة، ولا تُنتزع أو تُبدل، لأنها جزء من النظام الإلهي الذي وُزعت به الأرض. لذا، جاء رفضه لأخآب بصوت ثابت وموقف لا يعرف التردد. كان يدافع عن إرث ليس من صنعه، لكنه مسؤول عن صونه. في موقفه درس عميق: ليست كل الممتلكات قابلة للتقييم، فبعضها يفوق الماديات لأنه يحمل البعد الروحي والتاريخي والوجداني في آنٍ واحد.
وكانت وصية الرب واضحة لكل سبط في إسرائيل، إذ خصص له أرضًا معلومة لا تُباع ولا تُبدل، لأنها لا تعود للإنسان بل للرب نفسه، كما قال: «وَالأَرْضُ لاَ تُبَاعُ بَتَّةً، لأَنَّ لِيَ الأَرْضَ، وَأَنْتُمْ غُرَبَاءُ وَنُزَلاَءُ عِنْدِي" (لا 25: 23).
2- الميراث التزام لا صفقة:
يست كل عطية تُقاس بمقابل، فبعضها يُمنح في إطار عهد، لا في سوق مساومة. فالميراث في فكر الله هو جزء من العلاقة العهدية بينه وبين شعبه، وليس مجرد تركة مادية. وعندما ورثت كل عائلة في إسرائيل نصيبها من الأرض، لم يكن الهدف مجرد توزيع الموارد، بل تثبيت الهوية، وربط كل بيت بيد الله التي أعطت ونظّمت وقسّمت.
لذلك، فإن التفريط في هذا الإرث لا يعني فقط التخلي عن ملكية، بل هو كمن يقطع خيط الأمانة الممتد من الله إلى قلب الإنسان. التهاون في هذا الشأن ليس خيارًا بسيطًا، بل انحدار إلى منطق المساومات بدلًا من الأمانة. فمن يبدّل ما منحه الله بشيء آخر، يبدّل المجد بالبُطل، ويفقد المعنى، حتى إن ربح المادة.
نابوت لم يرَ نفسه مالكًا مطلق التصرف، بل أمينًا على عهد لا يحق له كسره. كانت الأمانة بالنسبة له أكبر من مجرد شعور شخصي، بل شهادة حية على احترام الله ووصاياه. وهنا يتضح الفارق الجوهري: الميراث عهد مصون لا سلعة مطروحة. ولذلك، جاء جوابه القاطع لأخآب، مؤكدًا على هذا المفهوم الروحي العميق: "فَقَالَ نَابُوتُ لأَخْآبَ: حَاشَا لِي مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ أَنْ أُعْطِيَكَ مِيرَاثَ آبَائِي" (1مك21: 3)
3- ميراثنا الروحي لا يقدر بثمن:
ليست كل نعمة تُمنح لنا قابلة للمقايضة، فبعضها يُغرس فينا كشهادة على العلاقة بين الله وشعبه، لا كغنيمة تُعرض للتبادل. الإرث الذي خصّ به الرب كل بيت من بيوت بني إسرائيل لم يكن مجرد مورد معاش، بل علامة انتماء، ووسيلة لتثبيت الهوية ضمن مخطط إلهي دقيق. الأرض لم تُوزَّع عشوائيًا، بل بحسب قصد، وبعين ترى ما بعد الأجيال.
من يُساوم على هذا الإرث يستهين بالأمانة، ويُحوّل ما هو مقدَّس إلى سلعة خالية من الروح. وحين تُقاس الهبات الإلهية بمكاسب مؤقتة، يُفقد جوهرها، ويتحول المجد إلى رماد. نابوت لم يتعامل مع الكرم كحيازة شخصية، بل كوديعة يجب الحفاظ عليها مهما كان الثمن. كان واعيًا أن ما بين يديه ليس مُلكًا مطلقًا، بل رابطًا غير مرئي مع الرب ومع تاريخ شعبه.
فكان موقفه أكثر من مجرد "رفض"، بل شهادة حيّة تُجسِّد المعنى الحقيقي للولاء للعهد، والتمسك بما له قيمة لا تزول، ولو كان الثمن حياته.