الجهاد المسيحي
10/2/2023 12:00:00 AM
يتحدّث الكتاب المقدس عن «الْجِهَادَ الْحَسَنَ» (2تي4: 7)، وعن هذا الجهاد يوصي الرسول بولس تلميذه تيموثاوس: «جَاهِدْ جِهَادَ الإِيمَانِ الْحَسَنَ» (1تي6: 12). أو بمعنى آخر ”جَاهِدْ في الإِيمَانِ الجِهَاد الْحَسَنَ“. ومن هنا نفهم أنه يوجد جهاد غير حسن، إذا كان هذا الجهاد ليس في الإيمان المسيحي الصحيح.
وكلمة ”الْجِهَاد“ ومشتقاتها وردت في العهد الجديد حوالي 24 مرة، معظمها في كتابات الرسول بولس، الذي يُمكننا بحق أن نُسميه: ”رَسُولُ الْجِهَاد الْحَسَن“. ألم يقل في نهاية حياته: «قَدْ جَاهَدْتُ الْجِهَادَ الْحَسَنَ» (2تي4: 7).
وكلمة ”الْجِهَاد“ تأتي بمعنيين:
المعنى الأول: السباق الذي يستلزم التعب والعرق وبذل الجُهد. وهي نفس الكلمة التي قيلت عن الرب يسوع في بستان جثسيماني «وَإِذْ كَانَ فِي جِهَادٍ كَانَ يُصَلِّي بِأَشَدِّ لَجَاجَةٍ، وَصَارَ عَرَقُهُ كَقَطَرَاتِ دَمٍ نَازِلَةٍ عَلَى الأَرْضِ» (لو22: 44).
المعنى الثاني: المصارعة، وهي نفس الكلمة التي قيلت عن يعقوب «فَبَقِيَ يَعْقُوبُ وَحْدَهُ. وَصَارَعَهُ إِنْسَانٌ حَتَّى طُلُوعِ الْفَجْرِ» (تك32: 24)، وأيضًا «فِي الْبَطْنِ قَبَضَ بِعَقِبِ أَخِيهِ، وَبِقُوَّتِهِ جَاهَدَ مَعَ اللَّهِ. جَاهَدَ مَعَ الْمَلاَكِ وَغَلَبَ» (هو12: 3، 4).
ومن هنا نفهم أن ”الْجِهَاد“ أوسع من الحرب الروحية مع الأعداء الروحيين؛ العالم والجسد والشيطان، إذ هو يشمل كل أجزاء الحياة الروحية وتفصيلاتها الدقيقة. وهو عملية مستمرة كل يوم وكل اليوم، ولا يُستثنى منها مؤمن بالفرد، وفي مرات كثيرة تتطلب الأمور الجهاد الروحي الجماعي. وإليك بعض الأمثلة على الجهاد:
(1) جهاد جماعي لأجل إيمان الإنجيل «تَثْبُتُونَ ... مُجَاهِدِينَ مَع بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ لإِيمَانِ الإِنْجِيلِ» (في1: 27).
(2) جهاد جماعي لأجل خدمة الإنجيل «أَفُودِيَةَ ... وَسِنْتِيخِي ... جَاهَدَتَا مَعِي فِي الإِنْجِيلِ» (في4: 3)
(3) جهاد جماعي في الصلاة لأجل خدمة الرسول بولس «فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ، بِرَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، وَبِمَحَبَّةِ الرُّوحِ، أَنْ تُجَاهِدُوا مَعِي فِي الصَّلَوَاتِ مِنْ أَجْلِي إِلَى اللهِ» (رو15: 30).
(4) جهاد فردي في الصلاة «أَبَفْرَاسُ ... عَبْدٌ لِلْمَسِيحِ، مُجَاهِدٌ كُلَّ حِينٍ لأَجْلِكُمْ بِالصَّلَوَاتِ» (كو4: 12).
(5) الرب يسوع المسيح باعتباره الإنسان الكامل «إِذْ كَانَ فِي جِهَادٍ كَانَ يُصَلِّي بِأَشَدِّ لَجَاجَةٍ» (لو22: 44).
وهكذا يُعلّمنا الكتاب المقدس أنه يوجد جهاد في المسيحية، لكنه جهاد روحي يشمل الحياة الروحية بكل مجالاتها. وهذا الجهاد يمكن أن يكون فرديًا أو جماعيًا. والجهاد الروحي المسيحي يتطلب عدة شروط يجب توافرها في كل من يجاهد ”جِهَادَ الإِيمَانِ الْحَسَنَ“ نذكر بعضها:
(1) يلزم على المجاهد في السباق أن يتخفَّف من كل ما يعوقه ويُعطّله في الركض والسعي «لِنَطْرَحْ كُلَّ ثِقْلٍ وَالْخَطِيَّةَ الْمُحِيطَةَ بِنَا بِسُهُولَةٍ، وَلْنُحَاضِرْ بِالصَّبْرِ فِي الْجِهَادِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَنَا» (عب12: 1). قد تكون المعطلات أمورًا ليست في حد ذاتها خطية «كُلَّ ثِقْلٍ»، وقد تكون أيضًا «ْخَطِيَّة».
(2) يلزم التحلي بالصبر والاستمرارية في الجهاد المُقرَّر علينا «وَلْنُحَاضِرْ بِالصَّبْرِ فِي الْجِهَادِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَنَا» (عب12: 1).
(3) يلزم في السباق تثبيت النظر على الرئيس القائد لمسيرة الإيمان الذي بدأ مشوار الإيمان وأكمله تمامًا «نَاظِرِينَ إِلَى رَئِيسِ الإِيمَانِ وَمُكَمِّلِهِ يَسُوعَ، الَّذِي مِنْ أَجْلِ السُّرُورِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَهُ احْتَمَلَ الصَّلِيبَ مُسْتَهِيناً بِالْخِزْيِ، فَجَلَسَ فِي يَمِينِ عَرْشِ اللهِ» (عب12: 2).
(4) يلزم أن يكون هذا السباق قانونيًا؛ أي محكوم بقوانين وتعليمات تحدِّدها فقط كلمة الله المقدَّسة «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يُجَاهِدُ، لاَ يُكَلَّلُ إِنْ لَمْ يُجَاهِدْ قَانُونِيًّا» (2تي2: 5). إن الخدمة تحتاج إلى بذل الجهد مع الأمانة والتكريس، والالتزام بوصايا وتحريضات كلمة الله المُلزِمة للمؤمن في حياته الروحية جملة وتفصيلاً.
(5) يلزم أن يتحلى المؤمن المُجاهد بضبط النفس في كل شيء «وَكُلُّ مَنْ يُجَاهِدُ يَضْبِطُ نَفْسَهُ فِي كُلِّ شَيْءٍ» (1كو9: 25). «كُلُّ الأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي، لَكِنْ لَيْسَ كُلُّ الأَشْيَاءِ تُوافِقُ. كُلُّ الأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي، لَكِنْ لاَ يَتَسَلَّطُ عَلَيَّ شَيْءٌ»، «كُلُّ الأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي، وَلَكِنْ لَيْسَ كُلُّ الأَشْيَاءِ تَبْنِي» (1كو6: 12؛ 10: 23).
(6) يلزم أن يكون للمجاهد غرض وهدف يستمر في الركض من أجله «ارْكُضُوا لِكَيْ تَنَالُوا ... أَمَّا أُولَئِكَ فَلِكَيْ يَأْخُذُوا إِكْلِيلاً يَفْنَى وَأَمَّا نَحْنُ فَإِكْلِيلاً لاَ يَفْنَى. إِذًا أَنَا أَرْكُضُ هَكَذَا كَأَنَّهُ لَيْسَ عَنْ غَيْرِ يَقِينٍ. هَكَذَا أُضَارِبُ (أصارع – أجاهد – أحارب) كَأَنِّي لاَ أَضْرِبُ الْهَوَاءَ» (1كو9: 24-26). «أَيُّهَا الإِخْوَةُ، أَنَا لَسْتُ أَحْسِبُ نَفْسِي أَنِّي قَدْ أَدْرَكْتُ. وَلَكِنِّي أَفْعَلُ شَيْئًا وَاحِدًا: إِذْ أَنَا أَنْسَى مَا هُوَ وَرَاءُ وَأَمْتَدُّ إِلَى مَا هُوَ قُدَّامُ. أَسْعَى نَحْوَ الْغَرَضِ لأَجْلِ جَعَالَةِ دَعْوَةِ اللهِ الْعُلْيَا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ» (في3: 13، 14).
(7) يلزم على المجاهد أن يعيش حياة القداسة العملية، وأن يُقمع جسده ويستعبده، وإذ لم يسلك هكذا سيكون مرفوضًا؛ أي غير مؤمن بالمرة. فالمؤمن الحقيقي لا يعيش كما يحلو له، أو كما يقوده الجسد الفاسد الذي فيه (1كو9: 17).
وأخيرًا نقول إن حياة الجهاد الروحي الصحيح هي حياة الملء والبركة الفائضة للشخص، والمؤثرة على الآخرين، والتي لها المكافآت أمام كرسي المسيح، كما قال الرسول بولس: «قَدْ جَاهَدْتُ الْجِهَادَ الْحَسَنَ، أَكْمَلْتُ السَّعْيَ، حَفِظْتُ الإِيمَانَ، وَأَخِيرًا قَدْ وُضِعَ لِي إِكْلِيلُ الْبِرِّ، الَّذِي يَهَبُهُ لِي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الرَّبُّ الدَّيَّانُ الْعَادِلُ، وَلَيْسَ لِي فَقَطْ، بَلْ لِجَمِيعِ الَّذِينَ يُحِبُّونَ ظُهُورَهُ أَيْضًا» (2تي4: 7، 8). وقال أيضًا مُشجعًا كل مَن يجاهد: «أَلَسْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّ الَّذِينَ يَرْكُضُونَ فِي الْمَيْدَانِ جَمِيعُهُمْ يَرْكُضُونَ وَلَكِنَّ وَاحِدًا يَأْخُذُ الْجَعَالَةَ؟ هَكَذَا ارْكُضُوا لِكَيْ تَنَالُوا ... أَمَّا أُولَئِكَ فَلِكَيْ يَأْخُذُوا إِكْلِيلاً يَفْنَى وَأَمَّا نَحْنُ فَإِكْلِيلاً لاَ يَفْنَى» (1كو9: 24، 25).
فَلْنُثَابِرْ حَتَّى يَنْتَهِي الْجِهَادْ، إِذْ يَجِيءُ الرَّبُّ صَاحِبُ الأَمْجَادْ، بِنَيْلِ الْمُرَادْ، وَيَفْدِي الأَجْسَادْ