آراء و أقلام إنجيلية

الكنيسة الإنجيليّة في المجتمع

  • بقلم: ق. أيمن عيد فايز

الحديث عن هذا الأمر يتم من خلال ثلاثة محاور بين (الرؤية اللاهوتية والتحليل المجتمعي والسياق المصري)

المحور الأول: الجذور التاريخية والدور الروحي للكنيسة الإنجيلية في مصر
تعود جذور الكنيسة الإنجيلية في مصر إلى النصف الأول من القرن التاسع عشر، عندما بدأت الإرساليات البروتستانتية، ولا سيما الإرسالية الأمريكية، في العمل داخل الأراضي المصرية. لم يكن الهدف من هذه الإرساليات مجرد التبشير، بل جاء معها مشروع متكامل يشمل التعليم والصحة والعمل الاجتماعي. وبمرور الوقت، نشأت الكنيسة الإنجيلية المشيخية في مصر كهيئة مستقلة ذات طابع محلي، وتكوّنت من مصريين آمنوا بالرسالة الإنجيلية، وبدأوا بتشكيل مجتمع روحي متميّز.
الدور الروحي للكنيسة الإنجيلية في المجتمع المصري يتمثّل أولًا في الكرازة بالإنجيل للمسيحيين بوصفه رسالة خلاص لكل إنسان، وثانيًا في رعاية المؤمنين وتنشئتهم روحيًا من خلال التعليم الكتابي، والعبادة، والمجموعات الصغيرة، وخدمة الأطفال والشباب. وتولي الكنيسة أهمية كبيرة للتلمذة، إذ ترى في النمو الروحي دعامة أساسية للحياة المسيحية الفردية والجماعية.
هذا الوجود الروحي لم يكن منعزلاً عن السياق العام، بل تفاعل مع الواقع المصري، متأثرًا به ومؤثرًا فيه، حيث امتزج الإيمان بالثقافة المحلية، وتم التعبير عن الرسالة المسيحية بلغات الحياة اليومية وتحديات المواطن المصري.
المحور الثاني: التأثير المجتمعي والتنموي للكنيسة الإنجيلية
من أبرز سمات الكنيسة الإنجيلية في مصر قدرتها على الجمع بين البعد الروحي والبعد المجتمعي. فقد أدركت منذ نشأتها أن الإنجيل لا يتوقف عند حدود "خلاص النفس"، بل يمتد ليشمل تحرير الإنسان وتطوير حياته. لذلك لعبت الكنيسة دورًا رائدًا في مجالات التعليم والصحة والخدمة الاجتماعية، ولا سيما في عهد الراحل الدكتور القس/ صموئيل حبيب رئيس الطائفة الإنجيلية الأسبق ومؤسس الهيئة الإنجيلية القبطية بمصر ومقرها الرئيسي بمحافظة المنيا عروس الصعيد، للتمكين من إمداد الخدمات الإجتماعية للصعيد.
ولا يفوتنا، ان نذكر أن الكنيسة أنشأت مدارس ومؤسسات تعليمية تعد من أرقى المؤسسات في مصر، مثل مدرسة رأس التين ومدرسة جاردن سيتي، وأسهمت في تعليم الإناث في وقت كانت فيه نسبة الأمية مرتفعة. كما أنشأت مستشفيات ومستوصفات لتقديم الخدمة الصحية للفقراء، وكانت سبّاقة في إدخال مفاهيم جديدة للرعاية الاجتماعية والتنمية.
واليوم، تواصل الكنيسة الإنجيلية دورها التنموي من خلال هيئات تابعة لها مثل الهيئة القبطية الإنجيلية للخدمات الاجتماعية، التي تعمل في مجالات تمكين المرأة، تنمية الريف، محو الأمية، دعم ذوي الاحتياجات الخاصة، وتعزيز ثقافة الحوار والسلام.
إن الدور المجتمعي للكنيسة لا ينبع من الرغبة في التوسع أو فرض النفوذ، بل من إيمان عميق بأن المسيح جاء ليُعلن ملكوت الله في كل جوانب الحياة، وأن الكنيسة مدعوة لتكون نورًا وملحًا في المجتمع.
المحور الثالث: التحديات والفرص أمام الكنيسة الإنجيلية في السياق المصري
رغم هذا التاريخ المشرّف، إلا أن الكنيسة الإنجيلية تواجه اليوم مجموعة من التحديات المعقدة التي تستوجب رؤى لاهوتية جديدة وآليات عمل مبتكرة.
أول هذه التحديات هو تحدي الهوية، إذ تسعى الكنيسة للحفاظ على خصوصيتها الإنجيلية، وفي الوقت نفسه الانخراط الإيجابي في المجتمع دون ذوبان أو عزلة.
ثانيًا، هناك تحدي العمل مع الأجيال الجديدة، لا سيما مع اتساع الفجوة بين القيادات التقليدية والشباب، وتغير طرق التفكير والتواصل. لذلك تحتاج الكنيسة إلى تجديد أدواتها التربوية والروحية لتلائم العقلية الرقمية والاحتياجات النفسية لجيل يعاني من القلق، وفقدان المعنى، وضغط الحياة.
ثالثًا، تواجه الكنيسة تحديًا ثقافيًا ودينيًا في كونها أقلية داخل سياق ديني واجتماعي مختلف، وهو ما يفرض عليها أن تكون حكيمة في خطابها، متزنة في شهادتها، ومسؤولة في تفاعلها مع قضايا الوطن.
ورغم هذه التحديات، إلا أن هناك فرصًا عظيمة أمام الكنيسة الإنجيلية اليوم. فهناك عطش روحي متزايد لدى الشباب، وهناك تقدير مجتمعي للدور التنموي الذي تلعبه، وهناك انفتاح حواري مع أطراف أخرى في المجتمع.
هذه الفرص تتطلب من الكنيسة أن تكون أكثر مرونة ورؤية وتجددًا. تحتاج إلى قيادات ذات كفاءة روحية وفكرية، وإلى تفعيل العمل التشاركي بين الكنائس، وإلى تطوير رؤية لاهوتية تتفاعل مع الواقع المصري من داخل السياق، لا من خارجه.
ختامًا أقول: ان الكنيسة الإنجيلية في مصر ليست مجرد كيان ديني يعيش على هامش المجتمع، بل هي جسد حي يتحرك بالإيمان والرجاء والمحبة داخل نسيج الوطن. جذورها ضاربة في الأرض، ورسالتها ممتدة عبر الأجيال، وتحدياتها جسيمة، لكنها لا تزال تواصل المسيرة بقوة الله، مستندة إلى وعد المسيح: "أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها" (متى 16: 18).
وبكل تأكيد، إن المستقبل لا يُبنى فقط على الأمجاد الماضية، بل على وعي عميق بالدعوة الإلهية، وفهم دقيق للسياق، والتزام صادق بالشهادة للحق، وخدمة الإنسان بلا تمييز. وهذا هو نداء الكنيسة الإنجيلية اليوم: أن تكون كنيسة للمسيح، وسط الشعب، من أجل المجد الإلهي والخير العام.