المعلّم الصالح ... نتعلّم منه ونتمثل به
10/13/2025 12:00:00 AM
التعليم هو مفتاح النهضة، لا نهضة بلا تعليم، وكل تعليم حقيقي يقود للنهضة. والتعليم يقوم على المعلم أو المدرس والمدرسة أو الجامعة والمنهج، والرؤية والفلسفة وراء كل ذلك. وعندما يوجد معلّم يحب أن يُعلّم وتلميذ يحب أن يتعلّم تحدث المعجزة، وهي التغيير، وهذا الكلام ينطبق على شخص المسيح الذي أحب تلاميذه، بل أحبهم إلى المنتهى.
ويُعتبر التعليم أحد المحاور الرئيسة في النهضة المجتمعية، وهو ليس مجرد عملية معرفية محايدة، بل ممارسة ذات بعد ثقافي وقيمي. وإذا كان التعليم في مصر يواجه تحديات جذرية مثل ضعف البنية التعليمية، ونقص الكفاءات، وضغط المناهج، فإن استدعاء صورة المسيح المعلّم الصالح يُقدّم إطارًا تحليليًا لفهم كيف يمكن أن يُشكّل التعليم المسيحي نموذجًا للتغيير.
عندما نتأمل في الأناجيل، نرى أنَّ المسيح لم يُقدَّم فقط كصانع معجزات أو كواعظ للجموع، بل كأعظم معلّم عرفه التاريخ، حيث لقب الشاب المدون في مرق 10 المسيح بالمعلّم الصالح: "وَفِيمَا هُوَ خَارِجٌ إِلَى الطَّرِيقِ، رَكَضَ وَاحِدٌ وَجَثَا لَهُ وَسَأَلَهُ: أَيُّهَا الْمعلّم الصَّالِحُ، مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ؟" (مر 10: 17). حتى الذين لم يتبعوه شهدوا له بذلك، حسب قول نِيقُودِيمُوسُ: "يَا معلّم، نَعْلَمُ أَنَّكَ قَدْ أَتَيْتَ مِنَ اللهِ معلّما، لأَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَقْدِرُ أَنْ يَعْمَلَ هذِهِ الآيَاتِ الَّتِي أَنْتَ تَعْمَلُ إِنْ لَمْ يَكُنِ اللهُ مَعَهُ." (يو 3: 2).
كان تعليم المسيح فريدًا لأنه جمع بين السلطان الإلهيّ والقدوة العملية والبساطة العميقة، وبين الصبر التربوي والشفاء الداخلي. كل كلمة خرجت من فمه لم تكن مجرد معلومات تُضاف إلى العقول، بل كانت حياة تُغيّر القلوب. الناس لم يندهشوا فقط من عمق تعليمه، بل من شخصه هو، لأنه الكلمة المتجسد الذي جاء ليعلن للإنسان طريق الخلاص. لذلك، عندما نقترب من المسيح المعلّم، نحن لا ندرس مجرد طريقة تعليمية، بل نلتقي بالحق نفسه الذي صار إنسانًا ليعلّمنا كيف نعيش في شركة مع الله. وهي دعوة أن نجلس عند قدميه كما جلست مريم (لو 10: 39)، لنتعلّم منه، ثم نحيا ما تعلّمناه، وننقله للآخرين، "وَمَا سَمِعْتَهُ مِنِّي بِشُهُودٍ كَثِيرِينَ، أَوْدِعْهُ أُنَاسًا أُمَنَاءَ، يَكُونُونَ أَكْفَاءً أَنْ يُعَلِّمُوا آخَرِينَ أَيْضًا." (2 تي 2: 2).
وحول وصف المعلّم الصالح الذي خُصّ به الإنجيل المسيح نجد أن التعليم كان أحد الأركان الأساسيّة في خدمة المسيح فكان يعلّم، يكرز، ويشفي "وَكَانَ يَسُوعُ يَطُوفُ كُلَّ الْجَلِيلِ يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهِمْ، وَيَكْرِزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ، وَيَشْفِي كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضَعْفٍ فِي الشَّعْب." (مت 4: 23). وقد كرَّر متى نفس التقرير في الإصحاح التاسع بالقول: "وَكَانَ يَسُوعُ يَطُوفُ الْمُدُنَ كُلَّهَا وَالْقُرَى يُعَلِّمُ فِي مَجَامِعِهَا، وَيَكْرِزُ بِبِشَارَةِ الْمَلَكُوتِ، وَيَشْفِي كُلَّ مَرَضٍ وَكُلَّ ضُعْفٍ فِي الشَّعْبِ." (مت 9: 35). ويُسَجِّل البشير متى دستور المعلّم في الموعظة على الجبل متى 5-7 التي بدأها متى بالقول: وَلَمَّا رَأَى الْجُمُوعَ صَعِدَ إِلَى الْجَبَلِ، فَلَمَّا جَلَسَ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلاَمِيذُهُ. فَفتحَ فاهُ وعَلَّمَهُمْ قَائِلًا (مت 5: 1-2). والبرنامج التعليمي لخدمة وإرسالية المسيح أعلنه في كفر ناحوم لو 4: 18-19. وقد لُقِّبَ بالمعلّم الصالح، وفي هذا اللقب نرى:
1- التفرد والتميز
2- القدوة والنموذج
3- البساطة والعمق
4- التعليم والتغير
5- الاحتواء والشفاء
أولاً: التفرد والتميز
المسيح في الأناجيل ظهر كمعلّم له سلطان خاص، ليس مثل الكتبة والفريسيين الذين كانوا يكررون ما سبقهم. بل كان كلامه يحمل قوة وحياة، لأنه هو نفسه الكلمة المتجسد. يقول الإنجيل: "كان يعلّمهم كمن له سلطان وليس كالكتبة" (مت 7: 28–29). هذا السلطان نابع من كونه ابن الله، لذلك كانت كلماته تخترق القلوب وتغيّر الحياة. وهذا يدعونا أن نكون أمناء فيما ننقله، فلا يكون كلامنا مجرد ترديد محفوظ، بل ناطق بالحياة من خلال علاقة شخصية بالمسيح.
تواجه المنظومة التعليمية في مصر أزمة ثقة بين الطالب والمعلم بسبب أنماط الحفظ والتلقين. على النقيض، قدّم المسيح تعليمًا يحمل سلطانًا داخليًا لا يقوم على الترديد، بل على الخبرة الحية. في السياق المصري، يمكن أن يُترجم هذا في ضرورة إعادة بناء جسور الثقة عبر حضور المعلّم كشخصية مرجعية وأخلاقية، وليس فقط ناقلًا للمعرفة. هذا يفتح المجال للمعلم المسيحي أن يكون شاهدًا للحق، فيغرس الاحترام والالتزام داخل الفصل الدراسي والكنيسة على السواء
ثانيًا: القدوة والنموذج
المسيح لم يكتفِ بالكلام، بل علّم التلاميذ بالعمل والقدوة، وأبرز مثال هو غسل الأرجل في العلية: أَنْتُمْ تَدْعُونَنِي مُعَلِّمًا وَسَيِّدًا، وَحَسَنًا تَقُولُونَ، لأَنِّي أَنَا كَذلِكَ. فَإِنْ كُنْتُ وَأَنَا السَّيِّدُ وَالْمُعَلِّمُ قَدْ غَسَلْتُ أَرْجُلَكُمْ، فَأَنْتُمْ يَجِبُ عَلَيْكُمْ أَنْ يَغْسِلَ بَعْضُكُمْ أَرْجُلَ بَعْضٍ، لأَنِّي أَعْطَيْتُكُمْ مِثَالًا، حَتَّى كَمَا صَنَعْتُ أَنَا بِكُمْ تَصْنَعُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا (يو 13: 13–15). وغسل الأرجل ليس المقصود بها طقسًا نمارسه بل محبة واتضاع نعيش فيه، بهذا الفعل وضع أمامهم درسًا في التواضع والخدمة العملية.
فالتعليم المسيحي ليس مجرد أفكار عقلية، بل أسلوب حياة يُعاش ويُرى. لذلك نحن مدعوون أن نكون قدوة لأولادنا ومخدومينا، فنمارس ما نعلّمه، ونعيش الوصية قبل أن نطلب من الآخرين أن يطيعوها. كانت وصية بولس لتيموثاوس من خلال يسوع النموذج: "لاَ يَسْتَهِنْ أَحَدٌ بِحَدَاثَتِكَ، بَلْ كُنْ قُدْوَةً لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الْكَلاَمِ، فِي التَّصَرُّفِ، فِي الْمَحَبَّةِ، فِي الرُّوحِ، فِي الإِيمَانِ، فِي الطَّهَارَةِ." (1 تي 4: 12). المعلّم مدعو أن يكون قدوة لا بمجرد شرح المناهج، بل بتجسيد قيم النزاهة، المحبة، واحترام الطالب. في مجتمعنا حيث يشكو الكثير من ضعف التعليم، الحضور المسيحي المخلص يمكن أن يكون شهادة حية لتعليم يغيّر.
من أبرز التحديات التي يواجهها المجتمع المصري اليوم هو الانفصام بين القول والفعل، حيث تسود ازدواجية القيم بين الخطاب الأخلاقي والواقع المعيشي. المسيح المعلّم جسّد التعليم بالقدوة عندما غسل أرجل التلاميذ. في ضوء ذلك، تُبرز الكنيسة حاجة مُلحّة لتأهيل خدامها ومعلميها على أن يكونوا قدوة عملية في النزاهة والرحمة والغفران، وهي قيم شديدة الأهمية في مجتمع يرزح تحت الضغوط الاقتصادية والاجتماعية.
ثالثًا: البساطة والعمق
أكثر ما يميز تعليم المسيح أنه كان بسيطًا قريبًا من الناس، إذ استخدم أمثالًا وصورًا من حياتهم اليومية مثل الزارع، والخبز، والملح، والنور، والشبكة، والطيور والعصافير، والزروع والأشجار. هذا الأسلوب جعل التعليم سهل الفهم والحفظ والتطبيق. المسيح لم يقدّم فكرًا معقدًا بل حياة ملموسة يفهمها الجميع. هنا نتعلم أن نخاطب الآخرين بلغة يفهمونها، ونقرّب الحقائق الروحية لأذهانهم بما يناسب حياتهم اليومية.
المعلم لا يُقاس نجاحه بكثرة المعلومات التي يحشو بها أذهان الأطفال والشباب، بل بقدرته أن ينقل لهم خبرة حياة مع المسيح. وسط أجواء التحديات الأخلاقية والثقافية في مصر، يحتاج الخادم أن يعلّم ببساطة وعمق، كما كان المسيح يقرّب الحقائق بالقصص والأمثال.
التعليم الرسمي في مصر كثيرًا ما يقع بين فكي المعادلة الصعبة: مناهج معقدة تفتقر إلى الارتباط بحياة الطالب اليومية. تعليم المسيح كان عميقًا لكنه قريب، استخدم صورًا من الحياة اليومية مثل الزرع والخبز. في السياق المصري، يُلزم هذا النهج التربوي المسيحي باستخدام لغة الحياة اليومية والرموز الثقافية المحلية لتوصيل الرسالة، بحيث لا يبقى التعليم المسيحي في حيز النخبوية، بل يصير خبرة معاشة للجميع.
رابعًا: التعليم والتغير
المسيح كان معلّما مربيًا يعرف احتياجات كل تلميذ ويقوده خطوة بخطوة. نراه مع تلميذي عمواس (لو 24: 27) يشرح لهما الكتب ويكشف لهما عن نفسه بهدوء وصبر حتى انفتحت أعينهما. هو لم يفرض التعليم عليهم دفعة واحدة، بل رافقهما في رحلتهما حتى وصلا إلى الإيمان. هذا نموذج للخادم أن يكون صبورًا مع المخدومين، يعرف مستواهم الروحي والعقلي، ويقدّم لهم الغذاء المناسب في الوقت المناسب. التعليم عند المسيح ليس كلامًا بل حياة تُعاش. في مصر حيث يكثر الكلام عن الفساد أو الإحباط، نحن مدعوون أن نكون "إنجيلاً مقروءًا"، نعلّم بالقيم في سوق العمل، في الأمانة، في احترام الوقت، في خدمة المحتاجين.
أزمة التعليم المصري تتجلى في غلبة ثقافة الامتحانات على حساب التكوين الشخصي. المسيح لم يقدّم معرفة نظرية، بل ساعد تلاميذه على التغيير الشخصي (مثل تلميذي عمواس). من هنا، يصبح التعليم المسيحي في مصر مدعوًا لتخطي حدود "المعلومات الدينية"، ليتحول إلى مسيرة تكوين تقود إلى تغيير السلوك والعلاقات، سواء في الأسرة أو العمل أو المجتمع.
خامسا: الاحتواء والشفاء
تعليم المسيح لم يكن أحمالًا جديدة على الناس مثلما كان يفعل الفريسيون، بل كان يحرّر ويشفي ويعطي راحة للنفس. قال: "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم… فتجدوا راحة لنفوسكم" (مت 11: 28–29). هذا يوضح أن التعليم المسيحي ليس غايته السيطرة أو التعقيد، بل خلاص الإنسان وراحته. وعندما نتعلم من المسيح نختبر التحرير الداخلي وننقله للآخرين. المسيح علّم بالسلطان لكن بروح الوداعة. في مصر، حيث التنوع الديني والثقافي، المعلم مدعو أن يكون حوارًا بالقدوة، لا بالجدل العقيم. بذلك يصير حضور المسيحيين نورًا في العلاقات المجتمعية.
المجتمع المصري يعاني من الضغوط الاقتصادية والنفسية التي تنعكس على الأسرة والشباب. تعليم المسيح لم يكن عبئًا إضافيًا بل دعوة إلى الراحة: "تعالوا إليّ... وأنا أريحكم". الكنيسة المصرية، باستلهام هذا النموذج، تستطيع أن تجعل من التعليم المسيحي مجالًا للشفاء الداخلي والدعم النفسي، لا مجرد أحكام أو التزامات جديدة.
ومن المعلّم الصالح إلى النصيب الصالح، وهو الجلوس عندي قدمي يسوع المعلّم: "وَلكِنَّ الْحَاجَةَ إِلَى وَاحِدٍ. فَاخْتَارَتْ مَرْيَمُ النَّصِيبَ الصَّالِحَ الَّذِي لَنْ يُنْزَعَ مِنْهَا." (لو 10: 42). وكما عبر الرسول بولس عن المسيح في ثلاث صور: المسيح الدرس: "وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَمْ تَتَعَلَّمُوا الْمَسِيحَ هكَذَا" (أف 4: 20). والمسيح المدرس: "إِنْ كُنْتُمْ قَدْ سَمِعْتُمُوهُ" (أف 4: 21). والمسيح المدرسة: "وَعُلِّمْتُمْ فِيهِ كَمَا هُوَ حَقٌّ فِي يَسُوعَ" (أف 4: 21).
المسيح المعلّم هو الذي يفتح العيون ويغيّر القلوب ويقودنا إلى ملكوت الله. لقد علّمنا بالسلطان، وبالتواضع، وبالبساطة، وبالصبر، وبالشفاء والتحرير. وإن كنا نحن تلاميذه اليوم، فعلينا أن نجلس عند قدميه كل يوم لنتعلّم منه، ثم ننقل ما اختبرناه للآخرين بصدق وحب. وكما قال الشاب الغني: "أيها المعلّم الصالح، ماذا أعمل لأرث الحياة الأبدية؟" (مر 10: 17)، هكذا نحن أيضًا لا نملك إلا أن نلتصق به كالمعلّم الصالح الذي يقودنا إلى الحياة الأبدية.
المسيح هو المعلّم الصالح الذي لا يشبه أي معلّم آخر. فهو يعلّم بسلطان يغيّر القلوب، ويقود بالقدوة العملية، ويقرّب الحقائق السماوية بأمثلة بسيطة، ويربّي بصبر وحكمة، ويشفي براحته وغفرانه. نحن كتلاميذه مدعوون أن نتعلّم منه يوميًا، وأن نسمح لكلماته أن تعمل فينا أولًا قبل أن ننقلها للآخرين.
التعليم المسيحي ليس مجرد كلمات نلقيها في أذن السامعين، بل حياة نشهد بها في بيوتنا، وخدمتنا، وعلاقاتنا. والمسيح المعلّم يسير معنا اليوم كما سار مع تلميذي عمواس، يفتح أذهاننا لفهم الكتب ويقودنا لنرى وجهه. فلنطلب منه أن يجعلنا تلاميذ أمناء نتعلّم منه باستمرار، وخدامًا حقيقيين نقتدي بقدوته، حتى نكون نحن أيضًا شهودًا أحياء للتعليم الذي يحرّر ويشفي ويقود إلى الحياة الأبدية. المسيح المعلّم الصالح نتعلم منه ونتمثل به. يسوع المسيح هو المعلّم الصالح، وفيه النصيب الصالح، فنتعلم منه ونتغير. المعلّم الصالح يحرّر ويغيّر، ونحن كتلاميذه مدعوون أن نكون أدوات تغيير في مصر اليوم: في البيت، المدرسة، الكنيسة، والعمل، والمجتمع.
إن صورة المسيح المعلّم الصالح، حين تُقرأ في ضوء التحديات التربوية والثقافية في مصر، تكشف عن إمكانات تربوية–لاهوتية عميقة. فهي تدعو إلى استعادة سلطان المعلم كمرجعيّة أخلاقيّة، وتفعيل التعليم بالقدوة، وتبسيط الرسالة مع عمقها، وتحويل التعليم إلى مسيرة تغيير، وجعله مجالًا للاحتواء والشفاء. في هذا الإطار، يصبح التعليم المسيحي ليس فقط مجالًا داخليًا للكنيسة، بل طاقة تغييرية تسهم في تجديد المجتمع المصري بأسره، عبر أجيال جديدة تحمل قيم المسيح في القول والفعل.