آراء و أقلام إنجيلية

الكنيسة في المجتمع

  • بقلم: د.ق. يوسف بخيت

تمثل الكنيسة جسد المسيح الحي في العالم، وقد دعيت لتكون نورًا وملحًا في المجتمع (متى 5: 13– 16). من المنظور الإنجيلي، لا تقتصر رسالة الكنيسة على العبادة والتعليم الروحي، بل تمتد لتشمل التأثير العملي والاجتماعي في حياة الناس والمجتمعات. واتناول معكم عن دور الكنيسة الإنجيلي في المجتمع من خلال الأسس الكتابية، والتاريخية، والممارسات العملية، والتحديات المعاصرة.

أولاً: الكنيسة في المجتمع والأساس الكتابي
1. شهادة المؤمن المسيحي في المجتمع
"أنتم نور العالم ... أنتم ملح الأرض" (متى 5: 13–16).
الكنيسة مدعوة لتُظهر صلاح الله وعدله في العالم، وتكون مثالًا لحياة مغيرة.
أ. أنتم نور العالم
النور يكشف ويضيء والنور يطرد الظلمة، يوضح الطريق، يرشد.، ووجود المؤمن في المجتمع يجب أن يكشف الحق ويمجد الله.
"مدينة موضوعة على جبل": لا يمكن أن تُخفى، هكذا يجب أن تكون حياة المؤمن مرئية وواضحة، تؤثر في من حوله.
الغاية من النور ليست لمدح المؤمنين، بل لكي يمجدوا الله. "يروا أعمالكم الحسنة": يشير إلى الحياة العملية في المجتمع، التي تعكس الإيمان الحقيقي. والأعمال الصالحة يجب أن تكون شهادة حية تعكس طبيعة الله في حياة المؤمن.
ب . أنتم ملح الأرض
وظيفة الملح يحفظ الطعام من الفساد.
ويعطي نكهة.، ونحن مدعوون لنكون قوة محافظة على الأخلاق والحق في العالم، لمنع الفساد الروحي والأخلاقي.
إذا فقدنا تأثيرنا (كما يفسد الملح)، فإننا لا نحقق الغرض الذي دعانا الله لأجله.
التحذير: إذا فسد الملح ( أي المؤمن الذي يفقد تأثيره الروحي)، يصبح بلا قيمة، ويُطرح خارجًا. الإيمان لا يمكن أن يكون سريًا أو بلا تأثير.
حياة المؤمن الصالحة هي وسيلة لجذب الناس لمجد الله.
2. الخدمة والمحبة العملية
دعوة المسيح لتلاميذه: "كنت جوعانًا فأطعمتموني ... مريضًا فزرتموني ..." (متى 25 : 35 – 40).
المسيح يوضح أن محبته لله تظهر من خلال أعمال الرحمة تجاه الآخرين المحتاجين إلى الطعام، الشراب للعطشان، المأوى للغريب، الملابس للعريان، زيارة المرضى والمحبوسين. ما تفعله للآخرين، خاصة الفقراء والمحتاجين، فهو وكأنك تفعله للمسيح نفسه.
الرحمة العملية واعتبار أن خدمة الناس المحتاجين خدمة مباشرة للمسيح، وهي معيار أساسي للحياة المسيحية الصحيحة.
ويوضح هذا النص أن الخدمة الاجتماعية جزء لا يتجزأ من الإيمان العملي.
3. المصالحة والعدالة
"أعطانا خدمة المصالحة" (2 كور 5: 18–20).
الله هو مصدر كل شيء، وهو الذي بدأ عمل المصالحة بين الإنسان والخالق. لم نصل نحن إلى الله بقوتنا أو كمالنا، بل الله هو الذي بادر بالمصالحة عبر المسيح. هذا يذكرنا أن خلاصنا وعودتنا إلى الله ليست بسبب أعمالنا، بل بسبب نعمته ومحبة المسيح.
والسفراء لا يفرقون بين أحد، بل يطلبون من الجميع أن يتصالحوا مع الله. هذه رسالة شاملة، رسالة أمل ومغفرة لكل إنسان، حتى لمن يشعر أنه بعيد أو مستحق للعقاب. والكنيسة مدعوة للعمل كجسر للمصالحة بين الله والناس، وبين الناس أنفسهم.

ثانيًا: نظرة تاريخية على دور الكنيسة في المجتمع
١. الكنيسة الأولى
في سفر أعمال الرسل نرى الكنيسة تهتم بالفقراء، وتوزّع الإمكانيات "كل شيء مشترك بينهم" (أعمال 2: 44 – 45).
الكتاب يشير إلى "بيع الممتلكات وتقسيمها حسب الحاجة" الروح هنا ليست التملك، بل التخلي عن الأنانية. أي استعداد للتضحية بما لدينا من أجل خير الآخرين يعكس روح الكنيسة الأولى. وتأسيس جسد المسيح على الأرض وممارسة الحياة المسيحية الحقيقية في المجتمع.
٢. دور الكنيسة في العصور المختلفة
في العصور الوسطى: كانت الكنيسة مركزًا للتعليم والرعاية الصحية. ودورها الأساسي مركز روحي واجتماعي وسياسي.
- إدارة مدارس ومستشفيات ودور الأيتام.
- الوساطة بين الحكومات والشعوب.
- نشر الثقافة والتعليم في المجتمع.
والهدف:
أن تكون الكنيسة القوة الموجهة للروحانية والثقافة في المجتمع.
في عصر الإصلاح: أعيد التأكيد على دور الفرد في المجتمع انطلاقًا من الإيمان.
في الإصلاح الروحي والعودة للنصوص الكتابية.
- الدفاع عن الكتاب المقدس كمصدر وحيد للإيمان.
- محاربة الفساد المادي والروحي داخل المؤسسة الكنسية.
- تشجيع الناس على قراءة الكتاب المقدس والعيش بحسب تعاليمه.
والهدف: تصحيح الانحرافات وإحياء الإيمان النقي في حياة المؤمنين.
3. الكنيسة الإنجيليّة المعاصرة
ظهور منظمات ومبادرات اجتماعية نابعة من الكنائس الإنجيلية: المستشفيات، المدارس، الإغاثة الإنسانية. والتبشير والتأثير الثقافي.
- التبشير عالميًا، ونشر الإنجيل عبر الوسائل الحديثة.
- التعليم والخدمة الاجتماعية (مدارس، مستشفيات، جمعيات خيرية).
- الدفاع عن القيم الأخلاقية والروحية في المجتمع.
والهدف: تحقيق رسالة المسيح في العالم المعاصر، والاهتمام بجوانب الحياة الروحية والاجتماعية للمجتمع.

ثالثًا: الجوانب العملية لدور الكنيسة الإنجيلي في المجتمع
1. التعليم والتوعية
- غرس القيم الإنسانية: مثل الصدق، الأمانة، الاحترام، التضحية، ومساعدة الآخرين.
- مواجهة السلوكيات الضارة: التوعية حول مشاكل مثل العنف، الإدمان، الفساد، والانحرافات الأخلاقية.
- إرشاد الأسرة والمجتمع: تقديم برامج تثقيفية للأهل والأطفال لتعزيز التربية السليمة والقيم المسيحية في البيت والمدرسة.
- التعامل مع قضايا العصر: مثل التكنولوجيا، الإعلام، الصحة النفسية، والبيئة، مع تقديم منظور مسيحي يعكس التعاليم الكتابية.
- تعزيز الثقافة العامة: نشر كتب، مقالات، ودروس إلكترونية تعزز الوعي الديني والأخلاقي والثقافي.
2. رعاية الفقراء والمحتاجين
في عالم يزداد فيه الفقر مع الغنى المفرط، تُدعى الكنيسة لتكون جسر محبة لا تميّز بين غني وفقير، بل تخدم الجميع.
- استخدام التكنولوجيا والوسائط الحديثة لإنشاء صناديق دعم إلكترونية، وتنسيق مبادرات على نطاق عالمي.
- الشراكة مع مؤسسات المجتمع المدني من أجل توسيع دائرة الخدمة والوصول إلى المحتاجين في أماكن يصعب على الكنيسة وحدها الوصول إليها.
- التنمية البشرية: تعليم مهارات مهنية، توفير فرص عمل، مساعدات دراسية، دورات تدريبية، بهدف إخراج الإنسان من دائرة الفقر إلى دائرة الإنتاج.
٣. العمل من أجل العدالة الاجتماعية
- الكنيسة تُظهر محبة الله العملية عندما تقف مع المظلومين وتدافع عن المهمشين، فتجسد حضور المسيح في العالم. العدالة الاجتماعية هنا ليست مجرد شعار، بل شهادة عملية للإنجيل الذي يحرر الإنسان كليًا: روحًا ونفسًا وجسدًا.
- العدالة الاجتماعية ليست غاية في ذاتها فقط، بل وسيلة تعكس ملكوت الله الذي فيه "لا جوع ولا ظلم ولا دموع". لهذا كل خدمة اجتماعية يجب أن تنبع من روح الصلاة، المحبة، والإيمان العامل بالمحبة (غلاطية ٥: ٦).

رابعًا: التحديات التي تواجه الكنيسة في التأثير المجتمعي
1. العلمانية والتهميش الديني:
1. العلمانية:
لا تعني فقط الفصل بين الدين والدولة، بل في كثير من الأحيان تتحوّل إلى إقصاء الدين عن الحياة العامة، وقصره على المجال الشخصي أو الطقسي.
2. التهميش الديني:
هو تقليل دور الكنيسة في التأثير على المجتمع والثقافة، بحيث تُعتبر كأنها مؤسسة "قديمة" أو "غير ضرورية" في العالم الحديث.
- دور الكنيسة في زمن العلمانية هو أن تبقى شاهدة للمسيح بجرأة، حاضرة في المجتمع بمحبة، ومجددة للثقافة بالحق.
2. سوء الفهم والخوف من التبشير
يُساء أحيانًا فهم نشاط الكنيسة كمحاولة للسيطرة، وسوء الفهم يجعل الناس ترى التبشير كإكراه، والخوف يجعل المؤمنين صامتين. أما النظرة الكتابية، فترى التبشير شهادة حب صادقة لحياة تغيّرت بالمسيح، وهو أعظم ما يمكن أن نشارك به الآخر.
3. الانقسام الداخلي
ضعف الوحدة بين الكنائس يحد من التأثير المجتمعي المشترك.

خامسًا: توصيات عملية
1. تعزيز الشراكات المجتمعية بين الكنائس والمنظمات المدنية.
2. تدريب القادة على العمل الاجتماعي واللاهوت التطبيقي.
3. الاستماع لاحتياجات المجتمع قبل تقديم الحلول.
4. دمج الرسالة الإنجيلية مع الخدمة العملية بوضوح وتوازن.

خــاتــمــة:
من المنظور الإنجيلي، تُعتبر الكنيسة مسؤولة أمام الله والمجتمع بأن تكون فاعلة ومؤثرة في محيطها. هذا يتطلب توازنًا بين الرسالة الروحية والخدمة العملية، وهو ما يجسد محبة المسيح في العالم. بقدر ما تلتزم الكنيسة بعيش الإنجيل بصدق، بقدر ما سيكون تأثيرها في المجتمع واضحًا ومباركًا.