العشاء الرباني بين المفهوم والممارسة
9/11/2023 12:00:00 AM
نجد ما يقوله الكتاب المقدس عن العشاء الرباني في البشائر الأربع (متَّى26:26-29؛ مرقس17:14-25؛ لوقا7:22-22؛ يوحنا21:13-30). ودراسة العشاء الرباني هي فرصة منعشة للنفس بسبب عمق المعنى الذي تحتويه. فقد أسس يسوع المسيح وليمة شركة جديدة وهامة نمارسها حتى اليوم، أثناء الإحتفال بعيد الفصح في عشية صلبه وموته (لوقا15:22). وهي جزء لا يتجزأ من العبادة المسيحية. وتجعلنا نتذكر موت ربنا وقيامته وننتظر عودته المجيدة في المستقبل.
في العشاء الأخير – الذي كان أيضًا إحتفال بعيد الفصح — أخذ يسوع الخبز وشكر الله. ثم كسره وأعطاه لتلاميذه قائلاً: «هَذَا هُوَ جَسَدِي الَّذِي يُبْذَلُ عَنْكُمْ. اِصْنَعُوا هَذَا لِذِكْرِي. وَكَذَلِكَ الْكَأْسَ أَيْضاً بَعْدَ الْعَشَاءِ قَائِلاً: هَذِهِ الْكَأْسُ هِيَ الْعَهْدُ الْجَدِيدُ بِدَمِي الَّذِي يُسْفَكُ عَنْكُمْ» (لوقا19:22و20). ثم ختم الإحتفال بالتسبيح (متَّى30:26) وخرجوا إلى جبل الزيتون في المساء. وهناك تمت خيانة المسيح، حسب النبوات، بواسطة يهوذا (مزمور9:41؛ يوحنا18:13). وفي اليوم التالي صُلِبَ المسيح، ولكنه قام في اليوم الثالث حسب الكُتب (1كورنثوس3:15و 4). وتقول عبارة أخرى كتبها بولس وليست متضمنة في البشائر: «فَإِنَّكُمْ كُلَّمَا أَكَلْتُمْ هَذَا الْخُبْزَ وَشَرِبْتُمْ هَذِهِ الْكَأْسَ تُخْبِرُونَ بِمَوْتِ الرَّبِّ إِلَى أَنْ يَجِيءَ» (1كورنثوس26:11). وهذا يضع حدًا زمنيًا لممارسة هذا الإحتفال – وهو إلى أن يجيء الرب.
ويمكن شرح هذه الفريضة في عدة نقاط مختصرة كالتالي:
أولاً- العشاء الرباني والمُصطلحات الكتابيَّة:
(1) الشركة - (Communion): يطلق الكثير من المؤمنين مصطلح "الشركة" على عشاء الرب استنادًا على أنَّ هذا الاصطلاح قد استخدمه الرسول بولس فقال: «كأس البركة التي نُباركها أليست هي شركة دم المسيح؟ الخُبز الذي نكسره، أليس هو شركة جسد المسيح؟» (1كورنثوس16:10). وقد جاءت هذه الكلمة في اللغة اليونانية في هذا النص (Κοινωνια) وتنطق (كوينونيا) ومعناها الشركة. وهذا يقدم تفسيرًا لمعنى الكلمة فيقول «فإننا نحن الكثيرين خبزٌ واحدٌ، جسدٌ واحدٌ، لأننا جميعنا نشترك في الخبز الواحد.» (1كورنثوس17:10). فإنْ كان الخُبز يرمز إلى جسد الرب، فإنَّ الكأس ترمز إلى دمه الكريم، وكلاهما يُشيران إلى موته كذبيحة كفَّاريَّة لأجل خلاص البشر.
(2) كسر الخُبز: قد جاء مصطلح كسر الخبز في كورنثوس الأولى أيضًا حيث قال: «الخبز الذي نكسره» (1كورنثوس10: 16)، وهو نفس المصطلح الذي وضحه الكتاب قائلاً: «وكانوا يواظبون على تعاليم الرسل والشركة وكسر الخبز والصلوات» (أعمال2: 42). ويقول لوقا الطبيب والمؤرِّخ: «وفي أول الأسبوع إذ كان التلاميذ مجتمعين ليكسروا خُبزًا» (أعمال7:20).
(3) مائدة الرب: قال الرسول بولس: «لا تقدروا أن تشربوا كأس الرب وكأس شياطين. لا تقدرون أن تشتركوا في مائدة الرب وفي مائدة شياطين» (1كورنثوس21:10).
(4) الإفخارستيَّا أو الشكر: فكما نرى في العهد الجديد أن هذا المصطلح يعبر عن الشكر لله، وهو يشمل تقديم الشكر له أثناء تناول عشاء الرب، ويشمل بركة الرب للرغيف وللكأس (راجع متَّى26؛ مرقس14؛ لوقا22)، وقد اقتبسه الرسول بولس فقال: «لأنني تسلمتُ مِن الرب، ما سلمتكم أيضًا: إنَّ الربَّ يسوع في الليلة التي أُسْلِمَ فيها أخذ خُبزًا، وشكر فَكَسَّر، وقال: خذوا كلوا هذا هو جسدي المكسور لأجلكم. اصنعوا هذا لذكري» (1كورنثوس23:11و 24).
(5) عشاء الرب: هو الاسم الأكثر تداولاً، ولهذا يقول الرسول بولس: "فَحين تجتمعون ليس هو لأكل عشاء الرب" (1كورنثوس11: 20). ويرى الدكتور القس صفاء داود في كتاب العبادة المسيحيَّة كتابيًّا صفحة 238 لقد سمي عشاء لسببين: الأوَّل: أن الرب صنعه في وقت " العشية" لذا ورد القول: «وَلَمّا كَانَ الْمَسَاءُ اتَكَأَ مَعَ الاَثْنَي عَشْر» (متى20:26)؛ الثاني: صُنِعَ بعد عشاء الفصح، وبعد أنْ انصرف يهوذا الخائن (متى25:26؛ يوحنا30:13)، لهذا جاء القول: «وَفيِمَا هُم يَأكُلُونَ أَخَذَ يَسُوعُ الْخُبْزَ وَبَارَكَ وَكَسَّر وَأَعْطَى التَلامِيذ وَقَالَ خُذُوا كُلُوا هَذَا هُوَ جَسَديِ .وَأَخَذَ الْكأَسُ وَشَكَرَ وَأَعْطَاهُم قائِلاً: اشْرَبُوا مِنْهَا كُلَكُم» (متى26:26).
وورد في دائرة المعارف الكتابية الجزء الرابع صفحتي 50و 54 "وبعد العصر الرسولي أصبحت خدمة عشاء الرب تعرف باسم "ليتورجيا"(Laitourgia) أي "الخدمة المقدسة" (ومن هنا جاءت كلمة "القداس" في العربية)....وكانت عادة الكنيسة الأولى ممارسة "عشاء الرب" بعد"وليمة الأغابي" (أي وليمة المحبة –Agape )، وهي دلالة قوية على أنَّ تأسيس الفريضة أصلاً تم منفصلاً عن الاحتفال بالفصح.".
ثانيًا- العشاء الرباني ووجهات النظر حوله:
(1) نظـــــريَّة تحوَّل عناصر الأفخارستيَّا: ورد في دائرة المعارف الكتابية الجزء الرابع صفحة 54 "تُعبِّر كنيسة روما - والكنائس التقليدية بعامة- عن تعليمها بشأن "الأفخارستيَّا" بكلمة "التحول" وقد أستخدم هذه الكلمة -لأوَّل مرة- "هيلدبرت من تور "(Hildbert of Tour- في 1134م)." ولهذا تؤمِن الكنائس التقليديَّة: أنَّه أثناء صلاة القُداس الإلهي تتحول العناصر مِن مواد طبيعيَّة (الخبز) إلى جسد حقيقي، (والنبيذ) إلى دم حقيقي، وأنَّ الخُبز والدم هما ذبيحة حقيقيَّة للمسيح لا تُرى بالعين وتُقدَّم كل يوم ويُسمى «القُربان المُقدَّس».
لكن يرى هنري ثيسن في كتابه "مُحاضرات في علم اللاهوت النظامي" صفحة 557 "إنَّ فكره الأكل الفعلي لجسد بشري, وشرب دم الإنسان, هو أمر فظيع للعقل اليهودي وبالتأكيد كان رد فعل اليهود في وقت يسوع عنيفًا تجاه هذه الفكرة و كما أنَّ الفصح ذاته وهو العيد الذي أخذت منه عناصر العشاء هو عيد رمزي لنجاه إسرائيل من عبودية مصر وهكذا تتواءم رمزيه عناصر خدمه العشاء مع رمزيه احتفال الفصح."
وهنا نطرحُ سؤالاً هامًا هل حقًا يتحول الخبز والخمر إلى جسد ودم المسيح في العشاء الرباني؟
وفي هذا يرى الباحث إنَّ الدليل المنطقي والموضوعي ينفي تحول العناصر، وإليك مجموعة مِن الأدلة:
1- المسيح ليس طعامًا ماديًّا يؤكل بالفم، بل طعامًا روحيًّا يُستقبل في النفس «أنا هو خبز الحياة مَنْ يُقبل إليَّ فلا يجوع، ومَنْ يؤمن بي فلا يعطش أبدًا» (يوحنا35:6). وأيضًا يقول المسيح: «لأنَّ جسدي مآكل حق ودمي مشرب حق، مَن يأكل جسدي ويشرب دمي يثبت فيَّ وأنا فيه» (يوحنا 55:6و 56).
2- ليس هناك أكثر مِن مسيح، عندما صنع المسيح العشاء الرباني مع تلاميذه في ليلة الفصح، لا يُمكِّن أن يكون هناك المسيح الذي يُقَدِّم، والمسيح الذي يُقدَّم! بل هو مسيحٌ واحدٌ والحديث رمزيٌّ.
3- الله لا يُناقض نفسه، حيث ينهي الله تمامًا عن أكل الدم حيث جاءت الوصيَّة الكتابيَّة «غير أن لحمًا بحياته دمه لا تأكلوه» (تكوين4:9). وقد ورد في سفر اللاويين التحريض الإلهي: «لا تأكلوا شيئًا مِن الشحم ولا مِن الدم» (لاويين17:3).
4- قال المسيح عن نتاج الكرمة «هذا هو دمي» (متى28:26)، وإطلاق الدم على عصير العنب هو تعبير كتابي «غسل بالخمر لباسه، وبدم العنب ثوبه...ودم العنب شربته خمرًا» (تكوين11:49؛ تثنيَّة14:32).
5- المسيح لم يُعط التلاميذ العشاء الرباني للتكفير عن خطاياهم، بل للتذكار «اصنعوا هذا لذكري» (لوقا19:22).
6- إنَّ عقيدة الاستحالة تخالف شهادته الحواس الطبيعيَّة للإنسان، والتي ترى الخبز لا يزال خُبزًا، ونتاج الكرمة لا يزال عصيرًا!
(2) نظــــريَّة الاتحاد بعناصر الأفخارستيَّا: حيث يقول مارتن لوثر واتباعه أنَّه أثناء الصلاة، يتحد جسد المسيح الحقيقي بعنصر الخُبز، ويتحد دم المسيح الحقيقي بعنصر الكأس بطريقة سريَّة فائقة للطبيعة، حيث يأكل المُتقدِّم جسد المسيح الحقيقي ويشرب دم المسيح الحقيقي أثناء التقدم على المائدة.
ويؤكِّد جون ماك آرثر في كتابه "العقيدة الكتابيَّة" صفحة 943 "وعلى الرغم مِن أنَّ مارتن لوثر رَفَضَ فكرة الاستحالة الكاثوليكيَّة الرومانيَّة، ورفض كون الأفخارستيَّا ذبيحة كفَّارية، لكنه رغم ذلك أكَّد على أنَّ جسد المسيح ودمه يكونان حاضرين بالفعل "في، ومع، وتحت" عُنصري التناول" ثُم يستطرد ماك آرثر في حديثه لينقض هذا الرأي في نفس الفقرة فيقول: "إلاَّ أنَّ إصرار لوثر على "الحضور الفعلي" للمسيح يتجاهل الطبيعة الرمزيَّة لأقوال يسوع."
(3) نظــــريَّة الحضور الروحي على المتقدمين: يؤمن جون كالفن واتباعه أنَّ هناك حضورًا إلهيًّا ملموسًا يحدث بطريقة ما للخبز والكأس ومنها يحدث تغييرًا ملموسًا في حياة الشخص المُتقدِّم مِن خلال قوة روحيَّة خاصة، حيث إنَّ المسيح يحل على الأشخاص وليس على مواد الإفخارستيَّا.
ويؤكِّد واين جرودم في كتابه "بماذا يفكر الإنجيليون في أساسيات الإيمان المسيحي؟- الجزء الثالث" صفحة 133 "إلاَّ أنّ كالفن حرص على أن يُخالف التعليم الكاثوليكي (القائل إنَّ الخُبز أصبح جسد المسيح) والتعليم اللوثري (القائل إنَّ الخُبز احتوى على جسد المسيح) كليهما." ولكنه قال: "يجب أن نوطد حضورًا للمسيح في العشاء بحيث لا يقيده بعنصر الخبز ولا يجعله محتوى في الخبز، كما أنَّه لا يطوقه بأي شكلٍ مِن الأشكال (وجميعها أمور، كما هو واضح، تنقص مِن مجده السماوي)."
(4) النظــــريَّة الرمزيَّة أو وجهة النظر الرمزيَّة: يؤمِن زوينجيلي واتباعه بأنَّ مائدة الرب هي مُجرَّد ذكرى لموت المسيح، ويجب على المُتقدِّم على المائدة أنْ يكون ناضجًا روحيًّا حتى يستطيع أنْ يُشارك في نشر الأخبار السارة بموت المسيح وقيامته ومجيئه الثاني.
ويؤكِّد تشارلز رايري في كتابه "علم اللاهوت الأساسي" صفحة 479 "أنَّ زوينجلي يُعلِّم عشاء الرب مُجرد تذكار. إنَّه تذكارٌ، لكنه أيضًا خدمةٌ يُؤدى فيها حضور المسيح في وسط شعبه إلى إحداث شركة حقيقية."
ويؤيده واين جرودم في نفس المرجع "بماذا يُفكِّر الإنجيليون؟" صفحة 133 "إذا كان المسيح حاضرًا بوجه الخصوص عندما يجتمع المسيحيون للعبادة (متَّى20:18)، فلا بُدَّ أنْ نتوقع أنْ يكون حاضرًا بشكلٍ خاصٍ في عشاء الرب." ولكنه يتساءل: كيف يكون المسيح حاضرًا؟ وفي هذا يجيب فيقول: "لا شَّكَ أنَّ ثمة حضورًا رمزيًّا للمسيح، ولكن هُناك حُضورًا روحيًّا حقيقيًّا وهُناك أيضًا بركة روحيَّة حقيقيَّة في هذا الاحتفال."
ونرى هنا كيف استخدم المسيح أبسط الأشياء للتعبير عن جسده ودمه، وجعلهما تذكارًا لموته. لم يستخدم نصبًا حجريًا أو نحاسيًّا، ولكن تذكارًا من الخُبز والخمرِ. وأعلن أن الخبز يمثل جسده المكسور. فلم يكسر عظم من عظامه، ولكن جسده سحق حتى صار من الصعب تمييزه (مزمور 12:22-17؛ أشعياء 4:53-7). وكان الخمر رمزًا لدمه، مشيرًا إلى الميتة الفظيعة التي سيلقاها. صار، وهو ابن الله الكامل، تحقيقًا لنبوات العهد القديم العديدة عن الفادي (تكوين15:3؛ مزمور22؛ أشعياء53). وعندما قال: «اصْنَعُوا هَذَا لِذِكْرِيِ» (لوقا19:22)، أعلن أنَّ هذه فريضة يجب الاستمرار في القيام بها في المُستقبل.
ثالثًا- العشاء الرباني أهميته وقصده:
جاء في إقرار الإيمان الوستمنستري (فصل1:29), أنَّ الرب يسوع في الليلة التي أسلم فيها أسس فريضه العشاء الرباني لكي يمارَس في كنيسته إلى منتهى العالم, لأجل تذكره ذكرًا دائمًا, ولختم كل فوائد ذلك للمؤمنين الحقيقيين, ولتجديد إلتزاماتهم بجميع الواجبات التي له عليهم. وليكون رابطًا وعربونًا لشركتهم معه, وشركة بعضهم مع بعض, باعتبار كونهم أعضاء في الجسد الواحد (1كورنثوس27:12).
وفي هذه العبارات غايات مهمة في عشاء الرب:
(1) التذكار: لأنه يذكرنا بموت المسيح كفَّارة عنَّا (لوقا19:22), الذي هو جوهر الإيمان المسيحي (1كورنثوس3:15و 4). فهو إعلان صريح من كنيسة المسيح بموت المسيح الكفاري (روميَّة6:5-8؛ 1كورنثوس7:5). فما دامت هذه الفريضة في الكنيسة لا يمكن أنْ تنسى الكنيسة ولا العالم الذي تشهد فيه, أن الرب يسوع أخذ وظيفة حمل الله لكي يرفع خطية العالم (يوحنا29:1).
(2) الإقرار: فالمشتركون بالعشاء الرباني يقرون بإيمانهم بالمسيح مصلوبًا (1كورنثوس2:2؛ غلاطيَّة14:6), وباتكالهم عليه لنيل خلاصهم, وبقبولهم إياه سيدًا وفاديًّا, وربًا ومخلصًا (غلاطيَّة20:2). وبأنهم تلاميذه, وعليهم أن يجددوا عهد الولاء له, وأن ينذروا نذر الأمانة لذاته الإلهية, وكأنَّهم بممارسة هذه الفريضة يفرزون أنفسهم عن العالم ليصيروا كليًّا للمسيح (2كورنثوس17:6).
(3) البنيان: فهذه الفريضة ترسم للمسيحي أعظم حقائق إيمانه, وتحرك عواطفه وتزكي محبته للمسيح, وتقوي إيمانه وتذكّره بواجباته المتنوعة لربه ولكنيسته وللعالم. وتنمي فيه الفضائل المسيحية, ولا سيما المحبة الأخوية فخمد روح الخصام والنفور بين المشتركين في جسد الرب ودمه. وخصوصًا لأنَّ ممارسة العشاء الرباني ينبغي أن تقترن بتجديد العهود للمسيح ولكنيسته, فيتحرك قلب المؤمن تحركًا جديدًا في التقوى كل ما حضر مائدة الرب (1كورنثوس27:11-29).
(4) الاتحاد الأخوي: فإنَّه يجمع الكنيسة كأهل بيت واحد, أهل إيمان واحد برب واحد. وكلما اجتمع الإخوة للاشتراك فيه تسمع كلمة الله وهي تذكرهم بأن المسيح لا يستحي أن يدعوا أيًّا منهم أخًا (عبرانيين11:2). فلا فروق اجتماعية بينهم, بل أن كل واحد يحقق لإخوته أنَّه أخ في الرب ومرتبط بهم بربط حياة واحدة مشتركة في المسيح. حتى أن كل أخ في أثناء ذلك الاجتماع, وعند القيام منه, يقدر أنْ ينظر إلى وجه كل من اشترك معه في عشاء الرب, ويتحقق أنه من محبيه, لأن كل المؤمنين هم أهل بيت الله (أفسس19:2) .
(5) الإشارة إلى مائدة المستقبل: فهو يوجه أنظار المؤمنين المجتمعين حول مائدة الرب إلى الاجتماع العتيد أن يكون في ملكوت الله (لوقا15:22و 16) أو كما يُسميه المسيح «مَلَكُوتِ أَبِي» (متَّى29:26). فهو وليمة تمثل وليمة المجد التي سيعدها المسيح لمختاريه في ملكوته العتيد أن يكون, وفقًا لقوله: «وَأَنَا أَجْعَل لَكُمْ مَلَكُوتًا كَمَا جَعَلَ لِي أَبِي مَلَكُوتًا, لِتَأْكُلُوا وَتَشْرَبُوا عَلَى مَائِدَتِي فِي مَلَكُوتِي.» (لوقا29:22–30).
رابعًا- العشاء الرباني شروطه ومتطلباته:
مِن أهم متطلبات الاشتراك في عشاء الرب هو الولادة الثانيَّة، لأنَّه لا يُمكِّن لغير المؤمنين المُشاركة في عشاء الرب. وهذا يؤكِّد بأنَّ يهوذا أكل مِن الفصح (يوحنا26:13و 27) لكنه لم يأكل من العشاء الرباني الذي أسسه المسيح بعد الفصح (متَّى26:26و 27).
لهذا كتب بولس الرسول عن العشاء الرباني في رسالة كورنثوس الأولى 23:11-29. ويضيف بولس جملة غير موجودة في البشائر: «إِذاً أَيُّ مَنْ أَكَلَ هَذَا الْخُبْزَ أَوْ شَرِبَ كَأْسَ الرَّبِّ بِدُونِ اسْتِحْقَاقٍ يَكُونُ مُجْرِماً فِي جَسَدِ الرَّبِّ وَدَمِهِ. وَلَكِنْ لِيَمْتَحِنِ الإِنْسَانُ نَفْسَهُ وَهَكَذَا يَأْكُلُ مِنَ الْخُبْزِ وَيَشْرَبُ مِنَ الْكَأْسِ. لأَنَّ الَّذِي يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ بِدُونِ اسْتِحْقَاقٍ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ دَيْنُونَةً لِنَفْسِهِ غَيْرَ مُمَيِّزٍ جَسَدَ الرَّبِّ» (1كورنثوس27:11-29).
وربما نتساءل ما معنى أنْ نأكل الخبر ونشرب الكأس "بِدُونِ اسْتِحْقَاقٍ" وقد يعني ذلك عدم تقدير المعنى الحقيقي للخبز والكأس ونسيان الثمن الغالي الذي دفعه مخلصنا من أجل خلاصنا (1بطرس18:1؛ 18:3). أو قد يعني السماح بتحول التناول إلى مجرد طقس بلا روح (روميَّة11:12؛ 2كورنثوس17:3و 18)، أو التقدم إلى مائدة الرب دون الإعتراف بخطايانا (1يوحنا8:1و 9). وحسب تعليمات بولس لنا، يجب على كل واحدٍ منا أن يمتحن نفسه قبل أنْ يأكل الخبز أو يشرب الكأس.
المُستبعدين من الاشتراك في عشاء الرب، مَنْ هُم؟
(1) كل مَنْ يسقط في خطيَّة أخلاقيَّة «إن كان أحدٌ مدعوٌّ أخًا زانيًا أو طماعًا أو عابد وثن أو شتامًا أو سكيرًا أو خاطفًا أنْ لا تخالطوا ولا تؤاكلوا مثل هذا» (1كورنثوس11:5).
(2) كل مَن يسلك بلا ترتيب «ثُمَّ نوصيكم أيُّها الإخوة أنْ تتجنبوا كُلَّ أخٍ يسلك بلا ترتيب، وليس حسب التعليم الذي أخذه منَّا..فَسِمُوا هذا ولا تُخالطوه لكي يخجل! ولكن لا تحسبوه كعدوٍ بل أنذروه كأخٍ» (2تسالونيكي6:3و14- 15).
(3) كُل مَن يُعلِّم تعليمًا كاذبًا «الرجل المبتدع بعد الإنذار مرة ومرتين اعرض عنه، عالمًا أنَّ مثل هذا قد انحرف وهو يُخطئ محكومًا عليه مِن نفسه» (تيطس10:3و 11). وأيضًا يقول الرسول يوحنا: «إن كان أحد يأتيكم ولا يجيء بهذا التعليم فلا تقبلوه في البيت ولا تقولوا له سلامٌ. لأنَّ مَن يُسلِّم عليه يشترك في أعماله الشريرة» (2يوحنا10و 11).
(4) كُل مِن يصنع انشقاقًا «وأطلب إليكم أيُّها الإخوة أنْ تُلاحظوا الذين يصنعون الشقاقات والعثرات خلافًا للتعليم الذي تعلمتموه وأعرضوا عنهم. لأنَّ مثل هؤلاء لا يخدمون ربنا يسوع المسيح بل بطونهم، وبالكلام الطيب والأقوال الحسنة يخدعون قلوب السُلماء» (روميَّة17:16و 18).
خامسًا- العشاء الرباني ومعضلة يوحنا6:
هل قصد المسيح أن يأكل المؤمنون جسده ويشربون دمه حرفيًّا في يوحنا6؟ فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَأْكُلُوا جَسَدَ ابْنِ الإِنْسَانِ وَتَشْرَبُوا دَمَهُ فَلَيْسَ لَكُمْ حَيَاةٌ فِيكُمْ. مَنْ يَأْكُلُ جَسَدِي وَيَشْرَبُ دَمِي فَلَهُ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ وَأَنَا أُقِيمُهُ فِي الْيَوْمِ الأَخِيرِ. لأَنَّ جَسَدِي مَأْكَلٌ حَقٌّ وَدَمِي مَشْرَبٌ حَقٌّ. مَنْ يَأْكُلْ جَسَدِي وَيَشْرَبْ دَمِي يَثْبُتْ فِيَّ وَأَنَا فِيهِ» (يوحنا53:6-56).
وفي هذا يرى القس نصر الله زكريا في كتابه "العشاء الرباني في المفهوم الإنجيلي" الصفحات 48-50 يقول: إنَّ الكلمة المستخدمة هنا للتعبير عن الجسد تختلف عن تلك الكلمة المستخدمة للتعبير عن الجسد في (متى 26، مرقس 14، لوقا 22، 1كورنثوس 11)، فحين قال المسيح لمستمعيه: «الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنْ لَمْ تَأْكُلُوا جَسَدَ ابْنِ الإِنْسَانِ وَتَشْرَبُوا دَمَهُ فَلَيْسَ لَكُمْ حَيَاةٌ فِيكُمْ» (يوحنا53:6)، استخدم الكلمة اليونانية «ساركس»، ومعناها الحرفي هو «لحم»، بينما الكلمة اليونانية المستخدمة في الآيات الخاصة بتأسيس العشاء الرباني وممارسته، والمذكورة في (متى 26، مرقس 14، لوقا 22، 1كورنثوس 11). هي كلمة «سوما» ومعناها «جسد». وكل كلمة منهما تتفق والمناسبة الخاصة التي قيلت فيها. فلما تكلم المسيح هنا عن الخبز الحيّ، بمناسبة المن الذي أكله الإسرائيليون وماتوا، كان من الطبيعي أن يستعمل كلمة «ساركس»، أي «لحم»، على اعتبار كونه مادة مغذية مشبعة. لكنه لما تكلَّم عن فريضة العشاء الرباني بمناسبة صلبه وتركه للتلاميذ علامة يذكرون بها موته، كان من الطبيعي أن يستعمل كلمة «سوما» أي «جسد»، على اعتبار كون الجسد نظامًا آليًّا مركبًا من أعضاء، وقد كسر بالموت على الصليب.
وهذا ما تؤيده كلمات عوض سمعان في كتابه "العشاء الرباني" صفحة 43 "ولذلك نرى في الترجمة الإنجليزية (مثلاً) أن كلمة «جسد» الواردة في (يوحنا 6) هي «flesh أي لحم»، بينما الواردة في الإصحاحات الخاصة بتأسيس العشاء الرباني وممارسته هي «body أي جسد». ولذلك فمن المستبعد أن يكون حديث المسيح الوارد في (يوحنا 6) عن وجوب التغذي بجسده ودمه، خاصًا بالعشاء الرباني"
سادسًا- العشاء الرباني وتوقيت ممارسته:
في هذا كتب جون كالفن في كتابه "مقالة قصيرة عن العشاء المقدس" صفحتي34-35 يقول: "أما مسألة وقت استعمال العشاء، فليس ثمة قاعدة ملزمة للجميع، ولكن إذا تمعنا في الغاية التي قصدها الرب من العشاء يجب أن ندرك بأن استعماله ينبغي أن يكون أكثر مما يفعل بعض الناس، لذا يجب أن نُثبِّت العادة في كل الكنائس لممارسة العشاء بالكثرة التي تسمح بها قدرة الشعب، وعلى كل فردٍ في موقعه أن يعدَّ نفسه لتناوله عند ممارسته في الجماعة العابدة."
يتفق الباحث مع رأي جون كالفن في أنَّه تحت ظروف معينة وفي بلاد لا تسمح بالعبادة إلاَّ في أوقات معينة لذا تكون ممارسة عشاء الرب بحسب "قدرة الشعب"، ولكن يُفضِّل الباحث أنَّ تكون ممارسة عشاء الرب في البلاد التي فيها حُريَّة عبادة في أوَّل كُل أسبوع (أي كُل يوم أحد) وذلك بحسب النص الكتابي الوارد في أعمال7:20 حيث يقول المؤرخ الإلهي: «وَفِي أوَّل الأسْبُوع إِذ كَانَ التَلاميذ مُجتمعين لِيَكْسِّرُوا خُبزًا». فحرف اللام الوارد في كلمة "لــــيكسروا" توضح الغرض من اجتماعهم معًا في أوَّل الأسبوع.