آراء و أقلام إنجيلية

الإنتماء .. حجر أساس الحياة

  • بقلم: ق. رفعت طنيوس بدروس

سؤال اطرحه على القارئ الكريم.. ولا سيما شبابنا الواعد. كيف تفكر لحياتك ومستقبلك؟ في ظل المتغيرات الحياتية اليومية. فأن رتم الحياة ازداد سرعة؛ والمتغيرات أكثر تعقيد. فكل ثانية هناك متغير ما في شئون الحياة. والمتطلبات أكبر من التوقعات. والمواقف والاحداث تجعل هناك حيرة وارتباك في التفكير.. وهنا يجد الشاب نفسه في مفترق طرق وعليه أن يختار أيهما يفضل الرفاهية أم الهوية؟
هذا ليس بجديد في الحياة. نعم ليس بجديد. فهناك شباب في سن صغير عصفت بهم ظروف الحياة وقسوة الأحداث. وبين ليلة وضحاها وجدوا أنفسهم في وضع يختلف تمامًا عما كانوا عليه بالأمس القريب، وكان عليهم تعلم لغة جديدة وتقاليد جديدة ...الخ, لكي تتضح الصورة دعني أضع أمامك بعض الشخصيات التي نتعلم من تجاربهم دروس عظيمة ونرى أيضا كيف أنهم اختاروا... الرفاهية أم الهوية؟
ففي الشخصيات التي ورد ذكرها في الكتاب المقدس نقرأ عن
- يوسف بن يعقوب (تك 37)
- دانيال ورفقائه ( دا1-6)
- نحميا (نح1)
وإن تطرقنا إلى بعض الشخصيات المعاصرة بيننا فأننا نجد السير مجدي يعقوب، والدكتور أحمد زويل، وغيرهما الكثير ممن يذكرهم لنا التاريخ. وكيف عصفت بهم بدايات الحياة. نعم فأن جميعهم ضاقت عليهم الحياة في مقتبل العمر، ومروا بظروف في غاية الصعوبة ..على مستوى الشخصيات الكتابية التي ورد ذكرها في الكتاب المقدس مثل يوسف أبن يعقوب فقد بيع كعبد، ومَن الشخصيات المعاصرة منهم من لم يستطع أن يُكمل دراساته العلمية في وطنه.
لكن المدهش والمعجزي في تلك الظاهرة الرائعة أن جميعهم نجحوا بل صاروا علامة في المجتمعات والعصور التي عاشوا فيها، وحظوا برفاهية ورغد المعيشة بحق. كل في موقعه وفي زمانه
ولكن هل الرفاهية التي وصلوا إليها وعاشوها أنستهم من أين هم؟ أو بمعنى أخر هل رفاهية الحياة أنستهم هوية الوطن؟! لا .. بل أن وطنهم بظروفه القاسية كان يعيش فيهم في رفاهية غربتهم. فقط هم تمموا الوصية إذ عاشوا بأمانة وكفاح في المجتمع الغريب. لأنهم تذكروا كلمات الرب " وَاطْلُبُوا سَلاَمَ الْمَدِينَةِ الَّتِي سَبَيْتُكُمْ إِلَيْهَا، وَصَلُّوا لأَجْلِهَا إِلَى الرَّبِّ، لأَنَّهُ بِسَلاَمِهَا يَكُونُ لَكُمْ سَلاَمٌ"(إر29: 7). لذلك نجحوا. بل تفوقوا وصاروا من صفوة المجتمع. ورغم هذا نجد أن وطن (هوية) كل منهم في داخله. وكأنه يقول مع المرنم " إِنْ نَسِيتُكِ يَا أُورُشَلِيمُ، تَنْسَى يَمِينِي"(مز137: 5). فلكل منهم أورشاليمه الخاصة.
فيوسف الرجل الثاني في المملكة بعد فرعون لم ينس أنه عبراني من أرض كنعان؛ رغم رفاهية الحياة التي كان يتمتع بها في أرض مصر، وهذا نراه في تعاملاته مع أخوته وأبيه، وكيف أنه أهتم بتواجدهم معه في مصر حيث وفرة موارد الحياة في ذلك الوقت، وفي لغة الانتماء الشديد يقول: "فَالآنَ لاَ تَخَافُوا. أَنَا أَعُولُكُمْ وَأَوْلاَدَكُمْ. فَعَزَّاهُمْ وَطَيَّبَ قُلُوبَهُمْ" (تك50: 21).
وهكذا دانيال ورفقائه لم ينكروا هويتهم وتمسكوا بحياتهم الروحية فكانت لهم المكانة العالية والسامية في مملكة الكلدانيين"حِينَئِذٍ قَدَّمَ الْمَلِكُ شَدْرَخَ وَمِيشَخَ وَعَبْدَنَغُوَ فِي وِلاَيَةِ بَابِلَ" (دا3: 30). وعن دانيال نقرأ " فَفَاقَ دَانِيآلُ هذَا عَلَى الْوُزَرَاءِ وَالْمَرَازِبَةِ، لأَنَّ فِيهِ رُوحًا فَاضِلَةً. وَفَكَّرَ الْمَلِكُ فِي أَنْ يُوَلِّيَهُ عَلَى الْمَمْلَكَةِ كُلِّهَا"(دا6: 3).
وأيضًا نحميا ساقي الملك؛ يا لها من وظيفة محفوفة بالمخاطر والكرامة الغير عادية في ذلك الوقت، فهو مؤتمن على حياة الملك. ومع ذلك لم ينس أخوته ولا أورشليم مدينة أبائه. فنقرأ " أَنَّهُ جَاءَ حَنَانِي، وَاحِدٌ مِنْ إِخْوَتِي، هُوَ وَرِجَالٌ مِنْ يَهُوذَا، فَسَأَلْتُهُمْ عَنِ الْيَهُودِ الَّذِينَ نَجَوْا، الَّذِينَ بَقُوا مِنَ السَّبْيِ، وَعَنْ أُورُشَلِيمَ"(نح1: 2). ومن ثم فأننا نرى كل تلك الشخصيات وقد تجاوزوا صعوبات البدايات، ونجحوا وأصبحوا قامات في المجتمع. إلا أنهم جميعًا لم ينسوا هويتهم أى وطنهم. وهذا يأتي بنا إلي الرواد المعاصرين الملهمين لنا بقيمة الهوية، وهم كثيرين جدًا جدًا، ولضيق المساحة نذكر بكل فخر الراحل الدكتور احمد زويل الحائز على جائزة نوبل. كيف سمت هويته على رفاهيته. نعم عاش الرفاهية العلمية والحياتية بكل ما تعني الكلمة، فُتحت له كل الأبواب والمعامل فأبدع وصال وجال في مجال علمه، إلا أنه لم ينس أنه مصري، وقد شرب من نيل مصر الغالية، لذا عندما أراد العمل الجاد أتي إلى وطنه مصر ليؤسس جامعته.
ونختم حديثنا بالسير مجدي يعقوب أو كما يحلو لي أن اناديه (مجدي قلوب) فأنا واحد من بين الذين خضعوا لمشرطه بأسوان، أسأل عنه في كل دول العالم، لقد كُرم في كل بلد زارها، ومُنح أعلى الأوسمة والقلائد والجوائز، ويعيش رفاهية الحياة أينما يوجد. إلا أنه لم ينس أنه مصري. فأتي وقلبه مفتوح لقلوب المصريين الموجوعة والمتألمة، فتح قلبه بالحب والعمل المجاني.
هذا هو الانتماء أي (الهوية). فمن أنت؟ ما هي جنسيتك؟ وهل تعتز بهويتك؟ وتطلب سلامة وطنك؟ من كل قلبك بعملك الجاد والأمين في مجالك لرفعة شأن بلدك؟ فالوطن لا يقدر بكنوز الدنيا كلها. فالإنتماء يا صديقي.. كما وضح لنا من خلال المرور على مواقف هذه الشخصيات التي ذكرناها؛ ليس بنوع الحياة وكيفيتها. بل بالهدف منها والعمل من أجله. فنجد أن الإنتماء أنساهم مصاعب البدايات في أوطانهم. فكرسوا مجهوداتهم لرفعة شأن وطنهم والمساهمة الجادة في حل مشاكله.
القارئ الكريم.. أن كنت تريد معرفة ماذا يعني الانتماء(الهوية) في حياة الأفراد. ادعوك أن تقرأ معي هذه الكلمات "بِالإِيمَانِ مُوسَى لَمَّا كَبِرَ أَبَى أَنْ يُدْعَى ابْنَ ابْنَةِ فِرْعَوْنَ، مُفَضِّلاً بِالأَحْرَى أَنْ يُذَلَّ مَعَ شَعْبِ اللهِ عَلَى أَنْ يَكُونَ لَهُ تَمَتُّعٌ وَقْتِيٌّ بِالْخَطِيَّةِ،"(عب11: 24-25). فهو فضل الأتعاب في هويته على الانتساب المزيف، وحياة رفاهية الخطية (الوثنية)، فأصبح رجل الله (كليم الله) في الشعب.
الإنتماء يعني حجر الأساس في الحياة، سواء العالمية أو الروحية، وبدون إنتماء يكون التيه والفرقة، فعند زيارتك أي مدينة أو أي دولة يكون السؤال المباشر. حضرتك منين؟ والمقصود مكان اقامتك؛ المكان الذي تنتمي إليه. وهذا مهم جدًا للسائل لكي يتعامل معك. حسب ثقافتك وعاداتك وتقاليد مجتمعك. أو لكي يخبرك بما يجب عليك أن تفعله بحسب متطلبات المجتمع الذي صرت فيه.