آراء و أقلام إنجيلية

عدل الله ورحمته

  • بقلم: ش. رضا صلاح

حين نتأمل في قصة إحصاء داود للشعب، ندرك أنها ليست مجرد حادثة تاريخية، بل درس روحي عميق. فهي تكشف لنا خطية داود في الإحصاء حين امتلأ قلبه بالكبرياء واعتمد على العدد بدل الاتكال على الله. كما تُظهر العقوبة الإلهية التي أعلنها الرب، حيث اجتمع العدل مع الرحمة، فاختار داود أن يسقط في يد الرب لا في يد إنسان. وأخيرًا، نرى توبة داود الصادقة، إذ اعترف بخطيته وحمّل نفسه المسؤولية عن الشعب، ليصير رمزًا يشير إلى الراعي الصالح، المسيح يسوع، الذي حمل خطايا العالم ليمنحنا الغفران والسلام.
أولًا: خطية الكبرياء والاتكال على الذات:
اود لم يُخطئ لمجرد أنه أجرى إحصاءً للشعب، بل لأن قلبه امتلأ بالكبرياء واعتمد على العدد بدلًا من الاتكال على الله. لقد ظن أن قوته تكمن في كثرة الجيوش، مع أن الانتصار دائمًا هو عطية من الله، لا ثمرة قوة بشرية. وهنا يكشف النص أن الإنسان بطبيعته الساقطة ميّال لأن يضع ثقته في ذاته، في إمكانياته وأرقامه وموارده، بدلاً من أن يتكل على الرب. ويُلاحظ أن يؤاب كان مدركًا أن ما أراده الملك ليس ضروريًا، فقال له: "لماذا يسر سيدي الملك بهذا الأمر؟"؛ فقد رأى أن داود يحاول الاستقلال عن الله، وكل ميل نحو الاستقلال عن الله يُعد خطية ضد سيادته.
وإلى جانب ذلك، لم يلتزم داود بالوصية التي أعطاها الرب لموسى في شريعة الإحصاء: "إذَا أَخَذْتَ كَمِّيَّةَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بِحَسَبِ الْمَعْدُودِينَ مِنْهُمْ، يُعْطِي كُلُّ وَاحِدٍ فِدْيَةَ نَفْسِهِ لِلرَّبِّ عِنْدَمَا تَعُدُّهُمْ، لِئَلاَّ يَصِيرَ فِيهِمْ وَبَأٌ عِنْدَمَا تَعُدُّهُمْ" (خر 30: 12). إذ أوصى الله أن يقدم كل فرد نصف شاقل فدية عن نفسه عند العدّ، علامة على أن الشعب ملك للرب لا للملك، وأن حياتهم محفوظة في يد الله وحده. فبإهماله لهذه الوصية، لم يعلن داود خضوع الشعب لسيادة الله، بل أظهر ميلًا لاعتبارهم ملكًا شخصيًا له. وهكذا اجتمعت الكبرياء مع عصيان الوصية لتكشف خطورة الموقف الذي جلب التأديب الإلهي.
ثانيًا: عدل الله وتأديبه المُحب:
حين أعلن الرب العقوبة، لم يكن قصده الانتقام، بل التأديب. فقد وُضِعت أمام داود ثلاثة خيارات:
"فأتى جاد إلى داود وأخبره وقال: أَتأتي عليك سبع سنين جوع في أرضك، أم تهرب ثلاثة أشهر أمام أعدائك وهم يتبعونك، أم يكون ثلاثة أيام وبأ في أرضك؟ فالآن اعرف وانظر ماذا أرد جوابًا على مرسلي" (2صم 24: 13).
وكل خيار منها كان يحمل ألمًا عظيمًا. لكن داود فضّل أن يسقط في يد الرب، لأنه يعلم أن مراحم الله أعظم من قسوة البشر:" فقال داود: قد ضاق بي الأمر جدًا. فلنسقط في يد الرب لأن مراحمه كثيرة، ولا أسقط في يد إنسان" (2صم 24: 14)، فجعل الرب وبأً في إسرائيل فمات سبعون ألف رجل، وحين بسط الملاك المهلك يده على أورشليم ليهلكها، ندم الرب وقال للملاك المهلك: "رد يدك". وهنا تظهر قوة رحمة الله.
في هذا الموقف نلمح طبيعة الله كما يقدّمها اللاهوت الإصلاحي: الله عادل لا يتهاون مع الخطيئة، لكنه أيضًا إله رحمة وغفران. فحتى التأديب في حد ذاته هو وسيلة إلهية لإعادة القلوب إلى حضن الله.
ثالثًا: التوبة الحقيقية وتحمل المسؤولية:
اعترف داود بخطيته بوضوح، وقال: "قد أخطأت جدًا". لكنه لم يكتفِ بالاعتراف، بل تحمّل مسؤولية ما حدث: "وضرب داود قلبه بعدما عدّ الشعب، فقال داود للرب: لقد أخطأت جدًا في ما فعلت، والآن يا رب أزل إثم عبدك لأني انحمقت جدًا" (2صم 24: 10). وأعلن أيضًا أن الشعب البريء لا يستحق العقوبة، قائلاً:" "فكلم داود الرب عندما رأى الملاك الضارب الشعب وقال: ها أنا أخطأت وأنا أذنبت، وأما هؤلاء الخراف فماذا فعلوا؟ فلتكن يدك عليّ وعلى بيت أبي" (2صم 24: 17)،
هنا نرى ملمحًا واضحًا: داود الراعي الذي يضع نفسه مكان الشعب هو رمز للمسيح الراعي الصالح. الفرق أن داود كان راعيًا خاطئًا يطلب الرحمة، أما المسيح فكان راعيًا بلا خطية، لكنه حمل خطايا العالم ليخلّص خرافه. التوبة في الفكر الكتابي ليست مجرد شعور بالذنب، بل هي تغيير جذري في الاتجاه: من الاعتماد على الذات إلى الاحتماء بنعمة الله.
والوباء ليس مجرد قصة قديمة أصابت إسرائيل، بل هو درس مستمر عبر الأجيال. فالأوبئة والضيقات تذكّرنا بضعفنا وخطيئتنا، وتدعونا للرجوع إلى الله. الكبرياء يقود دائمًا إلى السقوط، لكن التوبة الصادقة والاحتماء في المسيح يفتحان لنا باب الرجاء. وبينما يواجه العالم أوبئة وظروفًا صعبة، نحن مدعوون أن نثبت عيوننا على الصليب، حيث توقّف الوباء الأعظم، وحيث وجدت البشرية الغفران والسلام.