آراء و أقلام إنجيلية

المواطنة والانتماء الوطني في المسيحيّة

  • بقلم: د.ق. نصرالله زكريا

الانتماء الوطني والولاء الوطني والحقوق والواجبات، وهو ما يُطلق عليه "المواطنة"، هو جوهر العقد الاجتماعي بين المواطن والدولة، والذي بموجبه يتمتع المواطن بحقوق وحريات قانونيّة وسياسيّة واقتصاديّة وثقافيّة، مقابل أن يؤدِّي إلتزامات عديدة، من بينها: أداء الضرائب المقرَّرة، والخضوع للقانون، وإحترام حقوق وحريات الأفراد، والعمل بجد وإجتهاد للإرتقاء بأحوال الوطن دون إعتبار للإختلاف في الجنس أو اللون أو العرق أو النوع أو المكانة الإجتماعيّة.
وفي حين يعتقد البعض أنَّ قضيّة المواطنة هي قضيّة سياسيّة بحتة، أو أنَّها قضيّة إنسانيّة لا علاقة لها بالنظريات اللاهوتيّة ولا بالدراسات الكتابيّة، يؤكِّد الكتاب المقدس في أكثر من جزءٍ منه على أنَّ قضيّة المواطنة والتي هي عامل أساسي في تدعيم الإنتماء الوطني لها أبعادها الكتابيّة، وأَّن اضطلاع المواطن بمسؤولياته وواجباته تجاه وطنه هو جزءٌ لا يتجزأ من مسؤوليات الإنسان المسيحي عامة، والمؤمن بصفة خاصة.
الانتماء الوطني وعلاقة الإنسان بكلٍ من الوطن والدولة
إنَّ الانتماء الوطني هو العلاقة التي تربط الإنسان بوطنه، (الأرض والمجتمع)، هذا الارتباط يُشكِل هُوُيّة الفرد والجماعة، مستندًا على التاريخ الجمعي والإنساني والحضاري للمجتمع، مرورًا بالحالة والظروف الراهنة، حيث يعتبر الفرد عضوًا فاعلًا متفاعلًا في مجتمعه، وصولًا لمستقبل أفضل يشارك المواطن في صنعه، وبينما تؤكد المواطنة على علاقة المواطن بوطنه، فإنها تؤكد في الوقت ذاته على الإختلاف بين الوطن والدولة، فالدولة تشير إلى الأجهزة العاملة في الوطن، التي تديره وتعمل لصالحه، ومن هنا قد يختلف أو يتفق الإنسان مع الدولة وسياستها، فقد يكون مؤيدًا لنظام الدولة أو معارضًا له، لكنه يبقى في كلتا الحالتين مواطنًا، له حقوقه وامتيازاته، وعليه واجبات ومسؤوليات المواطنة.
والمواطنة والتي مثلما ذكرت تدعم الإنتماء الوطني فهي تطبع في المواطن صفات مجتمعيّة وإنسانيّة وليدة الأرض والجماعة، وهي تتجاوز الطوائف والملل والطبقات الاجتماعيّة والفئويّة كما تتجاوز مفهوم الأقليّة بتداعياته المختلفة.
إنَّ المواطنة تعبير عن التفاعل الحقيقي بين المواطن –الإنسان- وبين الدولة التي يعيش على أرضها، بما يمثل العقد بين الإثنين، وتتضمن هذه العلاقة في أحد جانبيها الحقوق التي يجب أن يتمتع بها المواطن، مثل حريّة الاعتقاد، وحريّة الفكر والتعبير، وحريّة الرأي، وشرعيّة الاختلاف، واحترام الآخر، وفي المقابل مجموعة من الواجبات التي عليه أن يقدمها للوطن، مثل الضرائب، والخدمة في القوات المسلحة، والإلتزام بالقوانين التي تفرضها الدولة ويشرعها ممثلو الشعب في البرلمان، بالإضافة للمشاركة في النقد البنَّاء، وتحسين الحياة السياسيّة والمدنيّة.
وعندما تختل العلاقة التي تربط المواطن بالدولة التي يعيش فيها، بحيث يشعر بالغبن والظلم، أو القهر والقمع وغيرها، في منحى من مناحي الحياة التي تنظمها الدولة، فقد تنتابه مشاعر السلبيّة أو الاغتراب وقد يشعر بعدم الرضا، وهكذا يضعف شعوره بالإنتماء لوطنه أو الولاء له. يذكر الكتاب المقدس مثل هذه المشاعر التي عانى منها الشعب المسبي في بابل، حتى أنه توقف عن حالة الفرح والبهجة والشعور بالرضى: "عَلَى أَنْهَارِ بَابِلَ هُنَاكَ جَلَسْنَا. بَكَيْنَا أَيْضًا عِنْدَ مَا تَذَكَّرْنَا صِهْيَوْنَ. عَلَى الصَّفْصَافِ فِي وَسَطِهَا عَلَّقْنَا أَعْوَادَنَا. لأَنَّهُ هُنَاكَ سَأَلَنَا الَّذِينَ سَبُونَا كَلاَمَ تَرْنِيمَةٍ وَمُعَذِّبُونَا سَأَلُونَا فَرَحًا: رَنِّمُوا لَنَا مِنْ تَرْنِيمَاتِ صِهْيَوْنَ. كَيْفَ نُرَنِّمُ تَرْنِيمَةَ الرَّبِّ فِي أَرْضٍ غَرِيبَةٍ؟ إِنْ نَسِيتُكِ يَا أُورُشَلِيمُ تَنْسَى يَمِينِي. لِيَلْتَصِقْ لِسَانِي بِحَنَكِي إِنْ لَمْ أَذْكُرْكِ! إِنْ لَمْ أُفَضِّلْ أُورُشَلِيمَ عَلَى أَعْظَمِ فَرَحِي!" (مزمور 137: 1-6).
لم يرضَ الله عن هذا الشعور، الذي عاشه الشعب المسبي، وجاءت نبوة إرميا تصحيحًا لتلك المفاهيم الخاطئة، وتأكيدًا على أهميّة العلاقة التفاعليّة بين الإنسان والدولة التي يحيا على أرضها، حتى وإن لم تكن وطنه الذي إليه ينتمي بالميلاد، يقول الكتاب المقدس، بلسان الله: " هَكَذَا قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ إِلَهُ إِسْرَائِيلَ لِكُلِّ السَّبْيِ الَّذِي سَبَيْتُهُ مِنْ أُورُشَلِيمَ إِلَى بَابِلَ. اِبْنُوا بُيُوتًا وَاسْكُنُوا وَاغْرِسُوا جَنَّاتٍ وَكُلُوا ثَمَرَهَا. خُذُوا نِسَاءً وَلِدُوا بَنِينَ وَبَنَاتٍ وَخُذُوا لِبَنِيكُمْ نِسَاءً وَأَعْطُوا بَنَاتِكُمْ لِرِجَالٍ فَيَلِدْنَ بَنِينَ وَبَنَاتٍ وَاكْثُرُوا هُنَاكَ وَلاَ تَقِلُّوا. وَاطْلُبُوا سَلاَمَ الْمَدِينَةِ الَّتِي سَبَيْتُكُمْ إِلَيْهَا وَصَلُّوا لأَجْلِهَا إِلَى الرَّبِّ لأَنَّهُ بِسَلاَمِهَا يَكُونُ لَكُمْ سَلاَمٌ" (إرميا 29: 4-7).
إنَّ المواطنة تعني هنا الإنتماء ودعوة إلهيّة ترتبط بالمكان، والمجتمع، والدولة التي نحيا على أرضها، ولقد أظهر المسيح إيجابيّة ونموذجًا يُحتذى، في تأكيد نموذج المواطن الفاعل لأجل وطنه، فقد تعامل مع جميع أفراد وطبقات المجتمع بمساواة حقيقيّة، مدركًا أن المساواة وعدم التمييز بين أفراد المجتمع هي لب وجوهر الإنتماء و المواطنة، كما كان يجول يصنع خيرًا، يُشبع الجوعى، ويشفي المرضى ويرد الحياة للموتى، ويدعو الجميع للحياة الأفضل، ومن جهة أخرى كان يؤدي ما عليه من واجبات فقدم الضريبة عن نفسه وشجع تلاميذه أن يفعلوا كذلك (متى 17: 24-27)، حتى في مقولته الشهير والتي مازالت أصداءها تتردد حتى اليوم، حينما سئل عن الموقف من تقديم الضرائب لقيصر، قال:" أَعْطُوا مَا لِقَيْصَرَ لِقَيْصَرَ وَمَا لِلَّهِ لِلَّهِ" (مرقس 12: 17). وعلى نهج المسيح سار التلاميذ والرسل، فأكدَّ الرسول بولس على المساواة الكاملة بين الجميع، فلا فرق بين رجل وإمرأة، بين عبد وحر، بين جنس وآخر، هذه المساواة التي هي أساس المواطنة، ولقد أدرك بولس أن سيادة القانون والمساواة في تطبيقه على جميع أفراد المجتمع هي جزء لا يتجزأ من تفعيل المواطنة الحقة، ويذكر لنا سفر أعمال الرسل كيف كان بولس يدرك حقوقه كمواطن روماني ويتمسك ويُطالب القيادات بتحقيقها، فذات مرة كان بولس وصديقه سيلا يبشران شعب مدينة فيلبي بالخلاص الذي في المسيح، وبعد أن أجريا معجزة ثارت حفيظة البعض، فألقيَّ القبض عليه هو وزميله، وبدون محاكمة أصدر أمر بسجنهما وتعذيبهما في السجن، ولما صار النهار أرسل الولاة ليخرجا بولس وسيلا من سجنهما، وهنا قال بولس: «ضَرَبُونَا جَهْرًا غَيْرَ مَقْضِيٍّ عَلَيْنَا وَنَحْنُ رَجُلاَنِ رُومَانِيَّانِ وَأَلْقَوْنَا فِي السِّجْنِ أَفَالآنَ يَطْرُدُونَنَا سِرًّا؟ كَلاَّ! بَلْ لِيَأْتُوا هُمْ أَنْفُسُهُمْ وَيُخْرِجُونَا». فَأَخْبَرَ الْجَلاَّدُونَ الْوُلاَةَ بِهَذَا الْكَلاَمِ فَاخْتَشَوْا لَمَّا سَمِعُوا أَنَّهُمَا رُومَانِيَّانِ. فَجَاءُوا وَتَضَرَّعُوا إِلَيْهِمَا وَأَخْرَجُوهُمَا" (أعمال 16: 37-39).
ومرة أخرى حينما هيَّج بعض المغرضين الشعب في أورشليم ضد بولس وقُبض عليه وحاولوا قتله، وإذ وصل الخبر للقائد العسكري في المدينة، أمر فجاءوا ببولس قدَّامه، وأثناء محاكمة بولس وتقديم دفاعه عن نفسه، "وَإِذْ كَانُوا (المغرضين) يَصِيحُونَ وَيَطْرَحُونَ ثِيَابَهُمْ وَيَرْمُونَ غُبَارًا إِلَى الْجَوِّ. أَمَرَ الأَمِيرُ أَنْ يُذْهَبَ بِهِ إِلَى الْمُعَسْكَرِ قَائِلًا أَنْ يُفْحَصَ بِضَرَبَاتٍ لِيَعْلَمَ لأَيِّ سَبَبٍ كَانُوا يَصْرُخُونَ عَلَيْهِ هَكَذَا. فَلَمَّا مَدُّوهُ لِلسِّيَاطِ قَالَ بُولُسُ لِقَائِدِ الْمِئَةِ الْوَاقِفِ: «أَيَجُوزُ لَكُمْ أَنْ تَجْلِدُوا إِنْسَانًا رُومَانِيًّا غَيْرَ مَقْضِيٍّ عَلَيْهِ؟» (أعمال 22: 23-25).
المواطنة واحترام وتوقير السلطات الحاكمة
نرى الرسول بولس في مواقف عديدة يؤكِّد على أهميّة احترام السلطات والخضوع للرياسات والسلاطين معتبرًا أنهم خدَّامٌ لله، ويوصي المواطن إذا أراد ألا يتعرض لعقاب السلطات، أن يُظهر صلاحه بفعل الصلاح، إذا يقول: " لِتَخْضَعْ كُلُّ نَفْسٍ لِلسَّلاَطِين الْفَائِقَةِ لأَنَّهُ لَيْسَ سُلْطَانٌ إِلاَّ مِنَ اللهِ وَالسَّلاَطِينُ الْكَائِنَةُ هِيَ مُرَتَّبَةٌ مِنَ اللهِ. حَتَّى إِنَّ مَنْ يُقَاوِمُ السُّلْطَانَ يُقَاوِمُ تَرْتِيبَ اللهِ وَالْمُقَاوِمُونَ سَيَأْخُذُونَ لأَنْفُسِهِمْ دَيْنُونَةً. فَإِنَّ الْحُكَّامَ لَيْسُوا خَوْفًا لِلأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ بَلْ لِلشِّرِّيرَةِ. أَفَتُرِيدُ أَنْ لاَ تَخَافَ السُّلْطَانَ؟ افْعَلِ الصَّلاَحَ فَيَكُونَ لَكَ مَدْحٌ مِنْهُ. لأَنَّهُ خَادِمُ اللهِ لِلصَّلاَحِ! وَلَكِنْ إِنْ فَعَلْتَ الشَّرَّ فَخَفْ لأَنَّهُ لاَ يَحْمِلُ السَّيْفَ عَبَثًا إِذْ هُوَ خَادِمُ اللهِ مُنْتَقِمٌ لِلْغَضَبِ مِنَ الَّذِي يَفْعَلُ الشَّرَّ. لِذَلِكَ يَلْزَمُ أَنْ يُخْضَعَ لَهُ لَيْسَ بِسَبَبِ الْغَضَبِ فَقَطْ بَلْ أَيْضًا بِسَبَبِ الضَّمِيرِ. فَإِنَّكُمْ لأَجْلِ هَذَا تُوفُونَ الْجِزْيّة أَيْضًا إِذْ هُمْ خُدَّامُ اللهِ مُواظِبُونَ عَلَى ذَلِكَ بِعَيْنِهِ. فَأَعْطُوا الْجَمِيعَ حُقُوقَهُمُ: الْجِزْيّة لِمَنْ لَهُ الْجِزْيّة. الْجِبَايّة لِمَنْ لَهُ الْجِبَايّة. وَالْخَوْفَ لِمَنْ لَهُ الْخَوْفُ. وَالإِكْرَامَ لِمَنْ لَهُ الإِكْرَامُ" (روميّة 13: 1-7). كان الرسول بولس يُدرك حقوقه كمواطن ويتمسك بها، ويُطالب السلطات باحترامها، وفي ذات الوقت كان يُدرك ما عليه من مسؤوليات المواطنة ويُشجع مستمعيه على الالتزام بها.
إن من يحاول أن يضع فاصلًا بين الحياة المسيحيّة والإنتماء أو بين المسيحي والالتزامات التي يفرضها عليه انتماؤه لوطنه، بل إنَّ من يحاول الفصل بين الانتماء لله والانتماء للوطن والمجتمع، يبتعد عن الفهم الصحيح للكتاب المقدس، لأنَّ الانتماء الحقيقي لله، والحياة المسيحيّة الحقة، تظهر في المواطنة الصالحة وفي السلوك اليومي للإنسان المسيحي.