آراء و أقلام إنجيلية

الهجرة بين طاقة النور وخيبة الأمل!

  • بقلم: د.ق. مدحت موريس

أنتشرت في الآونة الأخيرة محاولات الهجرة سواء بالطرق المشروعة أو غير المشروعة، بحثًا عن طاقة نور في ظل غلاء المعيشة التي تزداد يومًا بعد يومً، وإن كانت محاولات الهجرة غير المشروعة هي السائدة الآن، وأنا أرصد هذه الظاهرة على أرض الواقع لاحظت عددًا من الكنائس بقرى الصعيد بصفة خاصة خَلَت من الشباب في الشهور الأخيرة، تعالى –عزيزي القارئ- لنتتبع الهجرة من خلال الكتاب المقدس، وأرض الواقع الحالي:
أولاً: الآمان لا يرتبط بمكان
لقد كانت مصر تمثل طاقة النور في القِدَم، فعلى سبيل المثال: كانت مصر طاقة نور لإبراهيم في وقت الجوع: "وَحَدَثَ جُوعٌ فِي الأَرْضِ فَانْحَدَرَ أَبْرَامُ إِلَى مِصْرَ لِيَتَغَرَّبَ هُنَاكَ لأَنَّ الْجُوعَ فِي الأَرْضِ كَانَ شَدِيداً" (تك12: 10)، حتى الكتاب وصف مصر: "كَجَنَّةِ الرَّبِّ كَأَرْضِ مِصْرَ" (تك13: 10)، وفي أيام المجاعة أيام يوسف كان جوع في الأرض "وَأَمَّا جَمِيعُ أَرْضِ مِصْرَ فَكَانَ فِيهَا خُبْزٌ" (تك41: 54)، كذلك قال يعقوب لبنيه:"لِمَاذَا تَنْظُرُونَ بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ؟ إِنِّي قَدْ سَمِعْتُ أَنَّهُ يُوجَدُ قَمْحٌ فِي مِصْرَ. انْزِلُوا إِلَى هُنَاكَ وَاشْتَرُوا لَنَا مِنْ هُنَاكَ لِنَحْيَا وَلاَ نَمُوتَ" (تك42: 1- 2). لقد كانت مصر ملاذًا وملجأً وقت الجوع.
كذلك يحكي لنا الكتاب عن أليمالك ونعمي وولديهما محلون وكليون الذين تغربوا في بلاد موآب، وذل بسبب الجوع "حَدَثَ فِي أَيَّامِ حُكْمِ الْقُضَاةِ أَنَّهُ صَارَ جُوعٌ فِي الأَرْضِ, فَذَهَبَ رَجُلٌ مِنْ بَيْتِ لَحْمِ يَهُوذَا لِيَتَغَرَّبَ فِي بِلاَدِ مُوآبَ هُوَ وَامْرَأَتُهُ وَابْنَاهُ" (را1: 1)، ولكن لم تستمر موآب طاقة نور، فبعد فترة مات أليمالك وابناه، فعادت نعمي إلى بلادها، يقول الكتاب: "فَقَامَتْ هِيَ وَكَنَّتَاهَا وَرَجَعَتْ مِنْ بِلاَدِ مُوآبَ, لأَنَّهَا سَمِعَتْ فِي بِلاَدِ مُوآبَ أَنَّ الرَّبَّ قَدِ افْتَقَدَ شَعْبَهُ لِيُعْطِيَهُمْ خُبْزاً" (را1: 6).
وخلال العقود الثلاث الأخيرة تحولت العراق أيضًا من ملجأ يهاجرون إليه، إلى شبكة يحاولون أن يُخرجوا أرجلهم منها! لقد سافر إلى العراق الكثير من المصريين ودول أخرى كثيرة للعمل بها، ولكن بعد عام 2003 على الأكثر، يحاول الكثيرون أن يهاجرون منها. أليس كذلك؟!
ثانيًا: لا مانع ولكن بشروط
في التعميم تعتيم، ليست كل هجرة خطية! وإني لأتعجب بسبب عدد كبير من الأعمال الفنية التي تسخط على الهجرة بصورة كلية، أذكر من بعض الأفلام: أحلام عمرنا، حالة حب وغيرها الكثير والكثير. هناك أشخاص وإن كانوا قليلين نجحوا خارج بلادهم مثل أحمد زويل، ولكن هناك الكثيرون نجحوا داخل بلادهم مثل: مجدي يعقوب. خلاصة القول: في التعميم تعتيم.
ولكن المهم أن يكون ذلك بطرق مشروعة، لقد نظم القانون الدولي الخاص الهجرة، مركز الأجانب، وغيرها. ولكن ما يحدث على أرض الواقع لَهو كارثة بكل المقاييس، من محاولات هجرة غير شرعية عبر البحر، وفي معظمها باءت بالفشل أو الغرق! أو محاولات هجرة للهروب من العقوبة بسبب جرائم إرهابية خصوصًا ما بعد عام 2013 في مصر، كانت في معظمها إلى قطر وتركيا. كل هذه صور مرفوضة للهجرة.
ثالثًا: النجاح في الداخل ليس مستحيلاً
كم من الأسماء التي يعوزني الوقت لذكرها، ظلوا في بلادهم وحققوا نجاحًا ليس لاسمهم فقط، بل لفائدة البشرية جمعاء. كل هذا يتوقف على الامتلاء بالفكرة والرسالة والاقتناع بها، فالاقتناع يؤول للإبداع!
وهنا أقتبس ما ذكره زكي نجيب محمود في كتابه "قيم من التراث" عن الفرق بين النمل والنحل، فالنمل يأخذ ويُخزِّن، بينما النحل يأخذ ويطوِّر، كما أن كل نملة تعمل نفس الدور، بينما كل نحلة متخصصة في دور كالشغالات والملكة... الخ. وأزعم أن دول العالم الثالث هي "مملكة نمل"، بينما الدول المتقدمة هي "مملكة نحل"! حتى –وبكل أسف- عندما يهاجرون من ينتمون لدول العالم الثالث إلى دول العالم الأول يعيشون بإستراتيجية "مملكة النمل"، ومن النادر جدًا أن يتطورون! والدليل على ذلك تجدهم يرتضون بأعمال لم يرتضوها لأنفسهم في بلادهم يومًا!
هؤلاء يختلقون الأعذار، يسخطون على الواقع وإن كان حديقة وارفة الظلال ووفيرة الثمار تتوسطها شجيرة عوسج! الوقت بالنسبة لهم لا يسعفهم حتى لتناول طعامهم، مع أنه مرتعًا لرقادهم! المعطيات بالنسبة لهم دائمًا ظالمة، وبالتالي فالنتيجة المرجوة مستحيلة، وهو المطلوب إثباته! ينشغلون بإعطاء المبررات ليبقون في راحتهم الوهمية، يستعطون ويتسولون مع أن لديهم الكثير من المهارات والإمكانيات وقادرين على تخطي الأزمات مهما كانت صعوبتها
وهناك أناسٌ صاروا تحديًا للتحدي ذاته، فأفادوا البشرية بإنجازات وُلدت من قلب الأزمة، أذكر على سبيل المثال: توماس أديسون صاحب 1200 براءة اختراع، والذي رفضته المدرسة في بدايات حياته على أنه غبي، وحينما حُرق معمله وجاءه الخبر، قال: "لقد خلصتنا النار من أخطاء كثيرة، حسنًا فلنبدأ من جديد."! كان من المتوقع أن يرثي توماس أديسون حاله بعد هذه الكارثة، لكن حتى رده كان شعاعًا بارقًا في ليل ظلامه دامس! كذلك برايل الكفيف الذي اخترع طريقة برايل لقراءة المكفوفين، قال هذه الكلمات: "يارب أشكرك من أجل موهبة العمى، فساعدني حتى متى جئتَ أرد لك هذه الوزنة مع أرباحها!". وغيرهم من الشخصيات الأخرى التي تركت بصمة واضحة في تاريخ البشرية.
خلاصة القول الآمان لا يرتبط بمكان معين، وكما أن الهجرة متاحة ولكن بشروط، كذلك أيضًا النجاح في الداخل ممكنًا وليس بمستحيل.. المهم: فَكَر وأبدع فتعمل وتنجز وتفيد.